designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Thursday, March 31, 2016

العدل أساس الملك: في الحركة والسكون.

"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، آيه قرآنية، يستشهد بها الكثيرون من الحكام والقضاة في العالم العربي،
 بالإضافة إلى عبارة شائعة أخرى، ينسبها الناس تارة لأبي حامد الغزالي، وينسبها بعضهم لمجمل أعمال ابن خلدون، وهي "العدل أساس الملك". صحيح أن العدل هو قيمة إنسانية عامة جدا، ولا يمكن قصرها على ثقافة بعينها، ولكن في حالة مجتمعاتنا الإسلامية نجد العدل في القلب؛ هكذا كانت ثقافتنا في روحها، عدالة في وجه الظالمين، المستكبرين، الفخورين بذواتهم والمتجبرين. فكان العدل أساساً وميزاناً، ولا توجد سبة أسوأ من أن تكون ظالمًا، "لأن الله ذاته العدل، والعدل يعني الحق، والحق حبيب الله"، كما يقولون، وهو اسم ثان للذات العليا.

هكذ ينتقد كثير من المفكرين غياب العدل في ثقافة ارتكزت على مفهوم العدل، ليس فقط كعملية قضائية، ولكن كأساس لتقييم السياسة ذاتها، فقال ابن تيمية إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، فالعدل، مرة أخرى، هو أساس الملك.

إذن، فما دام الحاكم عادلاً، مادام حاكماً. لا يهم لكم من السنوات، لا يهم، ما دام عادلا، يستدعي عدله حق بالسياسة والرياسة والتولي.

هكذا ننظر للتداول الديمقراطي باعتبارها آلية لنظام سياسي قد ينوجد فيه العدل بشكل أكبر من النظم الأخرى، بينما تحولت العدالة في مجتمعات أكثر تطورًا منا لقيمة، أغلب الأنظمة الرئاسية تحدد فترة الرئاسة بمدة أو مدتين، وحتى الأنظمة البرلمانية، التي بطبيعتها لا تقيد عدد مرات تولي رئاسة الوزراء، صار هناك مفهوم عام أنه لا يجوز أن يبقى أحدهم حاكمًا لمدة تتجاوز العشر سنوات أو ما يزيد قليلا. في وطننا العربي نقول: وما قيمة هذا إن كان عادلا؟ هل نترك الرجل من النشامى (وكلهم نشامى مغاوير) من أجل ما لا نعرف؟

سنسأل هنا، أي عدل هو؟
لقد نشأت في مصر، وأعيش فيها، وحين كنت تلميذا في الفصل، كان يمكن أن يضرب المدرس الطلاب جميعهم لعجزه عن تحديد من فعل شغبا ما، فيعاقب الجميع بحجة "المساواة في الظلم عدل".

يمكنني أن أقول، في الحقيقة، "أي عدل هذا؟!"، ويمكنني أن أقول "هكذا نرى كيف تفسر النخبة الحاكمة عدلها"، ولكن الحقيقة بعيدا عن سخف التفسير السابق للعدالة، ولشمولية مبدأ العدالة والإنسانية نفسه، أن لكل زمان عدالته: لذا تتوالى القوانين التي تتغير بتغير المجتمع، وهكذا يكون لكل عصر تشريعه، وقانونه، وعدالته.

لكن لدينا نقول إن الأساس في الحكم ليس تعاقب الأجيال، التي تحدث قانونها وعدالتها بما يلائمها ويلائم عصرها، بل إننا نقول إن عدل الحاكم هو أساس حكمه، ودعنا من ظلمه الشائع الذي يراه عدلا، فحتى ولو كان "عادلا" فعلا، فهذا يعني أن تستقر طبقة بكاملها بمفهومها ليس فقط عن العدالة، وإنما عن الفن، والثقافة، والسياسة، والتعليم، والفلسفة.

يعني أن تتجمد مجتمعاتنا لمدد قد تصل إلى ثلاثين عاما أو أربعين عاما أو أكثر من هذا -في ظل سيطرة عقلية بعينها لا أشخاص بعينهم- حيث تأتي السلطة من ثقافة تثبت الحاكم، ليثبت الحاكم هذا المجتمع في عملية دائرية، تحاول تكسيرها وتهشيمها أفكار الديمقراطية التمثيلية، ومبادئ التداول وحقوق الإنسان، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في الروايات والأفلام، في برامج المؤسسات الأهلية.

نعم هناك سباق لعقل جديد يؤمن بالتغير والتداول، وبأن لكل جيل، أو أجيال متقاربة، مفهوما عن الحياة قد يختلف كثيرا أو قليلا عن الأجيال التي سبقته أو التي ستعقبه. لكن هذا دوما يصطدم بالعدل الذي هو أساس الملك، أو، بالأحرى، بالملك الذي يستخدم العدل.

ثم نسأل، ما الذي أوصلنا للسيسي؟!
ثم نسأل، عدل السيسي؟!
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
نشر في العربي الجديد بتاريخ ٣١ مارس ٢٠١٦، يمكنك رؤية المقال الأصلي هنا.

Saturday, March 19, 2016

المهرج ذو البلطة





كنا في مقهى قريب، نستريح من "تمشية" برلينية طويلة، ثم قادنا الحديث عن العلاقة ما بين المرأة والرجل لحكاية مثيرة: روت لي "يوفيتا" أنها رأت فيلمًا تسجيليًا، يتحدث عن قرية صغيرة في ألبانيا، حيث قررت بعض النسوة أن يتحولن قانونا لرجال، لا ليس لرغبات دفينة هنا أو هناك، بل من أجل المشاركة في القرار السياسي والإداري في القرية، المقصور على الرجال فقط!

ولكن الجميع يعرفون أنهن كن سيدات!
قلت متعجبا، فردت عليّ:
المجتمع هناك لا يحترم إلاّ الرجال، هكذا كان عليهن التحول لرجال..

نعم، ولكن الجميع سيعتبرهن نسوة في الأساس، لا أتخيل أن يعاملهن كما يعامل رجل بالولادة، لِمَ لم يمارسن السياسة والإدارة وهن نساء كما هن؟!
هذا ما جرى! وأنا أحترم هؤلاء النسوة.

طبعا، هكذا أجبت، من باب أنهن يهتممن بإدارة شؤونهن الأوسع من مجرد بيت صغير هنا أو هناك، ولإيمانهن بدورهن في العمل الإداري والسياسي، ولكن هل نعتبر تحول هؤلاء النسوة إلى رجال هو "إيمان بدور المرأة"؟! ظللت حائرا، الموضوع لم يكن مثل مناقشة قديمة حامية، مع صديقة عزيزة كانت فخورة بأن النساء يقدن "التريلات"، وأنا شخصيا لم أجد ذلك فتحا بأكثر من كونه غريبا، أول قائدة طائرة مدنية إنجاز بالطبع، ولكن سائقة "تريلا"؟! الموضوع هنا تعدى مسألة السياقة، ودخل في مستوى آخر أوحى لي بالقهر والعجز لا بالانتصار.

بعد هذا الحوار بشهر، فتحت لي يوفيتا صفحة إنترنت تحكي عن هؤلاء النسوة، أخذت أحدق في صور الرجال الذين كانوا نساء، الملابس، الإكسسوارات، القبعات فوق الرؤوس، طريقة الوقوف أمام عدسة الكاميرا، لا أنكر أن مظهر بعضهم لم يشِ أبدًا بما كان عليه الماضي، ولا حتى ملامحهم، سألت نفسي كيف يجلسون في الحانات؟ وهل من المفترض أن يحنوا رؤوسهم خجلًا إن استبان من امرأة أخرى عري غير مقصود؟ وما كان رأيهم في حمامات الرجال في الأماكن العامة؟ (قلت لنفسي هي قرية! أي سؤال سخيف هذا!).

طيب دعنا منهن، ما هو شعور الرجال "الأصليين" تجاه الموضوع بأكمله؟! هل سوف يضربون متحولا على ظهره أثناء المزاح بالقوة نفسها التي يضرب بها الرجال بعضهم؟! هل سوف يستدرجون المتحول لقول رأيه في النساء وكيفية كسب قلوبهن؟!

ظللت حائرا، وبدا الموضوع برمته عجيبًا وغريبًا، ثم قرأت خبرا عن أن مصر قد أصبحت رئيسة المجلس العربي لمكافحة الفساد، فقلت لنفسي إن اسمه الحقيقي هو "مجلس الفاسدين لمكافحة الفساد"، قلت لنفسي حسنا، هو الوطن العربي ومشاكله ونكاته وما إلى ذلك، ثم مضيت أكثر لأتذكر كلمات مثل "تعويم العملة"، و"الإصلاحات الاقتصادية"، و"الأمن القومي"، و"كاميرات مراقبة المرور، طبعا"، إذن لماذا أعترض على تحوّل نسوة لرجال من أجل السياسة؟! لماذا أجد هذا غريبا؟! طيب ألم تكن هي قناة سويس ثانية؟!

يعرف الكتّاب أن مزج المتقابلات يقوي الأثر التي تتركه الفكرة، هكذا كانت فكرة الخطيئة في مكان العبادة مثلا، أو الوحدة وسط الزحام، أو الأعمى البصير، أو ما فعله ستيفن كينغ في روايته الشهيرة "الشيء": الوحش الذي يأكل الأطفال يظهر غالبا في صورة مهرّج ضاحك، لكننا لسنا في أرض الخيال، نحن في أرض تحاكم الخيال بخيال مريض مقابل.

هكذا يحاكم الكاتب الصحافي والمدون والباحث المصري إسماعيل الإسكندراني، من قبل مهرج معه بلطة، ليحبس احتياطياً أكثر من مائة يوم في السجن، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية
...............................................
نشر المقال في جريدة العربي الجديد في ١٩ مارس ٢٠١٦. لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا

Thursday, March 03, 2016

الشعب في خدمة الجميع




قبل ثلاث سنوات، كنا مع العم حسين، صديق الأدباء وجليس المثقفين، أنا وثلاثة من الكتاب المحترمين، في قهوة شعبية صغيرة، تشرف على المدافن في منطقة مصر القديمة.

كان الرواد القليلون يستمتعون ببعض من الشاي الخمسينة وما تيسر من أنفاس الشيشة القص أو التمباك، كان الجو عصرًا، ونسمة رقيقة تهب علينا من حيث يرقد الأموات بلا قلق، والنور في الهواء لطيف لا يعقد الحاجبين.


كنت أجرع من كوب الشاي أمامي عندما وجدت هذه الكتابة بخط مهتز، ولكن تصميمها ظهر عبر إتمام العبارة "الشعب في خدمة الجميع"!

التفتّ إلى العم حسين، وسألته "ما هذا؟!"، ضحك وشرح لي أن الحاج صاحب القهوة قد تملكه الحماس، بعدما نجحت الثورة، فقام بإزالة عبارة "مبارك نعم" -التي زاحمنا بها الأمن في عدة مناطق في الثمانية عشرة يوما الخالدة-، وقرر كأي مواطن شريف، كتابة عبارة فخيمة تليق بالمرحلة.

وبينما أنا أرشف الشاي مجددًا، وأنفث بعض دخان المعسل الذي تتبدل أحجاره بسرعة الصاروخ، أخذت أفكر في التركيبة اللغوية التي اعتمدها الحاج لكتابة شعاره، بالطبع تستدعي التركيبة شعار البوليس الخالد "الشرطة في خدمة الشعب"، وهو الشعار الذي تتقاسمه معنا بضعة بلدان عربية، حتى وصل الموضوع بالنظام الأسدي لتقديم "جهود" الشرطة في برنامج سوري يحمل ذات الاسم!

لا أعرف شخصيًا من ابتكر هذا الشعار: لعله تقليد اعتيادي لشعارات أوروبية، لكن المعنى كان موحيًا، دعنا نركز فقط في مصر: وزير الداخلية شعراوي جمعة (وهي نفس تركيبة اسم المليجي طه مثلا) يرعى مؤتمر المثقفين في عام 68 ومعه مستقبل مصر الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، ثم نرى السيد ممدوح سالم الذي كان وزيرًا للداخلية ثم رئيسًا للوزراء، لا يمكننا قول أي شيء يزيد عما يقوله لقب النبوي إسماعيل: الدموي إسماعيل.

نعرف زكي بدر طبعا، وعبد الحليم موسى شيخ العرب، وصولاً لحسن الألفي، وهذا الرجل يحسب له شيء، لقد قرر التوقف عن مثل هكذا سخافات، لم يغير من خدمات الشرطة للشعب، ولكنه غير الشعار أصلا في مرحلة من التصافي والشفافية والانفتاح، ليجعله "الشرطة والشعب في خدمة الوطن".

ما زلت أتذكر حوار له قرأته في العزيزة "روزا اليوسف" حين قال بكل أمانة: "نحن نسجل للناس ومن يخاف لا يتكلم ونحن لا نعمل لحساب إسرائيل"!، كان رجلا أمينًا، انتهت حياته المهنية بصوت حلقي من مبارك -وهو الوطن طبعا كما نعرف- بعد مذبحة الأقصر، ثم أتى مبارك بكمال شناوي الوزارة، اللواء حبيب العادلي، أو "حبيبي إلعبلي" مثلما ذهب أحد الأصدقاء بدون ذكر أسماء، طبعا.

انتهت مسيرة العادلي بصوت حلقي كبير من الشعب، ليأتي اللواء محمود وجدي، ليقرر إعادة الشعار القديم "الشرطة في خدمة الشعب"، وهو الأمر الذي تصفه صفحة كلية الشرطة على الإنترنت بـ "ليبدأ جهاز الشرطة مرحلة جديدة في تاريخه يؤدي دوره الوطني في إطار يقوم على: الديمقراطية والنزاهة وسيادة القانون وعدم التدخل في الشأن السياسي"، والنتيجة معروفة.

ويبدو أننا لا نحب الصريحين والنزيهين والشفافين مثل حسن الألفي، بالضبط كما هي سخرية حياتنا: كيف يضطر الناس لخوض حروب مع من يفترض بهم حمايتهم: مع من يفترض بهم تطبيق القانون!

قابلني العم حسين في ميريت بعدما توقف عن شرب الشيشة، ليقول لي إن الرجل، بإخلاص مواطن صالح بوليسي، قد أزال عبارة "الشعب في خدمة الجميع"، لا أذكر أنني سألته عما كتب مؤخرًا من عدمه، ولكنني أذكر أن عم حسين قد لامني على ذكر هذا "الإفيه" في حضور إبراهيم داود الذي كتبه على صفحته في موقع فيسبوك، قلت له: لا عليك، إبراهيم داود صياد جواهر أيضًا، والشكر للحاج البوليسي الشريف.

فتحت موقع فيسبوك، وقرأت وشاهدت ما تيسر من خطبة الرئيس طبيب الفلاسفة عبد الفتاح السيسي، قلت لنفسي إن الحاج قد تسرع، عبارته الصادقة هي أليق ما يمكن إطلاقه على المرحلة: الشعب في خدمة الجميع.

"صبح على مصر".
...............................................................
نشر هذا المقال في جريدة "العربي الجديد" في ٣ مارس ٢٠١٦. يمكنك رؤية المقال الاصلي هنا