designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Sunday, August 04, 2013

ثرثرة فوق النيل: البداية


في يوم من الأيام، ذهبت إلى قهوة الحرية، قريبا جدًا من المكان الذي ولدت وعشت فيه في وسط مدينة القاهرة، ووجدتها مغلقة.
كان هذا منذ سنة او أكثر، وعلى الفيس بوك، كتب بعض الناس ان السبب في ذلك هي حكومة الاخوان المسلمين، والهدف هو اغلاق آخر قهوة تقدم البيرة المثلجة في القاهرة، هذا التقليد الذي كان منتشرا في كل انحاء القاهرة، مصحوبا باعلانات البيرة في الصحف وعلى واجهات البيوت، قبل ان تطاردها حكومة ثورة 52 "العلمانية"، وتنهيها تماما اتساع مساحة المحافظة والتدين، التي جاءت من قرويين لم يعتادوا على شوارع المدينة المليونية، ولم يألفوا طرائقها، بل كانت لهم مصدر كل شر.
كانت هذه هي القهوة التي كنت اجلس فيها مع حب حياتي الضائع، ومع نسوة اخريات، وعبرها عرفت كثيرا من الاصدقاء الاجانب، وهي ذات القهوة التي كان جدي يجلس فيها، كما يقولون، مع إيزاك "زكي" مراد، صديقه اليهودي العزيز  ووالد المغنية المصرية الشهيرة، ذات الصوت العذب، ليلى مراد. لم تكن الصورة بهية جدًا ايضًا ايامها، فقد كان الشعب المصري يكتتب لشراء احذية للحفاة المنتشرين في شوارع العاصمة، حتى لو اتسمت بطابع اوروبي عتيد، في جزءها الإسماعيلي، ولربما كان بعضهم يعبر بميدان الأزهار-اسم ميدان باب اللوق حينها- لينظر لداخل الحرية باستغراب ما، وربما بشوق.
هي ذات القهوة التي تعود أن يجلس فيها صديقي العزيز واخي الاكبر-كما يحلو له أن يصف نفسه- بهاء طاهر، ايام ما كان يعمل في الاذاعة المصرية قريبا من قهوة الحرية، في تلك الايام البعيدة حين كان شابا، وقبل أن يهرب من نظام السادات إلى اوروبا، وكان يحلو لي أن اتخيل أن جدي، النبيل المصري العجوز، قد شارك نفس المساحة المكانية والزمانية مع شاب ناصري متحمس، كبر ليكون اديبا كبيرًا، وليصادق حفيد شارد لذات الرجل الستيني ايامها، وشاءت الصدف أن يضرب بذات الولع: الأدب.
المهم، بعد قليل من الوقت، فتحت الحرية ابوابها، وظهر انه الموضوع كان في التجديدات وضبط التراخيص، وهنا تذكرت ان الحرية قد اغلقت ابوابها لفترة قبل ذلك ايضًا، في ايام حسني مبارك، وكان لنفس السبب. وبعد ان فتحت ابوابها في المرة الأولى، كنت مستاءً لأنهم غيروا المناضد القديمة من الرخام البلجيكي البديع (رغم تهالكه) ليضعوا مناضد رخيصة عليها اعلانات لبيرة ستلا (البيرة الوطنية)، ولكنني اعترفت لنفسي بأن الكراسي الآن افضل. لمحت لوحة عليها نجمة واحدة، وراء صاحب القهوة الربعة ذو العينين الحادتين: لقد دخلت الحرية التصنيف السياحي.  
وعندما جلست لأخذ مشروبي من النادل ميلاد، الذي يتميز بقفا خنزيري، متضخم وبديع، نظرت ثانية لثقب الرصاصة في اعلى احدى النوافذ، حين طارد الجيش الناس في الشوارع واطلق النيران الحية هنا وهناك، وقلت لنفسي: سنغلبهم. لم اكن اقصد الجيش وحده، كنت اقصد الدولة القديمة التي كانت تضع لنفسها قناع الاخوان هذه المرة. كنت اقول لنفسي سنغلب الإخوان، لن يستطيعوا أن يغلقوا الحرية.
وبالفعل، منح الاخوان ترخيصا للكباريهات-وليس فقط مقهى البيرة- بثلاث سنوات، واقيمت-للمرة الأولى منذ 52 على حد علمي- جنازة لعميدة الطائفة اليهودية، اضافة لاجراءات اخرى عديدة: لم يكن الأمر للطافة عميقة يبديها الإخوان، بل بفعل ضغط كل فئات المجتمع عليهم، هذا الضغط الذي انفجر في يوم الثلاثين من يونيو.
ولكن، وفي يوم أن رسمت الطائرات المصرية المقاتلة قلوبا في السماء للمتظاهرين في ميدان التحرير، كنت بجوار صديق عزيز لي، وبدت منه ملحوظة عن أن اليوم يبدو أكثر حرارة من ذي قبل، قاطعنا عجوز عابر وقال "الجو زي الفل!". بدا، وبشكل عبثي تماما، أن اي مساحة من الإختلاف قد لا تكون مقبولة بعد اليوم. الفاشية بالنسبة لي هي أن تكون في حجرة مع خمسة من الافراد، وتقول رأيا سياسيا يخصك، فتجد اربعة منهم يهاجمونك بعنف لإسكاتك، بينما يمكن أن يسكت الخامس، فتكتفي بأن تصمت في المرة القادمة أنت ايضًا. في ايام الإخوان، ولو كنت في نفس الحجرة، فستجد أن الاربعة قد لا يتفقون معك تماما، ولكنهم يسمعونك، وقد يصمت الخامس أيضًا.
هذه ليست، مجددا، للطافة يبديها الإخوان، ففهمهم للديموقراطية لا يختلف كثيرًا جدًا عن حسني مبارك، ولكن لأن المجتمع، كما ارادت ثورة يناير، كان يحتفي بالاختلاف، ببساطة لأن هناك توازنات صنعها واقع مصر قبل 30 يونيو، الذي جاء هذه المرة في مديح الدولة القديمة، في مديح الشرطة والجيش واجهزة المخابرات، في مديح الوحدة.
ومنذ ايام قليلة، ظهر الجنرال السيسي، مرتديا بيونوشيه، بهذا الكاب والنظارة السوداء والزي العسكري، وأمر الناس أن ينزلوا ليأمروه بـ"القضاء على الإرهاب". انت لم تقرأ العبارة بشكل خاطئ، ففي مصر ، التي يبدو احيانا انها تمتلك منطقًا يخصها وحدها، يمكن أن تقع مثل هذه الاشكالات المنطقية.
وبالفعل، لبى "الشعب" الأمر، أو دعنا نستخدم لغة السيسي ونقول "الرجاء"، ونزل باعداد غفيرة إلى الميادين، فيما نعرف انه كارت اخضر ليس للقضاء على الارهاب، بل، وبشكل اكثر صراحة أو قسوة: القضاء على الإخوان. وفي ذات الليلة، فض الجيش اعتصام القائد ابراهيم والارقام في الجرائد تتحدث عن ثمانية من القتلى، وجرت اشتباكات في رابعة العدوية ادت لموت ما يقارب من الثمانية وثلاثين إلى مثة وعشرين مدنيًا.
مناخ ارهابي مهدت له عبارات واسلوب في التفكير لا يفرق عن جورج دبليو بوش، وحملة لتشويه من يقفون-او سيقفون- بعيدًا عن الدولة: هم إما "خلايا نائمة" للإخوان (وهو تعبير فاشي بديع)، أو عملاء للسي آي إيه، أو متهتكين، أو-وبشكل اكثر طرافة-قد يكونوا عملاء لأجهزة الأمن المصرية ذاته. لي عمة متحمسة، من مؤيدي شفيق، تخانقت مع صديقة عزيزة عليها عبر اسلاك التليفون لأنها ابدت شيء من الرحمة، أو من الموضوعية، ثم جاء الاتهام الصارخ "انتِ اخوانية!".
في مصر قوتين مهيمنتين، الاسلام السياسي والقومية، يبدو أن الاسلام السياسي قد فقد بريق كثير حتى الآن، ولكن الخوف كل الخوف أن يستفيد من خطاب المظلومية، واعتراف جزء كبير من المثقفين بانهم في صف "الفاشية العسكرية"، ليعودوا اقوى مما كان، وكما كانت اجهزة الأمن "بالغة الذكاء" في تحميل الفاتورة كاملة للإخوان في كل شيء منذ الخامس والعشرين من يناير، فقد نجد من يحمل الفاتورة كاملة للجيش والمخابرات فيما بعد الثلاثين من يونيو، والاكثر طرافة، والمثير للشك في قوى الدولة العقلية، أن تجد تسريبات من بعض المحسوبين عليها تؤيد تدخل الجيش لصنع الثلاثين من يونيو. المواطن البسيط سينظر لرجوع المرافق العامة المعطلة من بنزين وانقطاع متكرر للكهرباء للعمل بشكل منتظم، وسيفهمها بدوره. المؤامرة حقيقة في أرض المؤامرات.
أما القومية، فهي تبرز الآن في الخطاب شبه الناصري لثلاثين يونيو، وتشبيه السيسي بجمال عبد الناصر، وهي تواجه تحديًا في العبور بالدولة المصرية من الفشل، أو، وبشكل يثير القلق، قد تتجه للحكم بمبادئ الإسلام السياسي وليس بجماعاته، لتحصين نفسها بالنسر ذو الرأسين: المادة الأولى في اعلان 30 يونيو الدستوري يقرر المادة 213 التي نزلت انا وغيري للأعتراض عليها تحديدًا: حكم أهل السنة والجماعة. دولة البشير.
في مساء الثلاثين من يونيو، عبر بقهوة "غزال" في وسط بلد المدينة العجوز، رجل مستهجن، نظر لما حوله وقال بصوت عال "هما فرحانين على ايه؟! تقولش كسبنا كاس العالم؟!". وعلى الناحية الأخرى، بعد الثلاثين بقليل وجدت مبادرتين لـ" استكمال ثورة يناير" احداها برعاية أهداف سويف، في بريدي الاليكتروني.
وفي مثل هذه الأجواء، التي يبدو أنها ستلازمنا لفترة طويلة، قد تجد اناسا آخرين، من فئة ثالثة، يكتفون بالجلوس على قهوة الحرية، ليجرعوا البيرة، ويقولون تلك الكلمة الشهيرة، التي كانت لازمة أنيس، بطل رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل": طظ.
........ ...................................................................................
نشر هذا المقال في الرابع من اغسطس، 2013، بجريدة النهار اللبنانية تحت عنوان "ثرثرة فوق النيل", يمكنك رؤية المقال هنا

Friday, August 02, 2013

كيف يسرق الجيش 30 يونيو?


في مقابلة قريبة مع جريدة مصرية إليكترونية، سُألت فيها شهادة عن ثورة 52، ووضع العنوان كالتالي: "ثورة 52 عبرت عن بعد أصيل في الشخصية المصرية"، بينما سميت شهادة صديقي العزيز نائل الطوخي "مصر تعيش ناصرية جديدة بقيادة عسكري شاب يتحدى أمريكا".
بالطبع هذين العنوانين يعطيان القارئ إنطباعًا معينًا، ولمن سيقرأ الموضوع ذاته، وهم بالطبيعة اقل ممن سيشاهدون العنوان فحسب، فسيجدوا أن كلامي كله قد كان انتقادا عنيفًا لما قلت عنه "ثورة يوليو، أو انقلاب يوليو العسكري"، ولكنني ومن باب ادعاء الموضوعية قلت بالفعل أن يوليو عبرت عن جانب اصيل في الشخصية المصرية، هي لم تجئ الحكم على باراشوت، ولكنها غذت هذا الجزء ودعمته. صديقي العزيز نائل الطوخي قال كلاما شبيها ولفظ ناصرية بالنسبة له لا يحمل التمجيد الذي يفترضه سياق العنوان. المهم كلانا يرى ان  30 يونيو قد تكون شبيهة بيوليو، وهو المطلوب اثباته والسلام، بدون السؤال: أهذا جيد أم لا؟!
اثق في الصحافية الصديقة لأنه قد تم نشر شهادتي وكلام نائل بكل أمانة، ولكن الديسك هو الذي اختار العناوين، التي تتسق مع "سياسة المكان التحريرية"، كما تخبرني خبرتي بالصحافة.
بالضبط مثلما يظهر اللواء سامح سيف اليزل ومن شابهه على شاشات وصفحات الإعلام مع 30 يونيو، حتى قبل دعوة السيسي للتظاهر، ليؤكد على انها “ثورة الجيش".
الذاكرة الجمعية تفيد في مثل هذه الأمور الذي تتغير فيها المواقع بسرعة الصاروخ، فمثلا بقت تمرد حتى إنذار الجيش في 30 يونيو كحركة تدعو لاجراء انتخابات رئاسية مبكرة، اي بوضوح داخل دائرة الدستور والاجراءات الديموقراطية: حتى في صيغة بيان الجيش الذي خلع به المرسي، كان التركيز على "انتخابات رئاسية مبكرة" في نفس الوقت الذي "علق" فيه الدستور ولم يُلغى. عبث قانوني معتاد من الدولة المصرية.
على العموم، اقصد أن هناك الملايين قد وقعوا من اجل انتخابات رئاسية جديدة، وملايين وقعوا على أمل اجراءات ثورية انتعشت آمالها بتسريبات الصحافة فيما بعد بيان الجيش الأول في شهر يونيو ثم بعد الانذار نفسه، وهناك مجموعات داخل هذه المجموعة رهنت موافقتها على الاجراءات الثورية بتنفيذ شروطها التي لن تكتمل لدونها، وهي للبعض علمانية للدولة، وللبعض تركز على القصاص، وللبعض على القضاء الكامل على الإخوان من باب ثورية القرن الثامن عشر، اجمالا، نستطيع أن نقول أن جزءًا لا يستهان به من الثوريين هؤلاء يركزون على اعتبار الاخوان و المؤسسة العسكرية خصمين.
يمكن أن يدفع هنا بحزب الكنبة الذي يحب الجيش حبًا جمًا، وجزء لا يستهان به من الفلول يشاطرهم ذات الشعور، وأن هذه الجماهير نادت اساسا برجوع "الدولة القديمة" فيما يمكن توصيفه بثورة مضادة حقيقية،وأن الثوريين بالوانهم المتعددة لم يكونوا مؤثرين حقًا فيما يحدث.
حسنًا، الكلام عن رجوع الدولة القديمة حقيقي ولكن ليس إجمالا:  أولا ما يسمى بحزب الكنبة لا يمكن نسبته كله للجيش، ارجو ألا ينسى من يقولون بذلك أن جزءًا كبيرًا من "الكنباوية"، المنتمين في قسم كبير منهم للطبقة الوسطى كما نفهمهم، لا يجدون هوى عميق لدولة قومية ستينية، ولديهم ميل غربي واضح، وهي نقطة مهمة امام خطاب الجيش القومي المعادي للولايات المتحدة والغرب عامة في كلاسيكية تاريخية. الحديث عن "رجوع دولة مبارك"، أي الدولة البوليسية الليبرالية اقتصاديًا وارد جدًا هنا، ولكن ليست دولة ناصر الستينية كما توحي اشارات وتسريبات عن هوى الجيش، بالنسبة لهذه الشريحة.
 لقد مشيت في مسيرة لما سمي تندرا بـ"الثوار الانقياء"، وهي المسيرة التي كانت ضد العسكر والإخوان، ورغم التندر، ومخاوف الاعتداءات المدبرة علينا سواء من الاخوان أو من الدولة القديمة، فقد كانت مسيرة ضخمة لا يصل مدى البصر إلى آخرها، حياها الناس العاديون "الكنباويون" من النوافذ، والقوا لها بزجاجات الماء، رغم الهتاف الواضح ضد الصنوين العتيدين لمتاهة مصر الإغريقية.
قبل مظاهرات 30 يونيو اتفقت تمرد على اعتماد "الشعب يريد اسقاط النظام" كشعار رسمي، وفي اثناء المظاهرات السابقة لقرار الجيش عزل المرسي، كانت الهتافات لتأييد الجيش والشرطة تردد باستحياء، ولا تتكرر كثيرًا لوعي من الناس بضرورة عدم الشجار، والبديهي أن تجنب الشجار يعني أن هناك فرصة جيدة له.
حتى بعد انتهاء مهلة الجيش، وانتظاره لساعات ثلاث قبل اصدار بيانه، كنت ارى من الناس من هم اشد مؤيدي الجيش يبدأوا في التوتر ويهددوا بأن الجيش سيكون خصمًا إن لم يتحرك، ساعد في ذلك أن موقف الجيش كان ملتبسًا حتى في بيانه الأول، لقد استخدم لغة يمكن لكل جماعة ان تفسرها على هواها. يمكن تفسير هذا بخداع تكتيكي نفذه الجيش لتضليل الإخوان، أو ببساطة اختلاف للرؤى في الجيش تحرك حسمته الساعات الأخيرة: يمكن النظر لمقولات السيسي عن "عروض الجيش الاخيرة للمصالحة واجراء استفتاء" على انها اخبار صحيحة تعبر عن رؤى متعددة داخل الجيش، وليس فقط لتحميل الطرف الأخر كل المسئولية.
في اشتباكات ماسبيرو، تصاعدت النقمة من محبي الجيش عندما تأخر في التدخل، وكان واضحًا ايضَا أن اي بطء من الجيش يمكن أن يفجر غضبًا عليه حتى من اشد مسانديه: عندما جاءت اربع مدرعات تابعة للجيش بعد الاشتباكات، لم يتجمع حولها سوى ثلة بائسة بصور السيسي وانا اتكلم عن الوضع في حينه بالطبع.
على كُل، الهدف من توضيح ذلك هو أن نقول أن حتى بعض محبي الجيش من الناس العاديين قد تحركوا لما يريدونه، دون النظر لما يريد هو.
أما الثوريين، فقد انتعشت آمال الثوريين الذين يؤمنون بحق الثورة في "خلق" مجتمع ودولة جديدان، وبعض الثوريين الديموقراطيين الذين يفهمون الثورة على انها "فرض" لشكل محدد لدولة على مجتمع، مع بعض الثوريين الديموقراطيين الذين يؤمنون بحق الثورة في "عرض" شكل دولة على مجتمع، عندما تسربت اخبار عن ان الرئيس القادم سيكون شرفيًا، وأنه ستكون هناك حكومة للثورة بصلاحيات رئيس الجمهورية، مع صيغة لمجلس الأمن القومي لسنة 68، واكاد ازعم أن بعض لا يستهان به من هؤلاء-وانا منهم- داخلهم الشك الكبير ايضًا في أن يوفي الجيش بهذا الاتفاق، ورأوا أن صيغة "مجلس رئاسي مدني" هي الاصلح إن كان المسار ثوريا، اي بما يتعدى الدستور والقانون. واستطيع أن اقول بحزن أن هؤلاء الناس على حق. أي، لمرة أخرى، كان هناك قطاع واسع من الناس التي لا ترى في الجيش حاكمًا لمصر.
بل أن المفارقة تأتي من أن الثوار الذين ينتقدون شعار "يسقط يسقط حكم العسكر" بداعي أن "العسكر لن يحكموا ثانية"، هم من يدعون الآن، ومنذ امد بعيد، إلى احتمال الفاشية العسكرية. المفارقة تأتي أنه حتى لما يحاول الجيش تصويرها على انها "ثورة الجيش" من طرف خفي، كان هناك حرص تام على أن يؤكد في بداية المرحلة ان "الجيش لن يحكم ثانية"، و"هو لا يحكم"، ليس فقط لارضاء الاطراف الخارجية، وهو شيء مهم بالطبع، بل لاجتذاب كتلة كبيرة من الثوريين إلى المظاهرات أيضًا واسكات من يحاولون تصويرهم بـ"راديكاليين".
وبتقدم الأيام، ورغم الاتفاقات،اصبح واضحًا بالاعلان الدستوري، وتشكيل حكومة لا تنتمي للثورة كرئيسها واغلب وزارئها، ورئيس بصلاحيات اوسع من صلاحيات مرسي، واستبعاد البرادعي إلى منصب نائي الرئيس ومحددا بـ"العلاقات الدولية" فيما يشبه وضع محمود مكي، الذي كان-وياللطرافة-نائبا لرئيس الجمهورية دون تخصيص ملفات بعينها، اصبح واضحًا أن الجيش يختطف 30 يونيو، بل يقوم بالهجوم المعاكس على “اعداءه”، ليس فقط الإخوان الذين لم يعودوا يأملوا إلا في "الخروج الآمن"، بعدما انتهوا سياسيا منذ أمل بعيد بدأ بإعلانهم الدستوري، بل على ثوار يناير اساسا.
والآن، وبعد دعوة السيسي، يبدو وكأن الجيش يصر اكثر على تأكيد نسبة 30 يونيو له،بعد قصف مدفعي مكثف من اعلامه، يزداد في كل يوم. النتيجة المنطقية تبعا لهذا هو اخصاء الثوريين المختلفين معه، سرقة تفويض من عتاة الكنباويين، والحصول مرة اخرى على تأييد مشروط من بعض الثوريين يستخدمه لمرة ثانية كمطلق. وفي مجتمع تحكمه نظرية المؤامرة، اكبر خطر على اي ثورة هو ان تقتنع الجماهير-سواء بناءً على توجيه معنوي، أو على طبيعتهم البارانويدية اساسا- بأن ما حدث نتيجة "مؤامرة داخلية", هذه فكرة سرت بعد ثورة يناير واثرت تماما في زخمها ولكنها لم تفلح في خنقها، أما في يونيو فالخوف أكبر، ليس مؤكدًا، ولكنه بالتأكيد أكبر.
اكبر دليل على أن مصر تتحول لما يمكن أن يسمى بـ"الفاشية الحمقاء" هو تردد الملايين من الثوريين الذين يرون كلمات "الميدان الثالث" معبرة عنهم في الانضمام له، لأن الصورة هي أن من في الميدان الثالث هم "إسلاميين". يمكننا ترديد اسماء واشخاص ليسوا اسلاميين انضموا للميدان، مما يتم تسميته حاليا بـ"الخلايا النائمة" في فاشية اخرى بديعة، ولكن ليس هذا الهدف، الهدف هو التنبيه أن الثوريين قد تخلوا عن خطابهم هم بالاساس،بل بعضهم يدينه بشدة، منذ "الثوار الانقياء". خطأ فادح اولا ان حولوا هؤلاء  إلى  "راديكاليين"، ثم ثاني اكبر خطأ فادح في ان يحطمون هم انفسهم هذه "الراديكالية" في انحياز للدولة القديمة، التي ما انفكت تنقض اي تفاهمات أو اتفاقات عقدتها معهم، فيجيئون لها بلا انياب أو اظافر، ويتحولوا من ثوريين إلى موظفي دعاية وعلاقات عامة، ثم يتم تجاهلهم بعد انتهاء دورهم.
الجيش يشن حروبا قذرة حاليا ضد معارضيه، وسيستغل حتى انسانيتهم في تبرير أي اتفاق قد يبرمه مع قطبه التاريخي أمام ثوريي القرن الثامن عشر الذين قد يخيب املهم فيه، فيلوموا المعارضين. هذا التوازن في حد ذاته يثبت أن 30 يونيو كانت تلاقى لاطياف متعددة التوجهات مهما اختلفت نسبتها، وأنه لا يوجد طرف وحيد يمكنه ادعاء ملكيته، ولكن الجيش يتصرف كما فعل ذلك المحرر في الجريدة الأليكترونية: الايحاء بالاتفاق مع الرؤى الرسمية، رغم كل التناقضات.
 الجيش يسرق 30 يونيو بخطا متزايدة ويحصل على تفويض شعبي، واكبر خطأ يقع فيه الثوار هو التسليم له بذلك، لا الضغط عليه، أو حتى معارضته.