designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Saturday, April 19, 2008

غضب.. غضب.. غضب


دولة تعتقل 15 من زهرة شبابها، بينهم ناشر شاب متميز وشاعر شاب فاز بالجائزة الأولى في الشعر العامي على مستوى مصر، وفتاة كل ذنبها إنها دعت لإضراب سلمي.

دولة تصادر كتابين، رواية مصورة نالت تقدير عربي وعالمي وكتاب نصوص عنوانه "علشان ما تتضربش على قفاك".

دولة تطلق قواتها الرصاص الحي على مواطنيها.

دولة إذا تظاهرت سلميًا فوق سلالم نقابة الصحافيين مزقت ملابس نسائك، وإذا كسرت وحرقت ونهبت ودست على صورة رئيس جمهوريتها بالأقدام فسوف تعطيك مكافأة شهر أو شهرين.

ماذا فعلت إسراء عبد الفتاح، الفتاة الشابة بلا أية خلفية سياسية، لكي يُقبض عليها، وعندما يُفرج عنها تعتقل؟!!

ما الذي فعلته شابة لتُعاملها بلدها بمثل هذه الخسة والوحشية؟!

هل سرقت؟! هل عملت بالدعارة؟! هل وزعت مبيدات مسرطنة؟! هل تعاملت مع إسرائيل؟!

هل تخاف دولتنا المجيدة، نظامنا القوي، حكومتنا العظيمة، أمننا الأسطوري، هل يخافون جميعًا من فتاة مثل إسراء عبد الفتاح؟!

هل هذا معقول؟!

هل يُصدق أن يعتقل الأمن رامي يحيى لأنه حمل بالونات مكتوب عليها "نظيف نظيف نظيف.. والله باتكلم عن جيبي"؟!

هل يصدق أن يُصادر الأمن رواية مترو لأنها قدمت رسوم لمظاهرات؟!

هل من المفترض أن أُصدق أن هؤلاء الشباب والفنانون سيحرقون مصر؟!

ما هذا اللوثة التي أصابت نظام مصر؟!

يا سيادة رئيس الجمهورية، يا سيادة وزير الداخلية، يا أيها السادة القائمون على أمن مصر: مصر تغلي. مصر ليست في حاجة لمثل هذه الأفعال. مصر على شفا حفرة من نار ستلتهم الصالح والطالح. اعتقال بضعة عشر شابًا ومصادرة كتابين وإطلاق الرصاص المطاطي والحي على غاضبي المحلة لن يحل شيئًا.

أعلم أنني أبله لأكتب مثل هذه السطور، وأعلم أنني أبله أكثر وأكثر لكي أفاجئ بسلوك نظام مصر الحاكم في عهد مبارك ومن قبل عهد مبارك، ملايين المظالم مذ عشرات السنين ولا شيء يتغير..

ولكنني لا استطيع سوى أن أكتب ذلك: يا سادة مصر، أرى انفجار قادم لو حدث فستتحملون أنتم تبعاته، وستكونون انتم مُفجريه، وسنكون جميعًا، جميعًا، جميعًا ضحاياه.

خطاب من رامي يحيى

لم أعرف أن رامي يحيى قد أعتقل في أحداث الإضراب إلا مذ ساعات قليلة...

قابلت جانيت – زوجة رامي- فأوسعتني لومًا وهمست لها بلوم. لامتني أن لم أتصل وهمست لها بلومي لذات السبب. قلت لها أني حاولت الاتصال برامي في كثير من المرات خلال الأسبوع المنصرم وكان الهاتف مغلقًا. أصرت على انه مفتوح دائمًا فأريتها سجل مكالمات هاتفي ببساطة. عيب من الشبكة أو فصل لشحن الهاتف. تألمت قليلًا من حدة طفيفة في كلامها ولكنني قدرت ما تعانيه.

أخذت منها وريقات قليلة كتبها رامي من محبسه، نسي هو كلمة السر لبلوجه فطلب منها أن يُنشر ما كتبه لدى أيّ من الأصدقاء.

وهذا هو نص كلماته الحرفي دون تعديل مني على الإطلاق:

"كلامي المرة دي مش كاتبه على أي رصيف من أرصفة القاهرة كالعادة إنما من جوه عنبر 2 ج مخدرات بسجن المرج. يوم الأحد 6|4 نزلت – زي ما أعلنت ودعتكم- لميدان التحرير ماسك أيد حبيبتي وبالأيد التانية بالونتي، بس واضح أن الأتنين ما عجبوش الأمن ف فرقعوا البالونة وفرقوا بيني وبين حبيبتي

جوه علبة صفيح مصرية بتدعي أنها عربية ترحيلات أتحدفت زي شباب كتير لقيتهم جواها أو أتحدفوا ورايا، فيهم اللي أعرفه وفيهم العكس بس بسرعة بدأت أتعرف على شاب غريب اسمه محمد فريد، العربية اتحركت تلف شوارع القاهرة واحنا بنهتف ونغني ونتعرف ونتدحرج على بعض بفضل القائد اللعين. وصلنا معسكر الأمن المركزي ف طرة أحتجزونا هناك حوالي ساعة قابلنا فيها محتجزين واحد منهم هو د|مجدي حسين، رجعونا تاني العربية، في الطريق سابوا شاب بيقول أنه صحفي في جريدة المصري اليوم، وكملت دوران بينا لغاية ما وصلنا لمعسكر تاني بس ف الدراسة

في الدراسة أتعرضنا على مجموعة من ظباط أمن الدولة الجبناء اللي حققوا معانا وسط حشد من العساكر عصيانهم متحفزلنا وقلوبهم معانا، ورغم كترهم وقلة عددنا إلا أن ظباط أمن الدولة خافوا يواجهونا ف أمروا العساكر بتعصيب عنين قبل العرض عليهم واللي رفض يلبس العصابة رفضوا استجوابه وفي الأخر أحتاروا مننا 15 شخص رجعوهم العربية وجابوا علينا 3 أفراد جداد

وصلنا قسم قصر النيل أنضم علينا هناك 3 أشخاص تاني ف وصل عددنا لـ27. تم أحتجازنا في مساحة فاضية بين زنازين الأحتجاز لغاية ما صُبيان المأمور يسجلوا اسامينا في محضر سابق التجهيز قبل ما جنابه يمضي عليه، كان معايا في المجموعة عدد من الشباب أعرفهم قبل كده

1- بهاء صابر| 2- شادي العدل| 3- محمد عواد| 4- وليد صلاح| بس مش عارف ليه أنجذبت لفتحي. في الفترة كانت المجموعة بتتكون من 2 غير مسيسين والباقي عُد على كفاية

نقلونا لنيابة قصر النيل – نيابة مسائية- لقينا هناك كمان 4 بنات بنفس المحضر، 2 افرجت عنهم النيابة لأن فيهم واحدة مصرية-أمريكية والتانية معاها أما باقي الناس فأمرت النيابة بأن يعرضوا باكر- الـ23 رجل ونادية مبروك وإسراء عبد الفتاح-.قضينا الليلة في حجز ترحيلات الخليفة وهناك أتبرأ مجموعة من أعضاء كفاية من هذا الأنتماء وأعلنوا أنهم قيادات وكوادر بحزب العمل المنحل – أحدهم سائق أ. مجدي حسين-

الصبح ف النيابة ما تمش عرضنا على حد فِضِلِّنا في العربية تحت وفجأة قرروا يتحركوا بالعربية أهالينا وأصدقائنا حاولوا يمنعوها من الحركة إلا أن عساكر الأمن المركزي قدرت تفتح لها الطريق وشفت من حديد العربية حبيبتي وهي بتضرب وتتسحل مع بقية الناس وفي نفس الوقت نجحت العربية تتحرك من غير ما أي حد يعرف هي رايحة فين أو حتى قرار النيابة إيه

العربية لفت بينا كتير جدًا المرة دي لدرجة أنها وصلت طريق مصر- إسماعيلية الصحراوي وأخيرًا حطت العربية رحالها بسجن المرج نزلنا أنا وفتحي ف نفس الكلبش ولما اتحجزنا كلنا ف عنبر واحد اختارنا أنا وفتحي تكون سرايرنا جنب بعض

نمنا كلنا وسط جحافل الناموس المهجن مع طيارات اباتشي صحينا على دخول محمد الشرقاوي والمهندس| محمد الأشقر وعرفنا منهم إن الأمن أفرج عن د. مجدي حسين

مساوئ الحبسة ظهرت فورًا.. الناموس المرعب ليل ونهار الزنزانة ما بتتفتحش إلا لدخول أكل السجن الرديء فأتحرم جسمنا من الشمس لما جلدنا نسي ملمسها وأخيرًا كريزة التورتة أعضاء حزب العمل بقى عندنا جامع جوه الزنزانة فيه أدان وإقامة رغم أن صوت بيوصل الزنزانة بوضوح.. وبعد الصلاة مقرأة وبعدها درس وبعده تعليم تجويد و...... إلخ

خلال ندوة الزنزانة كلمنا فيها د.مجدي قرقر عن الإسلام السياسي قدم لينا حزب العمل كنموذج، ومع الأسئلة والمداخلات أقر حد الردة على من يخرج عن الدين وينتقضه.

ومع أول جمعة ألقى الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن لطفي- على حد قوله- ألقى خطبة قصيرة لا تتجاوز 4|1 ساعة كفر خلالها كل خلق الله إلا هو وكل مسلم ملتزم ويعمل على تحويل مصر لدولة تحكمها الشريعة ووصف المسلم الملتزم بفروض الله ثم يعمل على تحقيق دولة مدنية وصفه بالفاسق، ثم أخرجه أصلًا عن الملة في حوار جانبي مع شادي العدل

في تالت يوم هنا وصل لنا الناشط العجوز في حركة كفاية عم| فتحي الحفناوي ومع د. سامي فرنسيس والأخير هو الهجب العُجاب شخصيًا فهو زي ما واضح من اسمه مسيحي لكنه قدم نفسه كعضو في حزب العمل وفي ذات الوقت شيوعي وناشط في حركة كفاية ويساند الإخوان المسلمين وصلي على رسول الله

ده كان ملخص الأحداث من صباح الأحد 6|4|2008 حتى فجر الخميس 16|4|2008

في النهاية شكرًا لكل إنسان وقف جنبي ولو بالسؤال

بدون ترتيب

أ. جميلة إسماعيل| أ. بثينة كامل| الفنانة فيروز كراوية| رهام قبطان| ألآن| حازم| أ. رشا طاهر| لؤي| نبيل أحمد مهران| أحمد ليبتون| أسامة تكعيبة| طاهر فتحي| صفا| محمد عبد الرحيم| أيمن فتحي| محمد فريد| أشرف ماضي| شرف| أحمد عبد النعيم| عاصم عبد الغفار| ميدو زهير| هيثم عبيد| عماد مبارك| مها مبارك| أ. سيدة المحامية| أصدقائي بأسوان الجميلة| كما أخص بالشكر أختي القوية غادة

ونصفي الرائع مقاتلتي الجميلة جانيت عبد العليم

من عنبر 2 ج مخدرات

بـ سجن المرج

رامي يحيى

الخميس 17|4|2008"

Friday, April 18, 2008

إنجيل آدم: دراسة


بعثت لي د. أماني فؤاد بتلك الدراسة البديعة مما يقرب على شهرين، وكعادتي لم انشرها، كديدني بخصوص أي مواد تخص نقد أو المتابعة الصحفية لكتبي – إلا فيما ندر- ولكنني، وأخيرًا، ارتأيت إشراك الأصدقاء والمهتمين بتحليل د.أماني الرائق، الذي طالعته قارئًا محايدًا كما أحاول دائمًا، ولكن ألمعية ملاحظات بعينها في تحليلها استفزت الكاتب داخلي، وجعلته يبتسم باعجاب في كثير من المرات.

في النهاية اشكر د. أماني فؤاد على جهدها الوافر ووقتها الثمين الذي خصصت منه قدرًا لا يستهان به في قراءة وتحليل هذا العمل.

********************************************************

الذوات الافتراضية والبنية في رواية ما بعد الحداثة

د. أماني فؤاد

**********************

يكتب الروائي محمد علاء الدين ذاتاً إنسانية واحدة، ومنها يُخرج لعبة من الافتراضات المحتملة لذوات متعددة ، ذوات يدور بينها صراع أزلي ، تتحكم فيها غرائزها وشهواتها، أطماعها ونزواتها ، ورغبتها في التميز والظهور، ذوات من الممكن أن تتكرر في كل زمان ومكان، ولذا يكتب إنجيل جديداً لآدم يرى فيه أن الإنسان هو الكيان الأول والأهم في هذا الوجود، هو الإله وهو كل هذا المتعدد من الأشكال والأهواء البشرية المتباينة، هو الإرادة العليا وفيه ينطوي العالم الأكبر.

من مشهد آني شبقي، يمكننا أن نصفه بقدرته على التكرار، داعياً إلى الملل، يبدأ الكاتب روايته " إنجيل آدم" ليخرج لنا من ذات واحدة " الجاهل الجرىء الأحمق" أطرافاً متعددة ممكنة تخلق صراعاً أزلياً وقائماً إلى ما لانهاية .

ويهيىء المبدع لرؤيته الفكرية بنية فنية ، وتشكيلاً متعدد المستويات، فالعمل يتدرج إلى مراحل وتحولات ثلاثة ليعود إلى نفس نقطة البداية ، يبدأ من اللحظة الراهنة وقت كتابة العمل (2006م) في ميدان بوسط مدينة القاهرة ، يحرك فيه الروائي عينة بشرية لينسج أطراف صراع بين مجموعة من مختلفي الأهواء، تُحركهم شهواتهم الغريزية ورغبتهم في التحقق والصعود والشهرة ، أو نزعاتهم السادية ورغبتهم في التحكم بالبشر ، العينة البشرية ممثلة في (الجاهل الجرىء المهزوم) ، (الجاهل الجرىء السوقي)،( الفنان المرهف التشكيلي) ، (الفنان البوهيمي) ،( الكهل المحترم )،( الضابط الباشا)، (التاجر )، (الميكانيكي الأصلع )، (الضابط الوزير)،(ضابط المباحث) ،( الفتاة) ، (السيدة الأربعينية).

نفس هذه العينية البشرية تنتقل انتقالة – مباغتة – متكئة على تقنية الحلم إلى عصور تاريخية زمنية متداخلة مضت ، وفيها يلعب الروائي لعبة التداخل جامعاً الأديان الرئيسية في مرحلة اللاهوت الإنساني ، في نفس أشخاص العينة السابقة، بعد أن يأخذ كل منهم دوراً جديداً ملائماً لتلك المرحلة الزمنية والطبيعية الصحرواية المختلفة.

ويدور ذات الصراع البشري، والدوافع التي لاتختلف كثيراً: تحقيق الشهوات الجسدية، ورغبات الإنسان الإله الذي له قدرة تشكيل هذا الوجود بإرادته وعقله، قدرة تهيئة الحياة لتناسب أغراضه واحتياجاته الفسيولوجية والسيكولوجية، الإنسان في تلك المرحلة في مقام "كن"، قادر عن الخلق والفناء، ثم عودة مرة أخرى إلى نقطة البداية ، لتستمر دورات هذه الحياة ، وتستمر إرادة هذا الكائن البشري الذي لا يتملكه يأس في قدراته أو إرادته، بنهاية تدعو إلى الاستمرار والمحاولة، وعدم الكف عن أن يكون ذاته كما جبل ، يقول الأحمق الأول " لـقد كنت أناس آخرين ولكنني لم أَخُزْ الفتاة بارزة الصدر لينة المؤخرة. سأكلمها ولن أكون إما قوياً أو ضعيفاً ، وهي لن تكون إما طاهرة أو داعرة . خطوت سريعاً عائداً إلى حيث مكانها . قلت لنفسي لابد وأن أكون أنا ولا أحد غيري . ولابد أن تكون هي ولا أحد غيرها." (ص60).

تتكئ رواية " إنجيل آدم" على جدْلٍ متداخل لانتقاءات من قصص الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام ، مع الاعتماد على المقولات الأساسية التي تعالجها الأديان وتخص الإنسان وغرائزه وعلاقاته بهذا الوجود ، وهي بهذا تعتمد على بنية شكلية ما قبل الروائية، فهي على عكس الرواية الواقعية لاتهتم بالحقيقة الاجتماعية وغير معنية ببنية أدبية نفسية أو أسطورية أو رمزية خالصة ، البنية في هذه الرواية تخضع لفوضى منظمة، فهي تبدأ بتصور خليط مجتمعي محدود على نحو معاصر ثم تتخيل تشكله بنفس طبيعة النماذج فيه، في مجتمع آخر وطبيعة أخرى ، وانتقالة زمانية ومكانية أخرى.

تعتمد البنية هنا على وهم متخيل في المرحلة الأولى من الرواية بتلك البنية الافتراضية من الشخوص التي تخضع للاحتمالية وفي المرحلة الثانية تعتمد على تلك التحولات التي جعلت نفس الشخوص في مكان وزمان آخر ، لكن تحكمهم نفس الغرائز والنوازع البشرية ، في المرحلة الثالثة تعتمد على التحول الذي حدث لشخصية " الجاهل الجرىء المهزوم " وقدرته على أن يصبح الإله لإنسان في آن واحد ،يتحكم في تشكيل هذا الوجود. هذا الشكل الذي تتكون فيه الحكايات وتبدل إحداها الأخرى ، لا يأتي مجانياً، لكنه يأتي وفق رؤية فكرية.

- يلعب محمد علاء الدين بالخطاب الروائي لعبة فوضوية لكنها مدروسة ومبيت لها ، فهو على قدر افترضاته واحتمالاته التي تبدو كتداعيات عشوائية في النماذج التي تشكل عناصر روايته ، وعلى قدر إبداعه في تشكيل وبلورة رؤية لحياة الإنسان ثم تحويل هذه الرؤية لسياق زمني مكاني تاريخي مخالف،نراه لا يسعى لإعلاء قيم محددة أو تحمل مسئولية تغيير معّين للأشياء أو للأشخاص ، فهو لايحمل على كاهله سوى تشكيل لعبة إبداعية ذات وجود خاص بها، لايعنيه مردودها الأخلاقي، أو مناقشة طبقة أو جماعة من البشر بأعينهم ، إنها لا تتبنى سوى تشكلها وتقديمها لتصور أكثر ما يميزه هو الجدة والابتكار وتكوين عناصر بإمكانها أن تكون محاوراً وصراعاً.

- ويناقش الكاتب من خلال عمله ودون أدنى افتعال أو خروج عن سياق نصه الأصلي العديد من المقولات الفكرية الكبرى، والمقولات النفسية الإنسانية، وتأتي في معرض قصة دون زج بها أو تزيد، يقول على لسان النبي " ولكنني عندما توقفت عن الشك أيقنت أني تحولت إلى النبي حقاً" (ص34)،أو قول البوهيمي واصفاً حال هذا النبي " كنت سيداً لأن الناس شياهٌ " (ص36) ويشير الروائي إلى عقدة القضيب التي تحدث عنها فرويد في معرض تفسيره لسحاقية الأربعينية يقول:" كنت أنا الرجال أخيراً " (ص39) أو قول الأربعينية : "ستحب العاهرة من يشعرها بأنها إنسان يستحق العطف والرقة" (ص40).

كما يشير إلى عقدة أوديب في حديثه عن رغبة النبي " الفنان المرهف" في أمة الأربعينية .

وبالرغم من البنية السابقة التي تعتمد على الرمز أو التوغل في التأويلات المتعددة ، فقد تعامل الكاتب مع مادته القصصية الخام تعاملاً مباشراً لا غموض فيه ، فكل قارئ يمكنه أن يلمس أن المبدع يحاور التصورات الإنسانية الكبرى بهذا الوجود الإنساني ومقولاته، فهو لا يلجأ إلى رمز غامض أو متعدد المستويات، لكن المستوى الرمزي هنا محدود ويمكن فك مغاليقه بقليل من الجهد الفكري ، وتنبىء السطور بالرواية عما تريد الإفصاح عنه، فهو لايتعمد غموض لأنه يقدم رؤية فنية فكرية تعتمد الوهم أو التخيل، تضاهيها بنية افتراضية تعتمد أيضاً الوهم أو الحلم.

" الإله قد يكون هو الإنسان" (ص53) ، السيدة الأربعينية قد تكون هي السيدة العذراء (ص48) ، قصة قتل النبي مزيج من قتل سيدنا عيسى ومحاولة اغتيال الرسول الكريم (ص49) الجنة "فوق الجبل " (ص57) ، قصة قابيل وهابيل الأخوان اللذان تباريا (ص57)، الفتاة بارزة النهد قد تكون هي الفتاة التي تزوجها سيدنا موسى ، قصة ولادة النبي قد تشير إلى ولادة سيدنا المسيح.

ربما يلمح الكاتب من خلال هذه البنية إلى أفكار من نوعية تناسخ الأرواح ، والحلول النفسي والعقلي والجسدي ، كما يشير الكاتب إلى قصص خلق العالم والمراحل التي مر بها الخلق، يقول على لسان الإنسان الذي صور نفسه إلهاً " كتاب الحياة مسطور لدي وأنا من أرجعت الأقدار لهم ، ليس بهم صالح إلا لغرض ومنفعة ومللت منهم ولا بد أن أفارقهم ملياً، رأيت فيهم الشر من قبل رؤيتك هذا العالم فاصمتي " (ص58).

يناقش المؤلف قضايا من قبيل الجبر والاختيار، وحدود قدرات الآلهه، يقول على لسان أخته التي صارت امرأته قالت لي :" مادمت تعلم كتاب الحياة مقدماً ، إذن لم لا تأخذ صالحيهم بجورانا الآن وننهي المسألة؟ " (ص59) أو قولها :" أي عبث هذا إن كنت تعلم أنت كل شيء من البداية ؟ " (60).

لا يكترث الروائي بأي تابوه جنسي أو ديني، في حين أنه لم يقترب كثيراً من السياسي، والمعالجات الجنسية لديه ترصد المجاوزات تبرز الشذوذ كعلاقة الميكانيكي بالصبْية (ص13) أو العلاقة السحاقية بين الأربعينية والفتاة بارزة الصدر لينة المؤخرة (ص39) أو زواجه بعدما أصبح إلهاً من أخته (ص54)، وهو في ذلك يتعامل مع الإنسان في طبيعته الأولى البدائية، قبل أن توضع له شرائع أو أعراف اجتماعية ، الإنسان بغرائزه الفطرية التي تتعامل مع حيوانيته ، هذه الفوضى الجنسية تنسحب أيضاً على الأفكار والمعتقدات الدينية فهو يعبث في تشكيل حياة الأنبياء جميعاً فنجد أصداء واقتباسات من حياة كل نبي " موسى ، داود ، عيسى ، محمد " في شخصية النبي الذي أصبح بعد أن كان "الفنان التشكيلي مرهف الحس" في الجزء الأول من الرواية، وهي فوضى في البنية الفكرية لكنها فوضى مقصودة لتبيان رؤية خاصة تعيد تشكيل إنجيل جديد للإنسان بهذا الوجود ، إنجيل يجعل الإنسان إلها لهذا الكون مبتداه ومنتهاه عقله الذي به صاغ هذا العالم ، مُبْرِزاً فيه كل المتناقضات وكل الشهوات شهوة الجسد ، شهوة السيطرة والأمتلاك والتحكم، شهوة الفخر والظهور هكذا يعيد المؤلف صياغة قصة خلق جديدة لهذا الوجود الكوني وفيه ينقل الروائي مركز هذا الوجود من المتعالي المغاير ،إلى الإنسان بكل احتياجاته البشرية ، الأنثى الرقيقة، الرغبة في التحقق والحب ، حاجة الإنسان إلى الأرض والأسماء ، البحار والأنهار ، تعايش المتناقضات : الحب والكره ، الفرح والحزن ، الألوان ، الخوف والأطمئنان ، ينقل الروائي الجنة التي صورت في الأديان في السماء إلى جبل فوق ذات الأرض على لسان الإنسان الإله يقول:" كنت لــــــهم الإنسان الأول الذي من عقله خرجت الأشـياء جميعها" (ص55).

يعتمد السرد في رواية " إنجيل آدم" على الإضافات الافتراضية ، وكل إضافة يفترض الروائي فيها الروائي شخصية إنسانية جديدة ، يعطي من خلالها دفعة في القص ، دفعة للتقدم ،الفني ومن ثم خيطاً من الخيوط الواهنة الاحتمالية التي تشكل هذا الصراع "الافتراضي الوهمي – الحقيقي الواقعي" بهذا العمل الفني ، وهي تشابكات متقاطعة تقدم نموذجاً تصورياً عن طبيعة وأفراد تكوين تجمع بشري مصغر يقول السارد :" أنا الجاهل الجرئ خبير المضاجعة، وكل ليلة عندي محلاة بنهود...، الألوان مزيج من السمني والفستقي في تناغم مريح للأعصاب لا يفسده المسطح الأحمر الصغير لعلبة " المارلبورو". مثل هذا التخيل يوحي بفنان تشكيلي مرهف الحس يتعامل مع النساء والطعام والشراب برفق ...،أو ربما أكون فناناً بوهيمياً قاسياً، أصفعها ...، يمكنني أيضاً أن أكون سعيداً إن عدت فناناً تشكيلاً مرهفاً لأتذوقها..." (ص11.10) . يوفر الروائي لعمله ، تقنية سرد تقترب من تقنية تعدد الأصوات ، لكنها أيضاً تختلف عنها ، القص كما ذكرت سابقاً افتراضياً لكن المبدع يجعل كل شخصية تتحدث عن نفسها، ولذا يصبح القارئ دائماً في منطقة حائرة وغائمة بين درجة الصدق والبوح المباشر ، الذي يوفره حديث كل شخصية عن نفسها، وبين تقنية الاحتمالية أو الافتراضية يقول:" كباشا ظالم تحول إلى سيد غليظ الرقبة للمدينة راقبتهم ، عرضت الأربعينية تدبير مكان للرجال يتجمعون فيه إلى حين الميعاد المحدد ...كجرىء جاهل مهزوم سألت النبي أن يمن على باسم آخر غير المهزوم " (ص44). هناك دائماً افتراض شخصية ثم لا تلبث أن تتحدث بضمير أنا المتكلم.

يلاحظ أيضاً أن الصوت الذي يأخذ فرصة البوح والحديث عن نفسه لا يستغرق قصة أكثر من سطور محددة لا تتعدى عشرة أو خمسة عشر سطراً ،وهي مساحة لا توفر تعمقاً في الداخل الإنساني، ولا تتيح سوى عرض لصراعات خارجية بين أفراد هذا التكوين البشري الافتراضي وهنا قد يتساءل القارئ كيف نجح الكاتب في تخطي عقبة تلك الانتقالات المتكررة السريعة بين الشخصيات المتفرعة وحديثها عن نفسها؟!

لقد تعامل الروائي مع تلك الانتقالات باستخدامات لغوية تبدو بسيطة للغاية مثل قــوله:

" أنا كالضابط الصارم فكرت أنه حان وقت الانتقام، سأكون وزيراً لداخلية يملأ فضاء الغرف بطوله وعرضه " (ص25.24) ثم يهيىء المشهد والمنظر الذي ستتحرك فيه هذه الشخصية الجديدة فنجده يقول:" لأنني أنا الوزير وهو المتهم الذي سيرمي في جب بلا زمن بتليفون صغير مني ..لا..من العاملين بمكتبي . نظرت حولي فإذبي في مكتب فخم ضخم وأمامي الضابط الصغير الذي هو أخي فتنازلت قائماً وسرت إليه لأصفعه مرتين على وجهه ولأحوله إلى ماكانه من جاهل جرئ مهزوم لأنه لا يستحق شرف ارتداء هذه البذلة أشرت بيدي فاختفى وفرغت للفتاة بارزة الصدر...،التي تقف أمامي بملاءتها الحمراء فأمراتها بخلعها.. فقط أمرت جسدها ألا يكون مشعراً.."(ص25).

أتصور أن الروائي تغلب على صعوبة هذه الانتقالات بين الشخصيات عن طريق وسيلتين أولهما رؤيته العامة للإنسان في هذه الرواية ، فهو يرى رؤية فنية في هذا العمل أن الإنسان، كل الإنسان كيان واحد يمكنه أن يكون كل هذا المتعدد ويظل في النهاية واحداً ، خامه واحدة ولها أن تأخذ عدداً من الأشكال مهما اختلفت الأزمان والأماكن ، كما أن الإنسان بتلك الرؤية قادراً أن يقول للأمر كن فيكن ، هذه الرؤية تعطي الإنسان إمكانات غير محدودة، وتعلى من قدراته منذ بدء الخليقة على تشكيل هذا العالم.

ثاني الوسائل أن الروائي يستخدم كاف التشبيه في أغلب الانتقالات من شخصية إلى أخرى ويتوسل بإضافة بعض التعبيرات البسيطة - التي تتيح له تمريرة سريعة- إضافة بعض الصفات الجامعة والمختصرة في ذات الوقت كقــــــوله :" كضابط صارم وسيد للإبداع المطلق" (ص22). أو قوله :" أنا كاهل جرىء مهزوم جعلت نفسي أتجسد ثانية في فضاء الغرفة الفاخرة" (ص25).

يحسب للروائي تلك القدرة التركيبية المبهرة ، وهذه التقنية الذي جعلها بوسائله البسيطة تحد من درجة الفوضى والتخبط اللتين يمكن أن يستشعرهما المتلقي من جراء كل هذا التعدد المنبثق من واحد ، يسعى الروائي في اختياره لتلك التقنيات أن يقدم فعل الكتابة كنوع من اللعب التجريبي الذي يتوافق شكلاً مع الرؤية المقدمة بهذه الرواية.

يقول مفتتح الرواية :" عين الشمس تنظر نظرة ثاقبة إلى الشارع ، تنهمر سياطها على رؤوس المارة وظهورهم ، العرق اللزج ينساب على جبهتي وأنا أمشي بتؤدة محتمياً بظلال العمارات عن يميني . منفتح أمامي الميدان العريض بعد خطوات قليلة ووجهه يلمع من عرق هو الآخر " (ص9).

في تلك الصياغة يمكننا أن نلاحظ أن هناك تضافراً لعدد من الألفاظ التي تعطي إحساساً ما بزمن بطىء أو زمن لا مُبالٍ، فالسارد يتعمد نوعاً من الحيادية إزاء نوع من القص يخوض صراعاً مع بلادة وسخافة هذه المشاهد العادية المتكررة، ويبدو أن الكاتب لا يحمل حساسية ما إزاء بعض المعايير الفنية المتوافرة والمتعارف عليها بالرواية فهو لا يستبدل معايير بأخرى شأن الحداثيين ، لكنه كمن يستعرض كل المعايير كلاسيكية أو حداثية ليوظفها في عمله ، نستطيع أن نزعم أن الرواية بها خليط من تقنيات التعامل مع الزمن – وللفنان الحرية المطلقة في اختيار ما يوظفه- مما يسمح لنا أن نصف هذا العمل بأنه ذو زمن دائري فهو يبدأ بمشهد في منتصف النهار وفي مكان محدد ميدان بمنتصف البلد ، وتجتاز الرواية بمراحلها الثلاث أزمنة سحيقة أو أزمنة مستقبلية ويموت الزمن ويفنى ، ثم يحيا مرة أخرى لنجد أنفسنا في ذات المشهد الأول ، لقد خضنا مع السارد حلماً أعادنا فيه لنفس عين الشمس التي بدأنا بها العمل ، يمكننا أيضاً أن نصف تعامل الكاتب مع الزمن بأنه خاضع للعبة وهمية خرافية تحمل في أذيالها عين الحقيقة ، لكنها الحقيقة الممتدة في الدهور المتعاقبة.

حين نتعامل مع طبيعة هذه الأعمال الروائية لنا أن نزيح مجموعة التقاليد في هذا المجال جانباً، نحن لا نحرقها أو نغلق فوقها الصناديق الخشبية ، لكنا نصنع معها تكييفاً معرفياً وجمالياً أكثر اتساعاً وأكثر خروجاً على المعايير - لا رفضها - و عدم الاعتراف بالحدود الموضوعة سلفاً والتعامل معها في ذات الوقت وذلك ماشَكَّل هذه الفوضى الجميلة التي أتحدث عنها.

يمكننا أيضاً أن نصف الزمن في تلك الرواية بالزمن المستمر أو السائر في خط مستقيم على الدوام ، وهنا سيبدو الإيقاع بالرواية إيقاعاً سريعاً لاهثاً، إذا تخيلنا أو تأولنا أن هذه نماذج الرواية مهما اختلفت الأزمان والأمكنة متكررة إلى مالانهاية ،وهو ما توحي به الرواية في أحد تأويلاتها لكن الملاحظ أن تقنية الزمن المستخدم بالرواية تبتعد عن الزمن الداخلي الخاص بالأفراد وهو أحد سمات ما بعد الحداثة في تعاملها مع الزمن ، ومن شأن الروائي المبدع أن يعرض التقنيات التي تناسب رؤيته الفكرية الفنية وهذا ما نجده في "إنجيل آدم".

تتنوع الأماكن برواية " إنجيل آدم" فنرى الميدان في مدينة حديثة ، أو نرى الصحراء الشاسعة ، أو نرى استواء الإله على عرش الماء أو فوق الجبل .نرى شقة الفنان البوهيمي ذات الباركية البني اللامع ، أو غرف التحقيق" المستنسخة بطول البلد وعرضها " (ص21).

الإماكن على اتساعها بالرواية تبدو عنصراً حيادياً إزاء طبيعة الصراع الإنساني بالرواية ، فهي تعد مجرد ديكور ، خلفيات متحركة، وهي إن تعددت تظل وعاءً يحمل نفس الغرائز والشهوات البشرية.

نلاحظ أيضاً أنه نتيجة لثقل الخط الشبقي وتفعيل الغرائز الإنسانية بالرواية، لم يقتصر تفعيل الممارسات الجنسية على الاماكن المغلقة أو الغرف الخاصة، بل تجاوزتها إلى السينيما ، إلى ورش الميكانكا إلى الميادين أو في الصحراء ، وهنا تختفي الأبواب والنوافذ ويظل ، الحدث أو الصراع الأساسي دون غطاء مما يقدم كسراً ملحوظاً لتقاليد التعامل مع المكان وتهميشه إن صح هذا التعبير ، يبدو المكان في " إنجيل آدم" معزولاً عن الفعل لأننا لسنا بصدد ظواهر تعد إنعكاساً شاملاً للواقع ، نحن بصدد صراع الإنسان في هذا الوجود.

** ذات" الكل في واحد"

تتنوع الشخصيات برواية " إنجيل آدم " ولذا نرى نماذج من أمثال " الجاهل الجرىء المهزوم ، الجاهل الجرىء السوقي ، الفنان التشكيلي المرهف، الفنان البوهيمي ، الميكانيكي الأصلع، الكهل المحترم ، الضابط الباشا الصارم ، الضابط ، السيدة الأربعينية البيضاء ، الفتاة بارزة الصدر بلدية المؤخرة ولينتها.

تناولت الرواية كل هذه الشخصيات بشكل تصوري عام يصور نوازعها، غرائزها الأساسية في طبيعتها الفطرية المجبولة ولم تَنُصْ المعالجة في الداخل النفسي لكل شخصية ، فهي لم تفرد دراسة رأسية لأحدى الشخصيات أو حتى نماذج منها بافتراض إن هذه الشخوص تشكل عينة صغيرة تنسحب على مجموعات متعددة من الأفراد.

وتقدم الرواية شخوصها بصفات أساسية جوهرية في الشخص ، صفات ليست وحيدة لكنها الأوضح، والتي تسم كل شخصية بسمات متميزة ، وكلهم دون أسماء محددة ، فهم متكررون وأن تعددت أشكالهم على مر التاريخ البشري ، في كل مجتمع صغير أو كبير فتكون طريقة التقديم الجاهل الجرئ السوقي، أو الفنان التشكيلي المرهف ، أو الفتاة بارزة الصدر، الجديد بالرواية هذه التحولات بالشخصيات في القسم الثاني منها والثالث لا كما ، عهدنا أن تكون للشخصية تحولات بأنواعها أما دائرية أو شخوص مسطحة أو نكوصية ، لكن التحولات في هذه الرواية تأتي في دائرة الوهم والتخيل.

هناك إذاً معيار متوافر من المعايير الفنية في كتابة الرواية ، والروائي يستخدم المعيار ولا يهدمه أو يتحداه ويرتكز صنيعه معه على أنه يجدد فيه، ويبتكر بداخله تحولات للشخصية في الرواية غير معهودة، وهو ما يساعد على خلق تلك الحالة من الجماليات التي سميتها "جماليات الفوضى" ، وأستطيع أن أنتقي إحدى هذه الشخصيات وليكن الجاهل الجرىء المهزوم الذي تحول في الجزء الثاني من الرواية إلى الشخص الذي كان منوطاً به أن يبيت مع النبي بالدار وينام في فراشه ولنا أن نتذكر قصة علي بن أبي طالب، ومحاولة الضفر مع هذه الموروثات وفي إطار من الوهم والخروج إلى آفاق التخيل الواسع.

تتحول هذه الشخصية التي لم تثبت في هذا الاختبار وأصابها الخوف من الموت وهربت، حين يقول :" ما حكمة الاعتقاد إذا ما قتلنا " (ص45)، تتحول الشخصية إلى إله في الجزء الثالث يقول للأمر كن فيكون ،له قدرة الخلق والإبادة ، له السيطرة والبعث والميلاد والموت ، يجلس على عرش الوجود يثيب ويعاقب، التحولات كلها إذاً في إطار الخرافة والتوهمات ، إنها تحولات غير تقليدية في رسم الشخصيات ، بل تتسم بالجرأة ومناوشة الأمور المسلم بها.

تمثل النماذج المختارة لتشكل شخصيات الرواية عينة تتكامل فيها منظومة الصراع التي يمكن أن يحدث داخل كل مجموعة من البشر ، بأهوائهم بوظائفهم بنوازعهم وغرائزهم، هناك مرهف الحس الفنان وهناك البوهيمي والكهل والمتحكم بالمجتمع من خلال سلطة أمنية " الضابط" هناك الميكانيكي القبيح الشاذ وهو اليد الباطشة الغوغائية ، وهناك نموذجان للمرأة الأربعينية والفتاة الشابة بارزة الصدر.

تلك النماذج يهيئ الروائي لها بهذا التكوين الاجتماعي والثقافي والنفسي والسياسي أن تصنع صراعاً من الصراعات المعهودة بين البشر أسوياء كانوا، أو على درجات متفاوتة من الشهوات والأطماع والشذوذ .

يثير الانتباه بالرواية ذلك النموذج المقدم للمرأة فالعمل يتعامل معها ليس على أنها إنسان من نفس جنس الرجال، لها شهواتها المتنوعة ورغبتها في التحقق ، أوجب الظهور أو الفخر أو النجاح. المرأة في هذا العمل جسد ، وجسد منتهك على الدوام ، هي قطعة من اللحم مستباحة ، يلهو بها الرجال ويتنازعونها ، أو هي مجرد وسيلة يتخذها الرجال وسبيلاً لتحقيق مآربهم.

وهي في ظل هذا الإطار الخرافي والوهمي الذي يسيطر على رؤى وبنية هذه الرواية- ليس لها قدرة الرجل على التحول أو الإرادة أو التغيير فهي مفعول به على الدوام .والتحول الوحيد الذي بإمكانها القيام به تحول الفتاة العاهرة إلى طاهرة ، حتى هذا كان من أجل رجل.

في ظل المجتمعات المعاصرة وبعد التغيرات التي حدثت لأوضاع المرأة بالعالم كان على الرؤى أن تتغير وتلتفت إلى طبيعة ودور المرأة في الحياة ، ولكننا،أو لأن المؤلف يعيش مجتمعنا، الذي تنتكس به أوضاع المرأة في مجالات متعددة ،وتعود النظرة لها مجرد جسد وأداة للمتعة ، تظل المرأة في هذا الإنجيل الذي يكتبه محمد علاء الدين كائناً منتهكاً وشاهدنا تلك الأربعينية وما مثلته من امرأة مستباحة وسحاقية (ص29).

- لا أحد يؤمن بقيمة ومن أجلها يحارب ، ولها ينتصر ، الوجود والتحقق الظاهري الذي لا يحمل عمقاً هو السمة المسيطرة على معظم الشخوص، والتحولات التي حدثت في حلم الفنان المرهف الذي صار نبياً تدلل على ذلك، فالفنان التشكيلي المرهف تحول عن الرسم في المجتمع الصحراوي الذي يعشق الشعر والموسيقى إلى عازف ومؤلف مزامير ،ليحقق لذاته وجوداً افتقده في المرحلة الأولى ، والفنان البوهيمي يتحول إلى كاهن وتاجرٍ غني (ص39.38) إن تحقق الشخوص في ذاته تحققاً أفقياً لا يحمل أسساً أو إيمانا عميقا لشيء أو فكرة ، إنها شخوص تتقاذفها الأطماع والشهوات وتغلب عليها نوازع الحقد والخبرة والسيطرة .

وثمة إشارات للمؤلف ذكية تتسم بالدهاء والرغبة في الهروب من المسآلة وتبدو في ملاحظات متفرقة، في هذا المزج الذي صنعه وهو يؤلف الواقع الروائي مع قصص الأديان وشخوصها وأحداثها ، لنا أن نلاحظ اختياره للمزامير وهو في معرض هروبه من الحديث عن القرآن (ص38)، وكما نلاحظ المزج التوليفي الذي صنعه بين صلب المسيح والعشاء الأخير وقصة هجرة الرسول الكريم إلى المدينة بعد أن تحالفت عليه القبائل ،وقصة " عليبن أبي طالب " ونومه في فراش الرسول، وسراقه الذي أراد أن يخبر القوم عن مكانه وما حدث له ولفرسه ، استطاع الكاتب أن يجمع خيوطاً تتشابه طبيعتها في قصص الأديان ،لينسجها في نسج مبتكر خرافي مجاوز وفوضوي . إن تلك البنية التي شكلها المؤلف لروايته والتي تتسم بهذا التراكب والتداخل بين العديد من الحقائق والأساطير والأديان ،تحسب له فنياً وتشكيلياً وتشير إلى تلك الذهنية والموهبة الفنية القادرة على مجاوزة التقليدي ، والخلق على النحو السابق ، لنا أن نشير إلى ذلك حتى وإن اختلفنا معه في العديد من الأفكار والرؤى التي دعمت هذا الشكل الفني الروائي.

إن طبيعة بناء شخصيات تلك الرواية وكونها منبثقة من خلال افتراضات مصدرها كلها شخصي أو ذوات إنسانية واحدة ، تجعلها لا تبتعد عن طبيعةالذات ما بعد الحداثية ، فهي وإن كانت نتيجة لعبة يمارسها الكاتب إلا أنها تؤول في النهاية إلى الذات الواحدة التي تتجمع فيها ذوات متعددة متناقضة و متصارعة ومتجاورة، لكنها متعايشة.

التقنية المستخدمة في بناء هذه الرواية توافقت بشكل مبهر في البرهنة على طبيعة العصر وطبيعة الذات البشرية الآنية التي تتعدد فيها الذوات ، لكنها أيضاً خالفت ذات ما بعد الحداثة في قدراتها على الفعل والإيمان بطاقات الإنسان ، عكس الذوات الهشة المهمشة اليائسة في هذا العصر المعيش .

** تحولات المجاز وطبيعة اللغة في رواية أنجيل آدم

اتسمت أدبيات ما بعد الحداثة باللغة التقريرية التي تتعامل مع حقائق الواقع اللغوي ، وتقترب من اللغة المستعملة في المعاملات اليومية للإنسان العادي ، و كان ذلك ردة فعل لما صنعته الحداثة في إبحارها في سراديب المجاز اللغوي والافتنان به.

يستخدم محمد علاء الدين في خطابه الروائي لغة تعتمد على المجاز ، لكنه مجاز له طبيعة خاصة ، مجاز يقترب من الحقيقة ، يوجد لكننا لا نلمح به علاقات متباعدة بين أطرافه، أو استخدام يوهمنا بخلق مغاير متكئ على علاقات تصويرية مجازية ، الملمح الأساسي للمجاز في هذه الرواية هو وضوحه ومباشرته في ذات الوقت قدرته على حمل سمة الطزاجة والالتقاط المبدع المتجدد يقول على لسان التاجر الحرامي أبي الجاهل الجرىء الســـوقي :

" لأنها تعلم أنها قطعة اللحم المفضلة على فراشي هي وأمها . الآن أنا حر لأمزق حنجرتها الصاخبة شر ممزق وأكرمشها في يدي مثلما أفعل بنهدها " (ص29)، إن هذا الاستخدام المجازي اللغوي يستطيع أن ينقل لمتلقيه مقدار العدوانية والتعدي الذي يميز شخصية البوح، يميز شهوانيته واستباحته للمحرمات ومقدار النفوذ الذي يمكن أن تصنعه المادة في التكوين الشخصي للإنسان في اللحظة المادية الراهنة ، ويجعله قادراً على انتهاك الآخرين والعدوان عليهم ، هل بإمكان أحد أن يكرمش الحنجرة وهل عبثاً يأتي التشبيه بين كرمشة النهود وكرمشة الحنجرة ؟ أم هي إشارة للتوجه الشبقي العدواني المتمكن من هذه الشخصية. وهي أيضاً بكارة الالتقاط وعدم تداوله .

أو قوله على لسان مالك البئر الواشي الخائن الذي كان ميكانيكياً أصلع بشع الخلقة : "وصل الألم إلى النقطة التي أكل فيها نفسه " إن تلك الالتقاطات المبتكرة هي ما تميز المجاز اللغوي بالرواية ويلاحظ أنها مجازات تنطلق من الحواس وتحتفي بها ، فلا مجال لمجردات أو توغل في علاقات ذهنية ، الحواس هي مصدر الحقيقة والتصورات المستخدمه بهذا العمل الروائي.

يقول الإله الإنسان في معرض وصفه حال الأرض بعد أن قتل أحدهم أخاه " ماتت الشمس وسرت الأنهار دماء وجنت الرياح " (ص57) على قدر مباشرة هذه المجازات ووضوحها إلا أنها تتمتع بالتأثير القوي على النفس ربما لما تحمله من وقع الحقيقة وثقلها، بالرغم من مجازية العلاقة بها ، لكنها تقترب من علاقات الحقيقة التي تمتلك زخم كامن يتكشف ويؤثر حين يوظف فنياً بطريقة محددة.

وقوله على لسان الفنان البوهيمي :" ولكن النقود قليلة كابتسامة على وجه اللواء الظالم " (ص31)، يحمل هذا التشبيه نفس الإحساس بالمباشرة وتأثير الحقيقة الصارخ، الواقعي الفعال على النفس ، وطرفي التشبيه كأطراف علاقات المجاز بهذا العمل كلها تحمل ألواناً رمادية وسوداء توشي بالعذاب والحيرة وافتقاد الأمان ، ويبدو التشبيه هنا مؤثراً لأنه دلالة صارخة على عالم معقد ، فهو حقيقي ودال على حقائق غير قابلة لصياغات متعالية أو مفارقة للواقع الناطق بامكاناته.

ويتميز المشهد عند محمد علاء الدين بفنيات ذات رتوش خاصة ، ففي أحد مشاهد الرواية في معرض موت الميكانيكي بشع الخلقة، بعد أن نام مكان النبي يقول واصفاً حاله وهو في السكرات الأخيرة :" وجدت ذهني صافياً بغتة . فرأيت وجوهم الحاقدة وأمعنت جيداً في التماعات السيوف وهي تهبط ، وأقواس الدماء التي تصعد في الهواء بحماس طفل صغير. رأيت يدي تسقط عن جسدي وتتهاوى إلي الأرض مضرجة في دمائي ، لتتدحرج بعيداً كخف قذر . رأيت لحمي يبرز متهتكاً تحت الجلد الممزق وبقايا عظام ساعدي المهشمة. ...رأيت أحشائي المدلاة من بطني ..أحسست بأنني أطير ونظرت إلى ما عهدته كجسدي فوجدتني شفافاً أرتفع إلى فضاء الغرفة .." (ص52).

يتناسب إيقاع هذا المشهد مع إيقاع رجل يفقد أنفاسه الأخيرة ، فنلاحظ فيه أنفاساً متقطعة"، فالرجل اختار أن يكون قتيلاً طواعية تكفيراً عن جرائم كثيرة سابقة، والمشهد على قدر دمويته وإيلامه يقع في منطقة ملتبسة بينية أخرى ، ولذا تأتي تشبيهاته برغم الدماء والعنف كأنها ارتفاع وتطهير للنفس وخروج بها من أسر الشهوات كأن الألم الذي يتكبده، يعانيه طواعية، ولذا لا نلمح رعباً أو صراخاً لكننا نلمح انفصالاً وإحساساً بالراحة لتكفيره عن ذنوبه. وتأتي إيقاعات نهايات الجمل ممطوطة ، تتهاوى مثل حياة تنتهي.

يتميز الأسلوب في رواية " إنجيل آدم" بهذا العرض البارد الحيادي، صياغة كأنها استرسالات لا مبالية بالأحداث، تعرضها ببساطة برغم ما تتميز به بعض الأحداث من السخونة الناتجة من مناطق توتر مختلفة ، ففي بداية الرواية والشاب يعرض لمشهد البنت البارزة الصدر لينة المؤخرة وبلديتها، وبرغم ما يتصف به هذا المشهد في إحساس شبقي إلا أننا لانشعر في الأسلوب بتلك الحرارة بل نشعر ببرودة تتسرب من السارد وأسلوبه ، برودة تنم عن اللامبالاة الحقيقية بهذا العالم وأحداثه ومشاهده (11.10.9) ، كل المشاهد تبدو وكأنها فوق شاشات عرض ،بينها وبين التفاعل الحقيقي مع الإنسان مسافة ما .

في مشهد أخر حين تتآمر الأم الأربيعينة البيضاء على ابنها النبي مع من يريدون قتله لا يبد للعواطف الصادقة الحارة المنفعلة وجود أو أثر سوى أثر باهتٍ بارد (ص41.40)، لا وجود سوى للأنانية وحب الذات وغلبة المشاعر الجنسية الشاذة " علاقتها مع الفتاة".

ويستخدم الراوي لغة عربية فصحى، ونادراً ما تتسرب بالجمل والعبارات بعض المفردات التي تندرج تحت اللهجة العامية، وتأتي جملة قصيرة واضحة ، تميل إلى اللغة التقريرية ، مقصودة ،لغة الرواية لغة محكمة ، موضوعة لما تريد أن تنقله دون مبالغات، بل بالقدر الذي يسمح بالاسترسال المستمر دون عنوانات فرعية ، بالرغم من أننا يمكن أن نقسم الرواية ثلاثة أجزاء أو مراحل .

لكن الروائي في تعامله مع المرأة وما يتعلق بها من شهوات أو مشاعر أو اعتبارات فكرية أو إنسانية، جاءت اللغة فاضحة تميل إلى المفردات غير المهذبة ، المفردات العارية والنابية المقززة ، والتي تسهم في امتهان هذا الكائن البشري ، والمساس به وتجريحه والحط من شأنه كقوله وهو يصف الفتاة " بارزة الصدر لينة وبلدية المؤخرة " ويكتفي بهذا الوصف ليشير إلى المرأة الثانية بالرواية بقوله "سيدة أربعينية بيضاء الساقين والوجه والمؤخرة" وقوله "كل الرجال يعاملونني كفرج وأنا قد تعبت" (ص39).

وفي معرض حديثه عن شذوذ النساء يقول على لسان الأربعينية :" سأكون عشيقة العاهرة... هي ترقد الآن فوق فراشي.. لأول مرة أكون ما أريد ...كنت أنا الرجال أخيراً . وداعاً للخوف والاضطراب " (39).

أو قولها " في المواقف السابقة كنت أعلم أن الرجال أولاد زواني والخيانة لم تعن شيئاً كذئب يفترس ذئباً " (ص40) وفي حديثها عن ابنها تقول :" لكن نبي الأقدار النوراني المنزه هنا . هو ليس بابن زانية – على المستوى القيمي وليس الفعلي بالطبع – ولايتهاون مع الخطيئة..أي أفكار تافهة يتحدث هو عنها ؟ أي معجزة يحملها ذلك الفتي الذي لا أعرف أنا أنا أمه من هو أبوه ؟ أنا أعلم أنه يشتهيني منذ رأيته صدفة يحدق فيّ كالرجال عند خروجي من المغطس " (ص40).

يشير هذا المنولوج الداخلى الدائر بذات هذه المرأة عن هذا التردي الفكري والأخلاقي الذي يحيط بالأنثى في العقلية الذكورية ، كما يشير إلى كل هذا القدر من الفوضى ، الفوضى الأخلاقية والنفسية التي يمكن أن تلحق بهذا الكائن في النظرة الثقافية العامة المتعلقة بها ، ومن ثم جاءت مستوى المفردات التي عبرت عنها على قدر من التدني والشبقية الصارخة وكأن الغرائز هي كل ما يحرك هذا الكائن البشري.

أستطيع بعد هذه القراءة لرواية " إنجيل آدم" أن أشير إلى تمكن المبدع من اختياره لتقنياته بما يتناسب مع رؤيته الفكرية في هذا العمل، كما لا يفوتني أن أشير إلى أنه لم يتقيد بحدود مذهبية أو فتية تسود فتصبح سمات عامة لنوع من الكتابات التي نطلق عليها "الرواية الجديد" فلقد تعامل مع التقنية الواحدة بتمكن جعله موظفاً لبعضها وتاركاً للآخر ، آخذاً ومستبعداً ، مختار لحريته الفنية غير الخاضعة لتقنين ما، نحن بإزاء لعبة تجريبية تثير الكثير من التساؤلات والتأويلات.

تساؤل يمكنني أن أطرحه على الروائي إذا كنا بصدد افتراضات وتشكيل يستهويه اللعب التجريبي ، لمّ لا تجعلها لعبة حتى النهاية ، أتصور أنك لجأت لتقنية الحلم لتبررهذه الانتقالات التي بالرواية وهو الشيء الذي قد يضعف هذا التجريب غير الخاضع للمبررات العقلية: إنها جماليات روائية ذات نوعية لا تبحث عن منطق ، فهي تحمل منطقها الفوضوي الخاص.

Tuesday, April 15, 2008

..اخر عروض دولة العار : مصادرة مترو



صحوت اليوم على مكالمة عظيمة للغاية:

لقد تمت مداهمة دار ملامح لصاحبها محمد الشرقاوي ومصادرة جميع النسخ المتبقية من رواية مترو المصورة لمجدي الشافعي، مع تعليمات شفوية بمصادرة كل المرتجعات، إضافة لاستدعاء رسمي للناشر محمد الشرقاوي وللفنان مجدي الشافعي وللأستاذة نيرة الشيخ (ولا اعلم تحديدًا المسمى الرسمي لمهمتها في ملامح).

وبالطبع من قام بالمداهمة هي مباحث الآداب ذات الدور الثالث عشر ذائع الصيت في مجمع التحرير.

وبالطبع، أيضًا، فقد تقدم أحد المصريين الغيورين النشامى ببلاغ ضد مترو بدعوى مخالفتها للآداب العامة.

وبالطبع، أيضًا أيضًا، فقد تصرفت مباحث الآداب الزاهرة بمنتهى السرعة والحزم، وقامت بالتصرف المذكور حماية للنشء والبراعم وزهرات وزهور الأسرة، ولا يهم بالطبع ما يحدث في كباريهات شارع الهرم، أو علب ليل العجوزة، أو كافيهات المهندسين، كما لا يهم هتك عرض النساء المصريات بواسطة بلطجية الأمن في مظاهرات عدة، كما لا يهم عبارة للكبار فقط على غلاف مترو، كما لا يهم فن مجدي الشافعي، وكل الترحاب العربي والعالمي الذي قوبل به (أنظر الروابط والفيديو)، ولا أبالغ إن قلت أن الألفاظ التي ترصدها احدهم في الرواية (من قبيل السباب وخلافه) تهم.. كما لا يهم أي شيء في أي شيء في دولة الأي شيء التي نعيش فيها.

قلت أن هذه المكالمة الصباحية كانت مكالمة عظيمة.

ولِمَ؟

لأنها أكدت لي مجددًا، وكما يحصل في كل يوم تقريبًا، أن أطرد سذاجة الأحلام في غد أفضل، ألا أبالغ في انتظار الآتي أو أضيع وقتي في خيالات كاتب أبله: أننا دولة عار محض، دولة عار لا يقلقها موت مواطنين ولا تذمر مظلومين، لا يشغلها نبوغ ولا يلفتها جلال. دولة بوليسية تعلم الناس أن البلطجة تفيد، وأن الفن تفاهة، وأن الاحترام مشأمة، وأن القانون هو أنه لا يوجد قانون.

دولة تطارد مبدعيها.

وكفى......................................................

http://al-akhbar.com/ar/node/66138

http://www.middle-east-online.com/?id=58835

http://www.thedailynewsegypt.com/article.aspx?ArticleID=12037

http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/757/0607.html

فيديو لمقابلة مع قناة الجزيرة حول مترو (لمستخدمي فايس بوك):

http://www.facebook.com/video/video.php?v=11597236331&oid=22283162584

Friday, April 11, 2008

..اروى على الهوا


المعادي، شتاء 1985 - كلب ضال

أصيب أخي الصغير هشام بداء" الصياعة المبكرة" وهو بعد في الصف الأول الإعدادي، أي في الثانية عشرة على الأكثر. وكنا، بالرغم من أني أكبره بسنوات ثلاثة، أي أنني كنت وقتها في الصف الأول الثانوي، متزاملين في المدرسة نفسها؛ فقد كانت مدرستنا من النوع المؤبد، تدخلها في الرابعة، ولا تخرج منها سوى في السابعة عشرة. ومن دلائل داء أخي الذي استجد عليه، أن صار يخرج للمدرسة مبكراً، أي قبل موعدها بساعتين. كان الجرس يضرب في الثامنة والربع، بينما يكون هشام قد خرج منذ السادسة صباحاً.

وبالتقصي، اكتشفنا ما وراء الموضوع. لقد تصاحب هشام مع كلب ضال يخرج من أجله مبكراً. ما إن يهل خارجاً من البيت حتى يستقبله الصديق الجديد بهز للذيل لا يتوقف، فيداعبه هشام وينطلق في طريقه، ويتبعه الصديق متقافزاً من السعادة حتى المدرسة التي تبعد قرابة الثلاثة كيلومترات عن البيت.

من نتائج هذه المرحلة، أني عرفت على لسان هشام خبراً مثيراً: أنه لم يكن أول الواصلين إلى المدرسة، ولا ثانيهم بعد خفير الحراسة المقيم، ولا ثالثهم بعد الفراش، لكنه كان الرابع في الترتيب بالرغم من وصوله في السادسة والنصف؛ فقد كان هناك من يسبقه من التلاميذ، وأعني هنا "أروى" من الصف الثاني الثانوي. ولم أكن لأعرف خبر اعتياد أروى الوصول في مثل هذه الساعة بغير صداقة أخي الغريبة مع الكلب الضال، التي قادته إلى الاستيقاظ والذهاب مبكراً إلى المدرسة، والتي ما لبث أن نسيها بعد أن ملَّ من الكلب وصحبته، أو ملَّ منه الكلب، فعاد إلى كسله القديم.

"الأروى" هو نوع من الظباء التي كانت تعيش في الجزيرة العربية. وبالرغم من أن العرب لم تكن لديهم العادة في اطلاق اسماء مثل هذه الحيوانات المسالمة على أبنائهم الذكور، وكانوا يحتفظون بها للإناث، أملاً في أن تحمَّل في المستقبل باستعارات مكنية عن عينين نجلاوين أو قوام رشيق، فقد اختار الأستاذ فتحي الشناوي موجه أول اللغة العربية بإدارة مصر القديمة التعليمية هذا الاسم الذي استخرجه من بطون الكتب الصفراء لولده الوحيد، الذي تيتم بفقدان الأم في سن مبكرة، حتى قبل أن نعرفه. ويجب هنا أن أقول أن أروى كان يكبرني بعام دراسي. وأنه كان قبل حكاية هشام مجرد طيف يعبر كالشبح في المشهد المدرسي اليومي فلا تلتفت إليه، بل ربما كنت تجده طالباً مملاً من شدة انضباطه. فقد كنا في أواسط الثمانينيات، وكانت الحقائب المدرسية تتجه نحو الطرز الرياضية أو نحو حقائب الظهر المجلوبة من صرعات الرحالة المتخففين، بأقمشتها الصناعية الملونة. وكنا نتحايل على الزي المدرسي الصارم بارتداء بنطلونات الجينز العملية. إلا أروى، فقد كان متمسكاً بحقيبة جلدية من طراز "المنفاخ" التي شاع استخدامها في أوساط المحامين ومن لف لفهم قبل ظهور السامسونايت المقوى. وبالزي المدرسي كاملاً: بنطلون رمادي من الصوف الثقيل، وقميص أبيض، وجورب من نفس اللون وحذاء من الجلد الأسود اللامع. وهكذا، وبعد هذه القصة انتبهت لأروى. صرت أتابعه في الطابور، وفي أوقات الفسحة، وأراه بعين خيالي في الساعات التي تسبق الجرس، واقفاً تحت شجرة الكافور العملاقة في فناء المدرسة وحيدا بملابسه الكاملة وحذائه اللامع، بينما يقذف أخي لصديقه في جانب من الفناء بكرة تنس مطاطية، فيركض الآخر ليعود إليه بها .

الجيزة، خريف 1987- شطرنج

التحقت بكلية الآداب - جامعة القاهرة وحيداً من بين أبناء دفعتي في الثانوية الذين انتظموا في كليات عسكرية أو عملية بحثاً عن مستقبل مضمون. وفي الأيام الأولى من الدراسة الجامعية يكون المرء تائهاً بين الأعداد الهائلة من الطلاب الذين يجهلهم، فيدور بين الزحام باحثاً عن وجه يعرفه. كان لكل شيء مهابة وجلال يدعوانك للتضاؤل: الأبنية العظيمة وعقودها وأقواسها الحجرية ودرجاتها الرخامية التي تخيلت طه حسين نفسه واقفاً ـ وياللغرابة ـ بنظارته السوداء ليشرف على تشييدها كمعماري محنك. كان لجامعة القاهرة وكلية الآداب معنى رمزي يتجاوز حجمها الحقيقي، وكنت أصغر من أن أدرك ذلك. كنتُ سعيداً بحرية التدخين داخل الأبنية التعليمية، وهو ما كان محظوراً علينا بشدة في المدرسة؛ كذلك بحرية المجيء والذهاب في أي وقت، ومع ذلك كنت أشعر بوحدة أشبه بالضياع الوجودي.

في إحدى جولاتي الحائرة، في أيامي الأولى، إذا بالزحام الأعمى ينشق عن أروى جالساً على احدى أرائك حديقة الكلية مع صديق له تتوسطهما رقعة شطرنج. وفي حال مثل حالي تكون مصادفة شخص مثله، يشاطرني ـ ولو من بعيد ـ أي نوع من المعرفة، أشبه بقشة لغريق. قدمني لصديقه " نبيل" باعتباري صديق قديم من أيام المدرسة. ومن اللحظة الأولى تبادلت ونبيل النفور. كان شاباً به الكثير من سمات المتزمتين: جبهة ضيقة يكاد مفرق شعره ينطبق فيها على حاجبيه، وكفان عريضتان على أذرع نحيلة تخرجان من أكمام قميصه وقد زررها في وقت جوه معتدل. ومن جيب قميصه برز قلم جاف من الطراز الذي كنا نسميه في المدارس:"قلم فرنساوي". تركتهما يكملان مباراة الشطرنج وجلست أتابعها، وأخرجت سيجارة وهممت بإشعالها، فسألني نبيل مستنكراً: " انت بتدخن؟" اجبته بوقاحة وأنا انفث دخان النفس الأول بحنكة من واظب على التدخين منذ الإعدادية: "يعني".

لم أكن من هواة الشطرنج، وإن كنت أعرف قواعد اللعبة منذ تعلمتها طفلاً. وبسهولة لاحظت أنهما ـ رغم انهماكهما ـ ليسا من محترفيها. وعليه فقد دخلت منافساً ثالثاً ألاعب من يغلب منهما. ووجدت أننا في مستويات متقاربة، أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. ولأيام صرت أعرف طريقي في الكلية نحو أروى ونبيل فنقضي بضع ساعات في مبارزات شطرنجية متكافئة، أخرج مرة غالباً ومرة مغلوباً. واختلافي الوحيد عنهما هو أنني كنت أدرك أن الشطرنج بالنسبة لي مسألة تضييع وقت، لكنه بالنسبة لهما كان قضية حياة.

وفي إحدى المباريات، وعن طريق الصدفة وحدها، نقلت حصاني بحركة غير متوقعة، فإذا به في مركز مربع على زواياه قطع أربعة لنبيل هي الملك والوزير وطابيتان. وحصاني بحركته اللامية يهدد كل منها في مقتل. وقف أروى يصفق ويصرخ من الدهشة: "كشة رباعية" . كان على نبيل كي ينقذ ملكه أن يضحي بوزيره. لاحظت بعد برهة أن الفخ لم يكن محكماً، وأن حصاني كان مهدداً من قبل فيل بعيد، لكن مفاجأة "الكشة الرباعية" كانت أعمت نبيل وأروى من خلفه عنه.

وسرعان ما تعرفت إلى طالبة بقسم اللغة الفرنسية من حي "شبرا" تولت عن أروى وصديقه مهمة ادماجي في العالم الجديد. كانت الفتاة مزيجاً رائعاً من تلميذة المدارس الفرنسية وبنت البلد، لا تعرف أيهما ترتدي ثياب الأخرى؛ فصرت ملازماً لها، ونسيت بسببها أروى ونبيل فعادا إلى الزحام الأعمى الذي جاءا منه. ونسيت كذلك الشطرنج الذي لم أعد إلى لعبه من أيامها.

ماسبيرو، صيف 1998- لغة المالايو

أربع سنوات من البطالة قضيتها بعد تخرجي من الجامعة في التسكع والتنقل بين المقاهي وحلقات الكلام التي لا تنتهي. لم أكن أبحث عن وظيفة بشكل جاد، وإن كنت أتسبب أحياناً بأعمال مؤقتة تدر أقداراً من المال تكفي بعض احتياجات التسكع. فمن ترجمة بالقطعة هنا، لصحافة بالقطعة هناك، مرة كل بضعة أشهر، كنت راضياً عن نفسي. وكان أبي يجيب متحسراً على من يسأله عن طبيعة عملي فيقول: "أهوه بيجيب سجايره". إلى أن افتتحت الدولة باقة من القنوات الفضائية في تليفزيونها الحكومي، فالتحقت بالعمل فيها مع بضع آلاف من أبناء دفعتي والدفعات القريبة منها. مُعد برامج باتحاد الإذاعة والتليفزيون - وزارة الإعلام، هكذا كانت تصفني بطاقة العمل الجديد التي وضعت حدا للريبة التي كان يقابلني بها رجال الشرطة ضباطاً وأمناء في نقاط التفتيش الليلية حينما يجدون بخانة العمل في بطاقتي الشخصية: حاصل على ليسانس آداب. صرتُ إذن موظفاً بالدولة، وفي وزارة سيادية لا تقل أهمية عن الداخلية والدفاع.

مبنى " الإذاعة والتليفزيون" بكورنيش النيل – ماسبيرو، هو أحد أهم صروح الدولة المصرية كما تصورها رجال يوليو 52، بناء هائل يتسع لخمسة وثلاثين ألف موظف. عشر طوابق للمبني الدائري الأسفل ثم 17 آخرين فوقهم للبرج الذي يتوسطه. ومع التوسع، التهم المبنى الدائري بعض الشوارع الخلفية بحي بولاق ليمتد له جنحان مستطيلان بارتفاع العشر طوابق ذاتها. في أشهري الأولى بالعمل، كنت أسير مستكشفاً الممرات والدهاليز الثعبانية للمبنى بنشوة غريبة. يخامرني شعور قوي أني أتمشى في أحشاء الدولة، في أمعائها. وأنحرف داخلا في ممرات أضيق هي الشرايين ..ثم الأوردة.. ثم الشعيرات الدموية.. تطالعني أمم من الموظفين لا أعرف لهم عملا.. مكاتب غاصة بالبشر وأخرى خاوية.. طرقات وغرف فاخرة ومكيفة وأخرى متقشفة بأطلية رمادية وإضاءة نيون على طراز المصالح الحكومية العادية. وأسير.. وأسير.. كيلومترات طوال داخل المبنى بالنشوة ذاتها.. نعم أنا في قلب الدولة النابض.

في مرة، كنت أسير في أحد الأدوار المخصصة للإذاعة عندما قابلته مجدداً وبعد سنوات طوال، أروى بشحمه ولحمه وإن اشتعل رأسه شيبا. كان لا يزال في نهاية العشرينات. هذه المرة كان معه رجلاً في حدود الخمسين بملامح آسيوية سمراء وطاقية كطاقية سوكارنو. قدمه أروى لي على أنه الأستاذ سراج زميلهم من قسم "المالايو". لم أفهم، وسألت أروى عن عمله في الإذاعة. فقال أروى إنهم يعملون فيما يعرف بـ"الإذاعات الموجهة"، وهي محطات تُبث على الموجات القصيرة وتستهدف مناطق بعيدة من العالم تذيع لسكانها الأخبار من وجهة نظر الحكومة المصرية بلغاتهم المحلية..وهو قسم بالإذاعة باق بالقصور الذاتي من العهد الناصري، وزمن عدم الانحياز وتضامن الشعوب الأفرو آسيوية.. وأوضح أروى إنه يعمل قارئاً للنشرة في المحطة الموجهة لدول غرب أفريقيا الناطقة بالفرنسية بينما يعمل الأستاذ سراج ـ وهو ماليزي الجنسية يقيم في القاهرة منذ ثلاثين سنة ـ في المحطة الموجهة لجنوب شرق آسيا الناطق بلغة المالايو. وأضاف أروى تعليقاً صغيراً: " المشكلة إن الموجات القصيرة في العصر الحالي صارت ضعيفة لاتصل إلى المناطق المستهدفة". سألته مستوضحاً عن معنى ذلك، فرد الأستاذ سراج بابتسامة لطيفة وعربية ملحونة:

" باختصار نهنو نتكلمو ولا أَهَدا يسمؤنا".

اعتذر أروى عن البقاء معي أطول من ذلك لأن لا بد له الاسراع للحاق بالاستوديو حيث لديه نشرة على الهواء حالاً..فتركني مع الأستاذ سراج، وانطلق متأبطاً حزمة من الأوراق.. وسمعت دقات حذائه تتابع أصداؤها بينما هو يبتعد راكضاً في عمق الدهليز .

ياسر عبد اللطيف

Monday, April 07, 2008

مزيد من الحنين: ديانا كينج





SHY GUY

I don't want no fly guy
I just want a shy guy
That's what I want yeah
U know what I want yeah
Oh lord have mercy mercy mercy
DI man dem ina dI party party party
DI ole a dem look sexy sexy sexy
Watch dem jus a follow me follow me

Everweh me go dI man dem a rush me
Yes a whole eep a pretty boy wah fI love me
Ahh me dem love yesa me dem love
True them know me sweet an me sexy
Everywhere me go me say me ever ready
Ahh me dem love yesa me dem love

* But I don't want somebody
Who's loving everybody
I need a shy guy he's the kinda guy
Who'll only be mine

** On loed have mercy mercy mercy
DI men dem ina dI party party party
DI ole a dem look sexy sexy sexy
Watch them just a follow me
Follow me follow me
Have mercy mercy mercy
But none a dem no move me
Move me move me
Shy guy a weh me wanty wanty wanty
Only him can make me irie irie irie

Roughneck man me no want none a dat
Beat up me body lick off me head top
Me no want none a dat me no want none a dat
Big things a gwaan fI all dI shy man dem
Watcha free me lover me
Watcha free me friends
Till the very end till the very end
(Repeat */ **)

Have mercy mercy mercy mercy mercy
C'mon I'm a set lord I mean mercy
(Shy man me wanta hear you
Cool up you wanta an me hear
Make you lysu

If you don't know wanta em
Me don't wanta see you
Just want to geta to all the shy man who
(Repeat 2 times)

(Repeat */ ** 2 times)

Shy guy shy guy shy guy

DIANA KING
.................................................
طُرحت في العام 1994

.. يوم 7 إبريل 2005


مذ ثلاث سنوات، في مقهى انترنت بائس نحيف مستطرق، كنت انقر الكلمات الأولى لهذه المدونة. (لا أحب كلمة "مدونة"، أفضل المنطوق الإنجليزي "بلوج". لست ادري لماذا تحديدًا، فقط يبدو لي أن التعريب أثقل المفردة الأجنبية بخيل القبيلة ونوقها. قطعُ لخفة مطلوبة يفضي لاتصال يستدعي- في ذهني أنا على الأقل- ثقل جهم ذو تصريفات فعل تضرب بجذورها نحو ماض لا يعرف ذلك الوسيط الذي تعبر عنه المفردة. )

في أحيان نادرة اضغط على آلة زمني الصغيرة هنا، لأسترجع ما كنته خلال هذه السنوات الثلاث، أقرأ وأقرأ، وابتسم أحيانًا، وربما استرجعت طيف حالة كنت فيها في يوم من الأيام. أفكر بأن هذا "البلوج" قد حفظ شيئًا من المسطح الأبيض الذي ارتمى ورائي؛ الزمن الذي استغرقني واستغرقته حتى

عودني أن لا أتعجب عندما يفارقني وهو معي، أو عندما يصاحبني بينما هو غائب. مسطح أبيض محايد يرتمي ورائي، وإن فكرت قليلًا فسأجده يمتد أمامي وعبري، ولكنه يتبدى، في ذات الوقت، مثقلًا بأشياء تتجاوز صفة البياض والانبساط التي تتبدى لعين عقلي.

يحتفظ لي "البلوج" بتعرجات وظلال في هذا المسطح، تفصيلات حادة بتواريخ وأرقام وصور. لست أدري- صدقًا- لِمَ تنتابني موجات هي أقرب للسعادة حين يُذكني البلوج بميعاد طرح رواية أو ذكرى احتفال شاركته مع أصدقاء.

ولكنني أعلم أنه تتملكني الحيرة الممتعة حين أقرأ سطورًا لا أفهم ما واكبها من حياة. أتحول في لحظة ممتعة لقارئ أنا الأخر. قارئ يحاول فك طلسمية سياق الكاتب وإلغاز كلماته. قارئ لا يعرف الكاتب ولا يعرفه الكاتب. أجاهد لأتذكر، أو لمزيد من التحديد، أجاهد لأعيد بناء ما تهدم في عقلي. قد أبتني لنفسي حدثًا يبدو متسقًا وسهلًا، ولكنه قد لا يكون ما حدث فعلًا.

ربما كانت هذه المتعة الفارقة في كتابة بلوج طويل. بلوج يفرد جسده كقط عابث مدلل فوق سنين ثلاث. يقول لي البعض أن بلوجي بمثابة جريدة متنوعة. يثني بعضهم على اختيارات الصور، ويعجب البعض الأخر باختيارات الأغاني، بينا يترك بعضهم لي شتائم بعضها مجدول برأي ذو منطق، وبعضها من باب التكدير البسيط الصريح.

عبر هذا البلوج عرفت أناسًا أحببتهم كثيرًا جدًا، وشاركوني لحظات راحتي ولحظات كدري. حتى وإن لم يفكوا الطلاسم جميعهًا- فلابد من تخمير بعض الوقائع داخل روحك مهما إن كان- فقد شاركوني في السؤال، وإن اختلفت مناطقه. أفكر الآن بهؤلاء الأصدقاء القريبون البعيدون، الذين يكتبون همومهم ويدخلون ليقرؤوا همومك.

عبر معي هذا البلوج بأحداث قد لا تكون كثيرة ولكنها مهمة؛ شهد معي نشر رواياتي الثلاث، وبيع سيناريوهاتي، وظهور أول سلسة قصص مصورة لي، والخ الخ الخ. في أحيان، أفكر في أن هذا البلوج، ذو التسعمائة ونيف قطعة موزعة بالعدل على ثلاث سنوات، هو الحياة المكتوبة الموازية. الحياة التي نبحث عنها دائما ككُتاب في كل الفنون التي تحيط بنا. حياة مكتوبة موازية لها قانونها الخاص، وتفسيراتها الخاصة، وولعها الخاص وعلاقاتها الخاصة. حياة تشبه حياتي جدًا، ولكنها ليست هي بالضبط.

ونهاية، ولأنني استشعر ثقل ظلي المعتاد عندما أكتب الاحتفاليات، أود أن اشكر قرابة ربع مليون زائر زاروا هذا البلوج مذ وضع عداده في النصف الثاني من سنته الأولى. أشكر كل عابري الصدفة والمتابعين، كما أتردد قليلًا قبل شكر الشاتمين ولكنني في النهاية اشكرهم أيضًا. قد اشعر في أحيان كثيرة بأنني أجرجر أيامي ورائي فوق ارض غير ممهدة، ولكن وجودكم مؤانسة تكفي لتهدئة الجروح المتململة.

..إضراب 6 إبريل