designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Friday, June 14, 2013

مقادير

تماما،
كربات البيوت الطيبات،
يجلس الروائيون ليكتبوا في مفكراتهم
مقادير صنع الروايات،
وكاغلب الوصفات البديعة، والغريبة،
فهي لن تصنع ابدًا،
وسيأتي ابناء يستغربون، دومًا
مثل هذا الولع الغريب..

Sunday, June 02, 2013

موسم الهجرة إلى أركيديا


كان حبًا من أول نظرة.
لا يسعنا أن نضع توصيفًا أفضل لهذه اللحظة، عندما شاهد الأسطى حمزة هذا الجاكيت الجلد البني الغامق-والذي يسميه الناس احيانا بـ"المحروق"-وهو يلتف بإحكام حول جسد زبون قادته الصدفة، أو حظ الأسطى حمزة السعيد أو العثر، إلى ورشته الصغيرة بقرب النيل.
يفسر بعض الناس موضوع "الحب من أول نظرة" هذا بـما يسمونه "الكيمياء" ما بين كائنين، أو بشكل ابسط "الاشتهاء الجنسي". تبدو صورة "الكيمياء" بين رجل وجاكيت مبلوعة نوعًا- إذا ما تذكرنا ولع بعض الناس بقداحاتهم مثلا، ومبدأ نفسي هام يسمى الاسقاط- ولكن صورة ممارسة الجنس مع جاكيت تبدو بعيدة، نوعًا.
ومن ناحية أخرى، فقد اختبر صبيه لوزة هذا النوع من الحب المشبوب العفوي "الفطري" مع رفيقة صاحب الجاكيت، تلك الحسناء ذات الصدر الثقيل، الذي يلتف حوله "تي شيرت" قطني بإحكام لا يقل عن الجاكيت الذي يرتديه صاحبها، ومؤخرتها المستديرة المتماسكة، التي اتشحت بجينز ازرق غال الثمن، وذلك صار منافسًا للجاكيت في نقطتين اساسيتين. قسمة لم تبد عادلة لأغلب الملاحظين، ولكنها بدت عادلة تماما في نظر الاسطى حمزة المسحور: لقد احب صبيه لوزة-شأنه شأن كل من بالمنطقة- تلك الحسناء القادمة من العالم البعيد القريب وراء الكوبري، بينما هام الاسطى عشقًا بهذا الجاكيت.
ولكُل مبرراته، وإن اتفقت فعلا: فبينما أحب لوزة هذه الصفات الفيزيائية البارعة في الفتاة، فقد أحب الاسطى هذا الجلد الناعم للجاكيت، وجيوب الصدر اللطيفة على شكل قلوب (مما ذكره بشكل جيوب جينز الـ"لي" المشهورة بين جيله)، وذلك السّحاب ذو المقبض الذي لا هو بالكبير  ولا بالصغير، منحوت بعناية ولامع بجلال، وتلك الاساور القماشية المطاطة قليلا، والتي تحيط برسغي الزبون وبوسطه، الخيوط القوية التي تظهر بلا تفاخر مقصود، شادة اجزاء الجاكيت إلى بعضها البعض، وذلك السير الجلدي ذو "الكباسين" الذي يحيط بالياقة المشرعة.
كُل من العاشقين له اسبابه الفيزيائية للولع بمحبوبه، ولكن هناك ايضًا شيء مهم نرمز له بـ "الجلال" في محاولة لتجاوز البعد المادي في قيمة "الغال". بالفعل كانت  الحسناء تصدر قيمة الجلال من منظارها الغالي الذي اشاحته بعيدًا عن عينيها الواسعتين بلون العسل، وماكياجها المتقن، وشعرها الذهبي المنسدل في خصل متماوجة، وأيضًا كان الجاكيت يُصدر ذات القيمة، في عيني الأسطى حمزة الولعتين.
وللأمانة فقد حاول الاسطى التخلي عن هذا الولع، وأن يركز كل تفكيره على تصليح سيارة الزبون الالمانية الانيقة التي رقدت بلا حراك بالقرب من ورشته، إلا أنه، وفي لحظات يعرفها المغرمون جيدًا، كان يختلس النظر إلى محبوبه الجديد. حاول الاسطى ذلك مجددا بعد مغادرة الزبون، الذي كان مقطرًا في الحساب، بهذا الشك الموضوعي في اؤلئك الحرفيين الذين يمدون ايديهم في جيوب الزبائن الموسرين، وكالعادة لم يفلح فعليًا في تجنب المبالغة في أجر الخدمة، ولكنه نجح، وبامتياز، في الشعور بالفخر والرضا عن نفسه، وهذا-فيما يبدو- هو المهم.
حاول الأسطى أن ينسى حبه الضائع، وبينما كان الناس في منطقته بتكلمون عن رفيقة الزبون، كان هو يسأل باهتمام عن المكان الذي ابتاع منه الزبون الجاكيت. كان يحاول ألا يتذكر أنه قد سأل الزبون عن ذلك، إلا أن الزبون قد رماه بنظرة تحمل استهانة ما، ولم يرد. حدّث حمزة نفسه أنه كان لابد عليه ألا يجفل- كشأن الشعبيين حين يتعاملون مع ابناء الطبقة الراقية- ويصمت عن الموضوع تمامًا. ابتسامة الزبون الضيقة المستهينة بسؤاله كانت شيئًا لم يستطع احتماله. إلى أن فطن أحد الاصدقاء على القهوة الصغيرة في ركن الحارة إلى لوعته وعذابه، وهو شاب اصغر منه، لم يكن أبنًا لميكانيكي يورثه ورشته، فعمل كـ"خرتي" ومرافقًا للأجانب في منطقة وسط البلد القريبة، وبذلك صارت وحوش هذا العالم أليفة له. كان الخرتي الصغير مارًا بالصدفة حين عدت الحسناء ورفيقها، بالطبع لفتت الحسناء نظره، ولكن الجاكيت استرعى انتباهه أيضًا بحكم اهتمامه المبرر بالمظاهر. قال له أن مثل هذه الجواكت ستكون في أماكن مثل سيتي ستارز، أو متجر "بايمن" بفندق الفور سيزنز، أو في اركيديا أو في بعض المحلات المستقلة بذاتها في شوارع الجزيرة القريبة، أو على الشط الآخر من النهر.
كانت النقطة الأساسية عندما سأل الخرتي الشاب عن سعر جاكيت كهذا، فرد الشاب بلهجة تماثل ملك الموت بأنه لا يقل عن الخمسة آلاف جنيه، إن لم يزد عن ذلك بكثير. لم تكن المسألة في فقر مدقع يعيش فيه، فقد كانت "مستورة والحمد لله" كما يحلو له أن يقول، ولكن كمنت المشكلة في ولع سابق له بتحديث فخر المنطقة، فسبا ابيه القديمة نوعًا، وإن تكن 200 سي سي ايطالية فاخرة، والتي ورثها عنه كصولجان الحكم. احتاجت الجميلة التي تعديلات وتجديدات، هذا من وجهة نظره على الاقل، بينما لم تشاطره نعيمة زوجته الرأي، ورأت أن الموضوع – الذي كلف ميزانية البيت رقم يتعدى الآلاف سابقة الذكر-لم يعدو سوى تفاهات يغرق حمزة بها نفسه، و"منظرة كدابة" في حكم قاسي من كلمتين، لم تملك الكياسة الكافية لكتمها عن حماته، أو ربما قصدت التجريح أمامها أساسًا.
بالطبع ترى نعيمة أن الأولى بالرعاية هو وليدهما الجديد محمود، الذي انجباه قبل اشهر ثلاثة، ليؤنس ابنتهما خديجة- التي سمتها على اسم امها-والتي بلغت الخمس سنوات وتلعب وحيدة. وبالطبع أيضًا فهم حمزة أن الموضوع ليس الونس فحسب، بل أن "يُربط" بطلقة جديدة، كتعويض عن شعور نعيمة بعدم الأمان في علاقتهما، نظرًا لأنها تدرك أن المضاجعات السريعة فوق سطوح بيته بما فيها من تلهف قابل تمامًا للإنطفاء بطول المعاشرة، هي السبب الأساسي لارتباطهما. وعندما أتى أبن ذكر، كان هذا كفيلا بكتم اعتراضات حمزة المكتومة، ومنح شيئًا لا بأس به من العزاء لذلك الشعور القاهر الذي انتاب حمزة بالسجن المؤبد.
وهكذا، وقع حمزة في حب عظيم، وككل قصص الحب العظيمة فقد توافرت كل الأسباب المنطقية لجعله حبًا بعيد المنال، وربما محرمًا. حاول، لمرة جديدة، ألا يشغل نفسه بالمسألة، وانخرط في اعماله اليومية المعتادة، وترك جزءًا من نفسه يحادثه بأنه عندما ينمو الرضيع، وعندما تنسى نعيمة موضوع الفسبا، وعندما يتوافر لديه مبلغ كبير لا يحتاجه، عندئذ سوف يبتاع هذا الجاكيت، محبوبه الأثير.
وكعادة كل قصص الحب العظيمة أيضًا، فلم تخل المسألة من صدفة تالية تطابق الصدفة الأولى، فقد قادته الظروف إلى اركيديا مول، غير بعيد جدًا من ورشته، ليُصلح عربة مدير لأحدى الشركات في المول الكبير. كان الباشا قد ضاق ذرعًا بما سماه "تعزز" و"غرور" ميكانيكيه المعتاد في المنطقة البائسة وراء المول، واستمع لنصيحة رجل يعمل معه، بأن يقصد ميكانيكيًا آخر ليصلح عربته التي تعطلت في جراج المول بعدما قال ميكانيكي المنطقة أنه لن يستطيع الحضور إلا بعد ساعتين. كلم مرؤوس الباشا احد اصدقائه، والذي اشار عليه بحمزة- والحق أن حمزة ذو سمعة طيبة في مهنته- وتولى أمر دعوة الميكانيكي الجديد ليأتي إلى المول.
وعندما اصطحب حمزة حقيبة أدواته، ومعه صبيه، وانطلق في طريق الكورنيش، داخله توتر لم يعرف مصدره، ولكنه قال لنفسه انه "فيه شيء لله" بعدها بساعة زمن، بالضبط حين استقل هذا المصعد العجيب، الذي بدا له ككبسولة مضاد حيوي شفافة، في طريقه لأخذ حسابه من الباشا في الدور العلوي. لم يأمن الباشا أن يترك أحدًا ليحاسبه، ولكن يجب أن نقول، عوضًا عن موجات انتقادنا الشرسة لدوافع الشخصيات ومن باب الموضوعية، أن الرجل انتوى فعلا دعوته لفنجان من القهوة أو بعض الصودا الساقعة، والذي لم يشك ابدًا في سعادة الاسطى بذلك العرض، لذا كانت دهشته شديدة حين ألحف حمزة في الرفض، مما نزعه من دائرة "التمنع وهم راغبين"، والتي يضع فيها الرجال النساء فيها تارة، ويضع فيها الاغنياء الفقراء تارة أخرى. أصر الاسطى على الرحيل عن المكتب الفخم. كان متعجلا تمامًا (إلا أن استعجاله لم يمنعه من عد النقود جيدًا)، وتجاوز عن اعتراض مكتوم لصبيه الذي كان يتمنع وهو راغب فعلا في صودا ساقعة، أو امرأة ساخنة بيضاء قد تعبر بالمكتب بين فينة وأخرى كعميلة أو كموظفة، بجوباتهم القصيرة نسبيًا، وامارات "الجلال" الواضحة في مظهرهم.
مرة أخرى اتفق الاسطى وصبيه على حب الجلال، ولكن حب الصبي كان يدفعه للبقاء قليلا وتجريب الحظ، بينما كان هو بالضبط دافع حمزة للرحيل سريعًا، فقد حدث، بينما هو في كبسولة المضاد الحيوي الشفافة، أن رأي حب مرحلته معلقًا في واجهة متجر فخيم في الدور الثاني من المول. لابد وأن نعترف بأن قانون الصدفة قد لعب كثيرًا من الأدوار في هذه القصة، لأنه لولا تعطل المصعد الخلفي للجراج ما كان حمزة ليُسمح له بدخول المول بملابس عمله، وهي ذات الملابس التي منحته نظرة متعالية اخرى من البائع الذي نسى أنه بائع وهو يجيب بحزم مالك المتجر على سؤال حمزة المتلهف: سبعة آلاف جنيه.
وحدث أن ملك البائع هذه الخاصية المهمة في مراجعة افكاره، لينتقل من خانة التعالي إلى خانة حسد الاسطى أمامه على مهنته المربحة، كما تقول الاسطورة الشعبية الصحيحة غالبًا، فرد على سؤال آخر من حمزة عن ماركة الجاكيت. اجابه باسم لم يستطع فهمه إلا على انه "رُماني"، كالرمان، أو رمان البلي في مهنته، أو هو روماني مثل اسم صديق قديم.
ضحك الخرتي الشاب عندما اخبره الأسطى بأنه جاكيت رُماني بسبعة آلاف جنيه، واخبره مرة أخرى بالاسم الصحيح للماركة، ولكن-وللغرابة-لم يهتم الاسطى باسم محبوبه جدًا هذه المرة. كرره مرتين ولكنه كان يعود للأسم المفضل، الأسم الأول: رُماني. وقد نضيف هنا أن حمزة قد شعر بالاستياء من الخرتي الشاب، فهو يضحك عليه بينما حمزة يكبره ولو بسنوات غير كثيرة، وهو يكسب أكثر منه بكثير، وهو-وهذه هي النقطة الأهم-يكسب قوته من عرق جبينه، لا من عرق النساء الاجنبيات "الاهتمات" اللاواتي يسمع أنه يرافقهن.
ولابد أن هذا الاستياء قد ظهر في صورة زجرة ما، او نبرة صوت خشنة، أو ان الخرتي الشاب طيب القلب، أو كل هذا: فقد عرض الخرتي الشاب على حمزه أن يخرجا إلى الوكالة بجوار مسكنيهما، فربما يجدًا شبيها، ولو من بعيد، للرماني المفقود، وهو يعلم ابو اشرف وحمدي وعبد الله اصدقائهما والتجار بالوكالة وربما يفلحون في الاتيان له بما يشتهي. سيذهب هو مع الشاب احمد عبد الرؤوف، ابن المنطقة، ليختار له طاقمًا من الملابس يناسب الذوق الاوروبي كي يصطحبه لحفلة تقيمها احدى "صديقاته" ببيتها في المعادي يوم الجمعة المقبلة.
بالطبع فقد راودت هذه الفكرة ذهن حمزة كثيرًا، بينما هو يتقلب في فراشه متلمظا بجوار زوجته التي تشخر عادة في نومها، ولكن شيئًا طفوليًا- معتاد من ايام انتظاره الطاقم الجديد ايام العيد الصغير- كان يجعله يقاومها: هو يريد جاكيت جديد، جديد، وبالضبط مثل جاكيت الزبون ذو الحسناء المبهرة والعربة الألمانية الفخمة. يريده بشدة لدرجة انه يفكر جديًا في نسف هذا الكرش الصغير الذي اعتلى جسده منذ زواجه، حتى يماثل شكل بطن الزبون الخمصاء التي ألتف الجاكيت حولها، أو ربما يمكنه "شفط بطنه" كما يفعل حماه في بدلته الصيفية القديمة. تداخله بعض الافكار الهدامة عن جدوى ارتداء مثل هذا الجاكيت الفخم في منطقته الفقيرة، وأي مكان غني يمكنه أن يرتدي الجاكيت من اجل ارتياده، ولكن يتذكر مثال الاستاذ طعيمة، ذلك المعجباني الذي يحرص دومًا على أن يكون في غاية الاناقة حتى وهو جالس على قهوتهم البائسة في ركن الحارة. صمم على شيء أبعد، وهو أن يبتاع تي شيرت وجينز يماثلا في الغلو ما كان يرتديه الزبون، ولا بأس من من حذاء ذو رقبة طويلة، "بوت" ذو حشو حديدي في المقدمة مثل الحذاء الردونج الذي تاه به عشقًا في مراهقته. هكذا بنت طفوليته سدًا عتيدًا امام  فكرة ابتياع جاكيت مستعمل.
ولكن عندما عرض عليه الخرتي الشاب ذات الفكرة الآن، اضافة لسعر الجاكيت، فقد زعزع هذا رفضه الطفولي، واتاح المجال لصوت يتظاهر بالوقار في عقله، ويتساءل بجدية ما عن الفارق بين جاكيت جميل مستعمل0استعمال ملوكي كما قال الصوت-وجاكيت جديد مبالغ في سعره. استمر الصوت الوقور ليخبره أن سيكون ناصحا فعلا لو نجح في العثور على جاكيت يشابه المحبوب المفقود، وبسعر اقل كثيرًا بما لا يقارن.
كل هذا دار في رأسه بينما يستمع للخرتي الشاب، جالسا بجوار ورشته، شافطًا في نهم دخان المعسل القص، وفورا ترك "اللي" على الدكة التي كان يجلس فوقها، وترك الورشة برمتها للوزة، وخرج مع الخرتي الشاب- الذي هاتف احمد ليقابلهما عند الناصية- ليتفحص الملابس في الوكالة. ذهبوا إلى التجار الثلاثة، واجتهد حمرة في وصف ما يريد لهم، وساعده الخرتي الشاب غير مرة في الوصف المضني، بينما هو يساعد احمد ليبتاع قميصًا مقلمًا من ماركة شهيرة وبنطال من الجينز الازرق القديم. وكان كُل من التجار الثلاثة يستمع ويحاول أن يساعده على قدر ما يستطيع، في اثناء وقوفهما عند اشرف لمحا سيدتين اجنبيتين، احداهما متقدمة في السن نوعًا ما والأخرى في منتصف العشرينات-ولكن الاثنتان تشاطرتا الحذر من الرجال المصريين في الزحام- لينظر الخرتي الشاب للأسطى بانتصار ما: حتى الاجانب ذوي العملة الصعبة يأتون ليرتدوا "البالة". تأمل أحمد الشابة الاجنبية وثارت في رأسه الأماني عن اليوم المرتقب.
ولكن الاسطى حمرة لم يجد ما يشتهي، كان يتفحص الجواكت والمعاطف الكثيرة التي عرضها الثلاثة عليه باحباط مسبق، عاد ذلك الجزء الطفولي في رأسه ليؤكد له أن كل ما يراه لا يرقى لمستوى الرماني المحبوب، وبالفعل: لم يقف حمزة امام هذه الجواكت وقفة الانبهار التي وقفها امام تلك الواجهة الزجاجية لمتجر اركيديا، عندما تسمر وبجواره لوزة متفحصًا كل سنتيمتر من الجاكيت المفرود امامه، وهو يقارنه على جسد الزبون، وهو يتأمل اللمعة التي تنعكس فوق جلده الثمين الطري المطواع، قبل ان يحثه لوزة-المحرج من نظرات الناس إليهما-أن يمضيا في طريقهما، ليفاجأ بالاسطى يدخل بغشامة-تحولت في نظره إلى جرأة محببة- إلى المحل ليسأل البائع عن الجاكيت بالخارج.
وبينما هو غارق في احباطه، تناهت إلى اسماعه هتافات بعيدة، ترك ما بيده، شأنه شأن من حوله، وتأمل جماعة من الناس اغلبهم من الشباب وهم يأتون في طريقهم بطول الشارع، صارخين بهتافات تلعن الرئيس والنظام. حول الجماعة تحالق العديد من الرجال-تعرف فيهم على الكثير من مخبري القسم-بهواتفهم المحمولة مشغلين كاميراتها، ليصوروا وجوه الصارخين بهذه الهتافات الشرسة غير المعتادة. تأمل الكثيرون، وحمزة منهم، هذه الجماعة التي انضم لها بعض من اهل المنطقة باستهانة شديدة، ابتسم عبد الله وهو يتأملهم والتفت لحمزة والخرتي الشاب وأحمد قائلا شيئا يلعن الرئيس والهاتفين معًا: لص اريب ومجموعة من الحمقى. قال لهم الخرتي الشاب ان مجموعة من أهل وسط المدينة وشباب كثير آخر قد تظاهروا في الميدان الكبير القريب بالامس، قبل أن تطاردهم الشرطة جريا وصولا إلى حي الوايلي.
حاول حمزة والخرتي واحمد أن يتجاهلوا ما يحدث، ولكن الهتافات تصاعدت، ودارت الجماعة بانحاء الوكالة صارخة بشعارتها، إلى أن برزت من العدم عربتان من الأمن المركزي بجوار وزارة الخارجية، بينما قابلتها الجماعة بتكسير بلاط رصيف الوزارة وقذفه على الجنود، وبدأت قنابل الغاز- هذا الاختراع العجيب بالنسبة لحمزة والغالبية الساحقة من اهل المنطقة- في الهطول على الشارع. دخل حمزة والخرتي الشاب وأحمد، شأنهم شأن الكثير من أهل المنطقة، إلى الحواري الجانبية وإن لم يقتل الغاز الحارق فضولهم لمتابعة ما يجري، ولكن عندما انقطعت الكهرباء فجأة من الحي، وطارد الجنود أولئك الشباب في الحواري الجانبية المظلمة، كان الوقت قد حان لحمزة ورفاقه أن يصعدوا إلى بيوتهم، متجنبين شر الجنود وحماقة الصائحين.
في الصباح عرف حمزة، بينما هو مشغول بتصليح عربة زبون متعال آخر، أن مظاهرة اخرى قد قامت بجوار الفندق الفاخر غير بعيد عنهم، وبدا الناس حوله وقد انقسموا إلى مجموعات متباينة بإزاء ما قيل عن مظاهرات عارمة بعد صلاة الجمعة التي تحل بالغد: جزء يبدي حماس ما، وجزء يلعن كل شيء، وجزء غير مهتم شأنه شأن حمزة، ولكن هذه المجموعات كلها اجتمعت في شك كبير حول جدوى ما سيحدث، وإن كان سيحدث من أصله. وعندما جلس في القهوة ليلا تناثرت اقاويل عن القبض عن بعض شباب المنطقة في مظاهرات الامس التي جابت الحواري والازقة، بينما بعضهم لم يكن له أي دخل بما حدث من الاساس، غير حظهم العثر الذي قادهم للوقوف في مسار المعركة. البعض معروف مكانه والبعض الآخر بدا وكأنه تبخر بلا رجعة. كان حمزة يستمع إلى كل ما يجري وينفث الدخان من منخريه ويفكر بعمق في الاجر الجديد لتصليح عربة الزبون المتعالي الجديد، ويفكر جديًا في أن يدخره كبداية لثمن الجاكيت الرماني المحبوب. جاءه الخرتي الشاب في آخر الليل بقزازة من الخمر الفاخرة التي "سلكها" من زبونة جديدة، بينما تولى حمزة لف سيجارتين من الحشيش الذي عز العثور عليه في هذه الايام. كان الخرتي قد اصطحبب أحمد إلى احد الحلاقين معرفته في منطقة قريبة، حيث تولى قص شعره بما يروق للأجانب، استعدادا ليوم غد المرتقب.
اخبره الخرتي في تردد انه يفكر في أن ينزل إلى المظاهرات في الصباح، قبل أن يذهب مع أحمد لحفلة الاجنبية في المساء، فشخر له حمزة في مزيج عجيب من الحسم والاستهانة، وسأله منذ متى يركعها اصلا، وكيف سيذهب إلى الصلاة وفمه نجس لاربعين يومًا كاملة؟! رد الخرتي الشاب ان هذه بدعة وأنه لم يرد في الدين مسألة الاربعين يومًا هذه فاسكته الاسطى بشخرة أخرى تعقبها أحا، وسأله كيف تسنى له أن ينقلب متظاهرًا ومتفقهًا في الدين في ذات الوقت فجأة.  كان تضافر الصوت الحلقي ولفظ الاعتراض والسؤال معًا في اقل من عشر ثوان كافيًا باغلاق باب المناقشة تماما.
وعندما تركه حمزة صاعدًا إلى اعلى، حيث اعتلى زوجته في وقت خيل إليه أنه امتد لساعات، كان لا يفكر لا في الجاكيت ولا في المظاهرات ولا في حرمانية الصلاة. كل ما ملك تفكيره هي صورة مذيعة التوك شو التي تشبه سعاد حسني بينما هو يحاول تركيبها عبثًا على زوجته، بينما كانت الزوجة تفكر بدورها إن كانت هذه المضاجعة المضطربة بتأثير الحشيش والكحول (اشتمت الرائحة جلية خارجة من فم زوجها قبل أن يقبلها) سوف تسفر عن مولود ثالث أم لا، وما إذا كان هذا الحمل مرغوبًا الآن في ظل الوليد الصغير.
وعندما صحى بعد عصر الجمعة بقليل وهو يسعل بفعل الغاز الذي تسلل إلى غرفته، بدا وكأن القيامة قد قامت.
تقول له زوجته أن المظاهرات امتدت من كل جامع كبير في المدينة العجوز تقريبًا، وأن الشباب الهادر قد انطلق في الشوارع العريضة لاعنا سنسفيل أبو الرئيس وداعين إلى اسقاط النظام، وأن القسم القريب قد هاجمه الشباب مثله مثل اقسام كثيرة في المدينة، خنقتهم جميعًا  الغازات القادمة من هنا ومن هناك، وساد هرج ومرج في الشوارع حيث بدأ الشباب في مهاجمة الوزارة بالقرب منهم، اختفى المخبرون وأمناء الشرطة بعنجيهتهم المعتادة، ومعهم البلطجية التي يستخدمونهم عادة في الانتخابات، وشاهد حمزة شابين من شباب المنطقة يلفون البانجو في الشارع بلا اكتراث حين نزل إلى الشارع مستفهما عما يجري. شاهد الاستاذ طعمية الذي ما يزال يحاول الحفاظ على هندامه في مثل هذه الاوقات فسأله عن الخرتي الشاب، اجابه بأنه لا يعلم. لا يعرف احد أين الخرتي الشاب، الذي يسأل حمزة نفسه إن كان قد خرج إلى المظاهرات فعلا، أو نام مثله بانتظار أن يذهب مع احمد عبد الرؤوف إلى حفلة النسوة الأجانب. جرب أن يهاتفه ولكنه فوجئ بتوقف شبكات المحمول.
يصلهم دوي الرصاص الهادر من الميدان غير البعيد، ممتزجًا بالصوت المكتوم قليلا بقنابل الدخان، بدا كل شيء متفككًا منهارا بغتة، وبغتة أيضًا رأي حمزة صبيه لوزة محمولا فوق ايدي بعض الناس، ميز فيهم عبد الله صاحب المحل في الوكالة، وجسده ينزف الكثير من الدماء.
وعند المستشفى البيطري في المنطقة، الذي تولى بعض الاطباء فيه معالجة العديد من المصابين بطيبة قلب ودون اوراق رسمية، فهم حمزة أن الصبي قد شارك جماعة من الشباب التظاهر عند القسم القريب، فنال ما نال من طلقات البوليس، كانت امه حميدة-التي ما تزال تحتفظ ببعض من فتنة قديمة يتذكر حمزة أنها شغلت اباه- تنوح بباب المستشفى لاعنة ابو  لوزة وابو المتظاهرين، وكأن ما يجري سيصلح الحال وكأن لوزة له أب يرأس الوزراء حتى يتجنب نيران البوليس، أو حتى أن يهتم بما يجري حوله.
كاد حمزة أن يسب له الملة بدوره حين اقترب منه، ممددًا فوق طاولة المرضى في مدخل المستشفى، ولكن مظهر الألم فوق وجهه المصفر والعرق الذي يأكله، والضمادات المليئة بالدماء فوق ذراعه وقدميه جعلته يصمت قليلا ويربت فوق صدره لينظر له لوزة بامتنان، ثم لم يلبث حمزة أن سب له بصوت مكتوم رغم كل شيء. يسمع الكثير مما يحدث من أهل المنطقة الذي ظهر بعضهم كمصابين أو كأهالي للمصابين، أو كفضوليين في الشارع، ولكن خبرًا واحدًا استرعى انتباهه أكثر من خبر انتشار الجيش بقرب الوزارة ومبني التليفزيون القريبين: هناك من يهاجم اركيديا، وبعض الناس يطلعون من المنطقة بسرعة الصاروخ، سواء فوق ماكيناتهم صينية الصنع أو "الفِسب" الغالية كفسبته إلى المبنى الفاخر بجوار النيل.
عادت صورة الجاكيت الجميل، الرماني ذو اللون البني المحروق، بجلده اللامع البراق وجيوبه على شكل القلب وحزامه الصغير حول الياقة لتملئ خياله. المحبوب يرقد بالانتظار في المبني غير بعيد.
ولم يكن من الصعب تخيل ما حدث بعد ذلك: جري حمزة إلى حيث ترقد فسبته في المدخل الطويل لبيته، يستقلها وينضم لجحفل من الدراجات النارية تنطلق في طريقها إلى حيث يرقد المول، لا تبالي ولا تلتفت للشباب الثائر الذي تجمع حول مبنى التليفزيون أو في الميدان القريب. لا تبالي ولا تلتفت لجنود الأمن المركزي الذين تخلوا عن ملابسهم الرسمية وطفقوا يعدون في الشوارع أو يختبئون في مداخل البيوت، لا تبالي الدرجات ولا تلتفت إلى بداية وصول عربات الحرس الجمهوري إلى الكورنيش الطويل. لا تبالي ولا تلتفت، شأنها شأن الكل، لقرار الرئيس العجوز الفاسد بحظر التجوال، هم في طريقهم إلى الارض الحرام غير بعيد، حيث اللبن والعسل والادوات الكهربائية وخلافه.
يصل حمزة إلى المول، يجد بعضه يحترق وادخنة تتصاعد منه، يرى العديد من الناس يخرجون منه حاملين كل ما يستطيعون، ما خف حمله وما ثقل. يوقف فسبته بجوار المدخل بجوار العديد من الدراجات النارية، ويجري إلى الداخل كالمسحور، يتحسس مطواته القرن غزال في جيب بنطاله الجينز ، ولم يخب حدسه: فبين اسراب النمل التي تحمل غنائمها كانت هناك معركة حامية بين الناس حول محل للمجوهرات تحطمت واجهته، شأنه شأن اغلب محلات المول، وجثث الساعين وراء الماس تتكوم فوق بعضها، بينما ظفر بها اكثرهم شراسة واقواهم ذراعًا.
كان يعدو فوق الدرج هو وبعض الناس الذين ميز وجوههم، بينما يغادرهم آخرين حاملين كل ما استطاعوه حتى الكراسي الجلدية والمكاتب الخشبية، يصل إلى حيث المحل الذي تكسرت واجهته هو الآخر، يشهر مطواته في يده بحركة سريعة مدربة من ايام الشقاوة الأولى  ويبحث عن المحبوب، تدور عيناه في ارجاء المكان المحطم والناس الذين يحملون الملابس بلهفة، يجد نسخة أخيرة من الجاكيت معلقة فوق العامود بعرض الحائط على يمينه، يهوش بالمطواة شاب حاول مد يده إليه ويهتف به بصوت اجش أن ابتعد. يجفل الشاب ويبتعد مفسحًا له الطريق. يختطف حمزة الجاكيت من فوق حاملته وينظر إليه: اخيرًا نال محبوبه. أخيرا تحيط يده اليسرى بجلد ناعم وبراق، بينما تدلت يد السّحاب الانيقة من آخر الجاكيت مصدره رنة معدنية طربت لها قلبه.
لم يتمالك نفسه، ورغم كل ما يجري حوله، والعيون التي لابد تترصده، عدا بالجاكيت حيث غرفة تغيير الملابس، اغلق ورائه الباب الخشبي الفاخر، و مد يده اليمنى داخل الجاكيت شاقا طريقه في الكم المبطن بقماش ناعم حاملة المطواة بعناية حتى لا يجرح جسد الجاكيت، لتخرج من الكم باسرع ما يستطيع، يدخل يده اليسرى في الكم الايسر، يشد الجاكيت فوق جسده، ويغلق السّحاب ثم يشده لأعلى، ينظر  لنفسه في المرايا على يساره، ينتصب امامها مرتديا الجاكيت. يداخله احباط قليل أن المقاس اكبر منه برقم واحد، وبذلك لم يكن الجاكيت مشدودا فوق صدره، ولكنه لم يترك ذلك ليهزمه: لقد حاز الجاكيت اخيرًا.
يخرج من المحل مسرعًا، عدوًا كما جاء، وحوله الناس في حالة من السعار المفاجئ، هكذا هي عدالة السماء من هؤلاء المنتفخين بذواتهم، هؤلاء اللصوص الكبار الذين انستهم نقودهم وحساباتهم البنكية، والنسوة البيض  البضة اللاواتي يضاجعون، وانديتهم الفاخرة، المدارس الدولية التي يدخلون فيها اطفالهم المرفهين، الباشوات، آلهة الأقسام، حيث يعلقون المجرمين الصغار –او من قادهم الحظ العثر لأيديهم-من عرقوبهم، وينحنون مقبلين مؤخرات المجرمين الكبار. كل هذا انساهم انفسهم، ثم انساهم هؤلاء الذين يرقدون تحت اقدامهم، سواء من معدمين أو من لصوص صغار، أو من حالمين يريدون الحياة كما تظهرها الافلام التي تأتي من الشمال البعيد. سارت البهجة والوحشية جنبًا إلى جانب في الجموع، نشوة هي اقرب لما كان يحسه وهو يضاجع نعيمة فوق سطوح البيت خائفًا من أي زائر مفاجئ أو جار مرهف السمع. يعدو إلى الخارج والادرينالين الذي ملئ عروقه يبث في مخه صورة ذئب قوي، ذئب قوي نال ما يريد في غابة الحياة رغم كل الكلاب التي ملئت حياته.
وعندما خرج من باب المول، واتجه عدوًا إلى حيث رقدت الدراجات النارية، صدمته الحقيقة العارية فجأة: لم يجد الفسبا..