designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Thursday, February 25, 2016

في مديح إبليس


كانت لدي مدونة، أو بالأحرى، كنت نشيطاً في مدونة أمتلكها، وفي يوم من الأيام، وجدت مستخدماً يدعى "إبليس" يكتب لي: "هل أنت من كان يكتب في سلسلة مجانين وصدرت له رواية باسم كذا؟".

كانت التدوينة في عام 2005، والرواية التي قصدها لم تكن سوى فصلين من روايتي "اليوم الثاني والعشرون" قد نشرا في أخبار الأدب، وقتها كنت قد كتبت "مجانين" بالاشتراك مع أصدقائي الأعزاء أحمد العايدي ومحمد فتحي ضمن آخرين، ثم مجموعة قصصية بعنوان "الضفة الأخرى" في عام 2000 و2003، لم تكن "إنجيل آدم" قد صدرت بعد، ولا "اليوم الثاني والعشرون".

كان "إبليس" أو "بيسو"، اسماً مستعاراً لأحمد ناجي، وكان يمارس عبره كل ما يمكنك تخيله من جنون وتمرد، بدأت في متابعة ناجي، وأُعجبت تماماً بما يدونه من خيال بديع على مدونته، كيف يتخيل استيفان روستي في العتبة مثلاً، ثم صرنا نتبادل الملحوظات الإلكترونية بين وقت وآخر.

كنت فخوراً بأن أعرف شابا قد قرأ مجانين وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكنت معجبا بأسلوبه في تفكيك كل شيء، أخيرا صدرت روايته الأولى "روجرز" التي أعجبتني وكتبت عنها، وبعدها بسنين طويلة، ذكرني أحمد العايدي أنني من حرضت ناجي على كتابة الرواية، جالسين في قهوتي المفضلة في وسط البلد.

كان ناجي متمرداً، يعامل أجواء القاهرة الجديدة عليه بمزيج معتاد من السكون والسلاطة، فيكون سليطا بشيء من الوداعة كإبليس، ثم وديعا بشيء من السلاطة كأحمد، مضت به الأيام وكالعادة في حالة كاتب موهوب شاب انقلبت الآية، أو لم تنقلب في الحقيقة، أحمد لم يعد وديعاً لا عبر الإنترنت ولا في الحياة الدنيا، لقد فقد الخفر والتردد المبدئي في مواجهة القاهرة، والحياة ككل، هذا الشاب المتمرد الوديع شبه البريء الذي أخبر أخته بفخر أنه قد قابلني أخيرا في القاهرة، قد زج بنفسه في عالم من أزحم عوالم القاهرة وأكثرها قسوة وبريقاً: الطريق ما بين وسط البلد والمهندسين، والبشر في ما بينهما.

ناجي، هذا الشاب الذي يمكن أن تلخص حكايته حكاية جماعة كاملة من شباب مصر تحت الثلاثين، العديد منهم قد تحولوا لروائيين وإعلاميين وكتاب، والذين تربوا في أحضان جماعة الإخوان المسلمين، أو في عائلات سلفية حتى، ثم صحوا، وأبصروا، ثم تمردوا.

كان ناجي أكثرهم تمرداً، ومن أكثرهم موهبة، كانت مسيرة ناجي القصيرة هي أكثر ما يماثل الانسلاخ، أو الولادة، المعجزة الحقيقية التي نشهدها كبشر، المعجزة الوحيدة الحقيقية التي نصنعها كبشر.

بدا لي أحياناً أن هذه الجماعة، في جيل أوساط العشرينيات وأواسط الثلاثينيات الآن في مصر، هي سبب للفرح وسبب للحذر، فإن كانت قد انسلخت من معاطف الجماعة، وهو كل أسباب الفرح، فهي حذرة تماما من العلمانية، وهو سبب للحذر، إلا أن ناجي قد استأثر بكل أسباب الفرح، ولم يدع سبباً لأي حذر، إلا من قبيل ما نشهده دائماً من تنافر شخصي، أو أيديولوجي بداخل الهم الإنساني الكبير.

كان ناجي، بكل استفزازاته، وبكل سلاطته، وبكل خفة إحكامه أحيانا، ونزقه، وصلفه الأبله، هو نصر حققه التطور في هذا البلد، شخص يمكن للدولة المصرية الحديثة أن تقول: لقد تربى في بيوتنا وتعلم في مدارسنا، ولم يكن جاهلاً، لم يتحول إلى يميني متحفظ، ولم يتحول - بالطبع - إلى إرهابي، هذا الفتى في التاسعة والعشرين، أو في الثلاثين، هو نتاج كل ما حاولنا تنميته في مثل هذا البلد.

وكيف تكافئ مصر هذا الشاب، هذه الجماعة التي تركت الجماعة من أجل فضاء أرحب وأوسع؟

تكافئها بسنتين من الحبس في مقابل الإبداع.

...........................................................
نشر في جريدة العربي الجديد في ٢٥ فبراير ٢٠١٦. يمكنك رؤية المقال الاصلي هنا.

Thursday, February 18, 2016

الوطن ليس مسلسلًا


أنهى الفنانون عملهم: كانت هناك كلمات عربية مرسومة فوق الحائط.

توجه الفنانان المتحمسان، شاب وفتاة، لمسؤولي الإنتاج مبلغين إياهم أنهم قد أتموا عملهم، لم يتفحص أحد ما كتبوه، فقط ألقى أحدهم نظرة عامة، راق له المشهد؛ بدا فعلا كأرجاء معسكر للاجئين في سورية، شكر الفنانين وصرفهم.

بعدها ببضعة أسابيع، كان "دون ستون"، أكبر أعضاء الفريق الثلاثة، المسمى بـ "فناني الشوارع العرب"، يبدأ في التوتر جالسا إلى مكتبه، هل اكتشف المنتجون الأمر؟ راجع حسابهم البنكي: حسنا، لقد نجحوا. لقد دفع منتجو مسلسل "الأمن الوطني" (homeland security) مقابل خدماتهم فعلاً، ولم يراجع أحدهم الأمر.

كتب الفنانان، كرم كب وهبة أمين، العديد من العبارات، كان من أبرزها "الوطن عنصري".

جلسوا ينتظرون إذاعة الحلقة، لم يعرفوا أي حلقة هي في الموسم الجديد، ولكنهم كانوا محظوظين، ولم يضطروا لمشاهدة العديد من حلقات المسلسل السخيفة، لقد ظهرت عباراتهم في الحلقة الثانية بعدها بساعات، وكان بيان مجموعة "فناني الشوارع العرب" الذي أعلن عن اختراقهم للمسلسل (هي نفس مفرد hack التي ألفناها إلكترونيا)، ليكتب أن حلقات مسلسل الوطن عنصرية، ومليئة بالتضليل والادعاءات والدعاية للوطن الأميركي العظيم.

كتبت العديد من الجرائد الشهيرة عن الموضوع، وتناولتها العديد من البرامج الأميركية الساخرة، وكان حظي حسنًا حين عبرت بمكتب "دون ستون"، في ضاحية البرينزلاوبرج البرلينية الشهيرة، بعد إطلاق فيلم المجموعة القصير "الوطن ليس مسلسلا" عبر الإنترنت.

وعندما وصلت، حيّاني ستون بحفاوته المعتادة، ثم سألني إن كنت قد سمعت عن المقلب الذي فعلوه، أجبته بأنني قد سمعت شيئًا ما عن هذا، ولكنني أود سماع الحكاية كلها، قال لي هناك ما هو أفضل، شاهد هذا. وضعت السماعات وشاهدت الفيلم، ولكنه لم يكن تسجيليا فعلا، كان فيلماً فنياً يتناول ما حدث، ويقول وجهة نظر الفريق فيما فعلوه، قال لي ستون إن المخرجة الأميركية الشهيرة "لورا بويتراس" الحائزة على جائزة الأوسكار، قد استضافت إطلاق الفيلم عبر موقعها الإلكتروني المخصص لحرية التعبير.

في نهاية الفيلم استشهاد باختراق آخر، من فيلم "ويسترن" أميركي، حين يتلفظ الممثل ذو الأصل الأميركي بشتائم للغازي الأوروبي الأشقر الواقف أمامه، دون أن يفهم فريق التصوير الهوليوودي ما يتلفظ به، كنا نضحك أنا وستون على فكرة أن ما فعله الممثل، وما فعلوه هم، كان مدفوع الأجر، كان ستون مدفوعا دائمًا بنزعته السياسية، تذكرت كيف قابلته في المرة الأولى عبر صديقي العزيز مجدي الشافعي، مبدع رواية "مترو" المصورة، وكيف زرته لأول مرة في مكتبه، حين كنت أتأمل اللوحة التي يرسمها الصديق الفنان عمار أبو بكر، فوق حائط مجاور لمكتب ستون، مصورا شيماء الصباغ، كنت جالسا في برد برلين، مستعينا بشاي ساخن ولفافة تبغ جيدة، وبجواري كانت إيلين، التي ستعيش درامتها الشخصية بعد قليل جدا، حين يحتجز حبيبها المصري، الدكتور أحمد سعيد فور وصوله لمصر.

سألته: "ألم تخش أن يكتشف الأميركيون ما فعلتموه"؟ ذكرته بمشكلته مع السلطات المصرية حين صادرت كتابه "حوائط التحرير" قبل أقل من سنة، قال لي: "طبعا! كنت أنتظر ذلك، لكن لم يراجع أحدهم على أي شيء.. أي شيء البتة"، وددت أن أخبره كم أجد الأمر سخيفا حين يحضرون أحد الممثلين ليتلفظوا بأي كلمات ذات أصوات حلقية، ثم يبيعون ذلك للمشاهد الأميركي على أنهم "الارهابيين العرب"، كان ستون سعيدًا بما فعله، وكنت أنا سعيدًا أيضًا.

الوطن، ليس بالفعل، مسلسلًا مملا مليئًا بحكام كاريكاتوريين وأحداث لا تصدق.

فقط، لم أخبره أنني عندما رأيت الأخبار عما فعلوه، لم أفهم العبارة على محمل آخر، نعم: الوطن فعلا عنصري.

٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
نشر هذا المقال بصحيفة العربي الجديد في ١٨ فبراير ٢٠١٦، يمكنك رؤية المقال الأصلي هنا

Thursday, February 04, 2016

سيف الاسلام خيرت الشاطر



انتهت الذكرى الخامسة ليناير، سناء نزلت وحيدة، ويقال إن عشرات من الإخوان نزلوا وحدهم في مكان بعيد. في أيام انتخابات الرئاسة الأولى بعد الثورة، أو بالأدق قبلها بقليل، أخبرني العم حسين أنه لا يتمنى أبداً أن يفوز خيرت الشاطر برئاسة الجمهورية.


كان عم حسين أحد المترددين على ميريت بكثرة والجالسين معنا دوماً، بود شديد وأريحية كبيرة، وبذاكرة لا بأس بها أبدى للشعر والأغاني اهتماماً، حتى حسبت أنه صديق لأحد الشعراء الكثيرين الذين يعبرون بالدار الدافئة والكبيرة مقاماً ودوراً، قبل أن أفهم أنها لأسباب تجارية، استطالت بعمق الصداقة التي بناها بعدد لا بأس به من أصدقائي.

هكذا كنت أتخيل أن يرد علي من زاوية أيدولوجية مؤكدة، ولكنه تابع بحماسة "طيب بذمتك دي خلقة الواحد يصطبح بيها متعلقة في مكاتب الحكومة؟!" قالها بحرقة أثارت ضحكي، ليتابع مرة أخرى بجدية ما "لا والله بجد يا عم علاء، طيب يعني السايح من دول ينزل المطار يشوف الخلقة دي ويرجع أزاي طيب؟!".

يجادل بعض أصدقائنا من الإسلاميين بتفاصيل كثيرة عن فكرة واحدة: الغرب الشرير الذي يريد مسخ هويتنا وحضارتنا، يبدأون من أول تكليف أتاتورك بهدم الخلافة، أو للحق يبدأون من عمالة رفاعة الطهطاوي لفرنسا ومحمد عبده للإنجليز، عابرين بعمالة سعد زغلول للقمار تقريباً وكونه ربيباً للورد كرومر، غير ناسين - طبعاً - طه حسين، ولا نجيب محفوظ، ولا الرئيس المؤمن أنور السادات الذين قتلوه بأنفسهم، أو قتله بعضهم.

يجادلون بكل حمية، وكل حماس، في أن كل تطوير للدين هو بسبب العمالة، وأن كل تحديث للسياق هو بدع مكروهة والعياذ بالله، وأن كل هذا التاريخ تاريخ منحول من خونة ومتهاونين ومتعاونين وكفرة، وبالطبع سيضمون أحمد لطفي السيد لو يعرفونه من أصله، دعنا من لويس عوض، فيكفيه اسمه.

طيب، وإن كانت مسألة هيمنة ثقافة على أخرى مثاراً لجدل أكاديمي برع فيه أصدقاؤنا الشيوعيون من دول الجنوب عامة، وإن كانت زاوية "إعادة كتابة التاريخ" لها بريقها الحاد لدى أي ذهن حاضر وإبداعي، فيمكنني فقط أن أسألك كيف اختار الإسلاميون لأنفسهم، بمحض إرادتهم ورغبتهم، مظهراً أشبه بأبي لهب وأبي جهل في الأفلام المصرية الإسلامية القديمة؟! كيف تحول "المسلمون" - كما يروق لهم تسمية أنفسهم - إلى "كفرة"؟!

كيف راقب المصريون بذعر في جمعة الخلافة الإسلامية أو ما شابه، التي دعت لها كل الحركات الإسلامية السلفية فأتي لها الناس من 17 محافظة كاملة، بميكروباصاتهم بأكلهم بأطفالهم بزوجاتهم بذقونهم بجلاليبهم بزبيبتهم، ليعجزوا عن ملء شارع سموه تجاوزاً بميدان النهضة، كيف راقب المصريون هؤلاء "المسلمين" وهم يصرخون في وجوههم، ويتشنجون فوق المسرح، في حدث حرص دهاء العسكر على كونه التظاهرة الوحيدة في تاريخ مصر التي تفتح فيها ميكروفونات التلفزيون بلا وقت محدد، ويغطيها الأخير بـ"كريين" - رافعة كاميرا - تصول وتجول في بانورامية، لتصل أصداء المشهد العجائبي لعيون كل المصريين، حين خطب فيهم "المسلمون" ثم تبعوا الخطبة بصلاة صلوا فيها صورة "الفتح" دون غيرها من سور القرآن الكريم.

كتبنا كثيراً في خيانة النخبة، ولكن، دعنا فقط نسأل: كيف تحولت صورة خيرت الشاطر إلى صورة أشد قبحاً واستغلاقاً من صورة عدلي كاسب في فيلم هجرة الرسول؟! كيف فاقت حقيقة رجل الإخوان المسلمين القوي خيال مخرج الفيلم في دور أبو جهل؟! بل كيف يتحمل بعض المصريين ما لا طاقة لهم به، فقط من أجل ألا يرجع هؤلاء؟!

وفي سياق متصل، وفي أرجاء ميريت أيضاً، قال لي الموك (اسم تدليل صديقنا أحمد أبو المكارم) إنه يتمنى فوز شخص يليق بالرئاسة، "رئيس فـِخـِم" على حد تعبيره. والحمد لله لم يصل أبو لهب المسلم لرئاسة الجمهورية، ولا حتى "الفـِخـِم".
...................................................................................
نشر هذا المقال في جريدة العربي الجديد بتاريخ ٤ فبراير ٢٠١٦. يمكنك رؤية المقال الاصلي هنا