قبل ثلاث سنوات، كنا مع العم حسين، صديق الأدباء وجليس المثقفين، أنا وثلاثة من الكتاب المحترمين، في قهوة شعبية صغيرة، تشرف على المدافن في منطقة مصر القديمة.
كان الرواد القليلون يستمتعون ببعض من الشاي الخمسينة وما تيسر من أنفاس الشيشة القص أو التمباك، كان الجو عصرًا، ونسمة رقيقة تهب علينا من حيث يرقد الأموات بلا قلق، والنور في الهواء لطيف لا يعقد الحاجبين.
كان الرواد القليلون يستمتعون ببعض من الشاي الخمسينة وما تيسر من أنفاس الشيشة القص أو التمباك، كان الجو عصرًا، ونسمة رقيقة تهب علينا من حيث يرقد الأموات بلا قلق، والنور في الهواء لطيف لا يعقد الحاجبين.
كنت أجرع من كوب الشاي أمامي عندما وجدت هذه الكتابة بخط مهتز، ولكن تصميمها ظهر عبر إتمام العبارة "الشعب في خدمة الجميع"!
التفتّ إلى العم حسين، وسألته "ما هذا؟!"، ضحك وشرح لي أن الحاج صاحب القهوة قد تملكه الحماس، بعدما نجحت الثورة، فقام بإزالة عبارة "مبارك نعم" -التي زاحمنا بها الأمن في عدة مناطق في الثمانية عشرة يوما الخالدة-، وقرر كأي مواطن شريف، كتابة عبارة فخيمة تليق بالمرحلة.
وبينما أنا أرشف الشاي مجددًا، وأنفث بعض دخان المعسل الذي تتبدل أحجاره بسرعة الصاروخ، أخذت أفكر في التركيبة اللغوية التي اعتمدها الحاج لكتابة شعاره، بالطبع تستدعي التركيبة شعار البوليس الخالد "الشرطة في خدمة الشعب"، وهو الشعار الذي تتقاسمه معنا بضعة بلدان عربية، حتى وصل الموضوع بالنظام الأسدي لتقديم "جهود" الشرطة في برنامج سوري يحمل ذات الاسم!
لا أعرف شخصيًا من ابتكر هذا الشعار: لعله تقليد اعتيادي لشعارات أوروبية، لكن المعنى كان موحيًا، دعنا نركز فقط في مصر: وزير الداخلية شعراوي جمعة (وهي نفس تركيبة اسم المليجي طه مثلا) يرعى مؤتمر المثقفين في عام 68 ومعه مستقبل مصر الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، ثم نرى السيد ممدوح سالم الذي كان وزيرًا للداخلية ثم رئيسًا للوزراء، لا يمكننا قول أي شيء يزيد عما يقوله لقب النبوي إسماعيل: الدموي إسماعيل.
نعرف زكي بدر طبعا، وعبد الحليم موسى شيخ العرب، وصولاً لحسن الألفي، وهذا الرجل يحسب له شيء، لقد قرر التوقف عن مثل هكذا سخافات، لم يغير من خدمات الشرطة للشعب، ولكنه غير الشعار أصلا في مرحلة من التصافي والشفافية والانفتاح، ليجعله "الشرطة والشعب في خدمة الوطن".
ما زلت أتذكر حوار له قرأته في العزيزة "روزا اليوسف" حين قال بكل أمانة: "نحن نسجل للناس ومن يخاف لا يتكلم ونحن لا نعمل لحساب إسرائيل"!، كان رجلا أمينًا، انتهت حياته المهنية بصوت حلقي من مبارك -وهو الوطن طبعا كما نعرف- بعد مذبحة الأقصر، ثم أتى مبارك بكمال شناوي الوزارة، اللواء حبيب العادلي، أو "حبيبي إلعبلي" مثلما ذهب أحد الأصدقاء بدون ذكر أسماء، طبعا.
انتهت مسيرة العادلي بصوت حلقي كبير من الشعب، ليأتي اللواء محمود وجدي، ليقرر إعادة الشعار القديم "الشرطة في خدمة الشعب"، وهو الأمر الذي تصفه صفحة كلية الشرطة على الإنترنت بـ "ليبدأ جهاز الشرطة مرحلة جديدة في تاريخه يؤدي دوره الوطني في إطار يقوم على: الديمقراطية والنزاهة وسيادة القانون وعدم التدخل في الشأن السياسي"، والنتيجة معروفة.
ويبدو أننا لا نحب الصريحين والنزيهين والشفافين مثل حسن الألفي، بالضبط كما هي سخرية حياتنا: كيف يضطر الناس لخوض حروب مع من يفترض بهم حمايتهم: مع من يفترض بهم تطبيق القانون!
قابلني العم حسين في ميريت بعدما توقف عن شرب الشيشة، ليقول لي إن الرجل، بإخلاص مواطن صالح بوليسي، قد أزال عبارة "الشعب في خدمة الجميع"، لا أذكر أنني سألته عما كتب مؤخرًا من عدمه، ولكنني أذكر أن عم حسين قد لامني على ذكر هذا "الإفيه" في حضور إبراهيم داود الذي كتبه على صفحته في موقع فيسبوك، قلت له: لا عليك، إبراهيم داود صياد جواهر أيضًا، والشكر للحاج البوليسي الشريف.
فتحت موقع فيسبوك، وقرأت وشاهدت ما تيسر من خطبة الرئيس طبيب الفلاسفة عبد الفتاح السيسي، قلت لنفسي إن الحاج قد تسرع، عبارته الصادقة هي أليق ما يمكن إطلاقه على المرحلة: الشعب في خدمة الجميع.
"صبح على مصر".
...............................................................
نشر هذا المقال في جريدة "العربي الجديد" في ٣ مارس ٢٠١٦. يمكنك رؤية المقال الاصلي هنا
No comments:
Post a Comment