بعثت لي د. أماني فؤاد بتلك الدراسة البديعة مما يقرب على شهرين، وكعادتي لم انشرها، كديدني بخصوص أي مواد تخص نقد أو المتابعة الصحفية لكتبي – إلا فيما ندر- ولكنني، وأخيرًا، ارتأيت إشراك الأصدقاء والمهتمين بتحليل د.أماني الرائق، الذي طالعته قارئًا محايدًا كما أحاول دائمًا، ولكن ألمعية ملاحظات بعينها في تحليلها استفزت الكاتب داخلي، وجعلته يبتسم باعجاب في كثير من المرات.
في النهاية اشكر د. أماني فؤاد على جهدها الوافر ووقتها الثمين الذي خصصت منه قدرًا لا يستهان به في قراءة وتحليل هذا العمل.
********************************************************
الذوات الافتراضية والبنية في رواية ما بعد الحداثة
د. أماني فؤاد
**********************
يكتب الروائي محمد علاء الدين ذاتاً إنسانية واحدة، ومنها يُخرج لعبة من الافتراضات المحتملة لذوات متعددة ، ذوات يدور بينها صراع أزلي ، تتحكم فيها غرائزها وشهواتها، أطماعها ونزواتها ، ورغبتها في التميز والظهور، ذوات من الممكن أن تتكرر في كل زمان ومكان، ولذا يكتب إنجيل جديداً لآدم يرى فيه أن الإنسان هو الكيان الأول والأهم في هذا الوجود، هو الإله وهو كل هذا المتعدد من الأشكال والأهواء البشرية المتباينة، هو الإرادة العليا وفيه ينطوي العالم الأكبر.
من مشهد آني شبقي، يمكننا أن نصفه بقدرته على التكرار، داعياً إلى الملل، يبدأ الكاتب روايته " إنجيل آدم" ليخرج لنا من ذات واحدة " الجاهل الجرىء الأحمق" أطرافاً متعددة ممكنة تخلق صراعاً أزلياً وقائماً إلى ما لانهاية .
ويهيىء المبدع لرؤيته الفكرية بنية فنية ، وتشكيلاً متعدد المستويات، فالعمل يتدرج إلى مراحل وتحولات ثلاثة ليعود إلى نفس نقطة البداية ، يبدأ من اللحظة الراهنة وقت كتابة العمل (2006م) في ميدان بوسط مدينة القاهرة ، يحرك فيه الروائي عينة بشرية لينسج أطراف صراع بين مجموعة من مختلفي الأهواء، تُحركهم شهواتهم الغريزية ورغبتهم في التحقق والصعود والشهرة ، أو نزعاتهم السادية ورغبتهم في التحكم بالبشر ، العينة البشرية ممثلة في (الجاهل الجرىء المهزوم) ، (الجاهل الجرىء السوقي)،( الفنان المرهف التشكيلي) ، (الفنان البوهيمي) ،( الكهل المحترم )،( الضابط الباشا)، (التاجر )، (الميكانيكي الأصلع )، (الضابط الوزير)،(ضابط المباحث) ،( الفتاة) ، (السيدة الأربعينية).
نفس هذه العينية البشرية تنتقل انتقالة – مباغتة – متكئة على تقنية الحلم إلى عصور تاريخية زمنية متداخلة مضت ، وفيها يلعب الروائي لعبة التداخل جامعاً الأديان الرئيسية في مرحلة اللاهوت الإنساني ، في نفس أشخاص العينة السابقة، بعد أن يأخذ كل منهم دوراً جديداً ملائماً لتلك المرحلة الزمنية والطبيعية الصحرواية المختلفة.
ويدور ذات الصراع البشري، والدوافع التي لاتختلف كثيراً: تحقيق الشهوات الجسدية، ورغبات الإنسان الإله الذي له قدرة تشكيل هذا الوجود بإرادته وعقله، قدرة تهيئة الحياة لتناسب أغراضه واحتياجاته الفسيولوجية والسيكولوجية، الإنسان في تلك المرحلة في مقام "كن"، قادر عن الخلق والفناء، ثم عودة مرة أخرى إلى نقطة البداية ، لتستمر دورات هذه الحياة ، وتستمر إرادة هذا الكائن البشري الذي لا يتملكه يأس في قدراته أو إرادته، بنهاية تدعو إلى الاستمرار والمحاولة، وعدم الكف عن أن يكون ذاته كما جبل ، يقول الأحمق الأول " لـقد كنت أناس آخرين ولكنني لم أَخُزْ الفتاة بارزة الصدر لينة المؤخرة. سأكلمها ولن أكون إما قوياً أو ضعيفاً ، وهي لن تكون إما طاهرة أو داعرة . خطوت سريعاً عائداً إلى حيث مكانها . قلت لنفسي لابد وأن أكون أنا ولا أحد غيري . ولابد أن تكون هي ولا أحد غيرها." (ص60).
تتكئ رواية " إنجيل آدم" على جدْلٍ متداخل لانتقاءات من قصص الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام ، مع الاعتماد على المقولات الأساسية التي تعالجها الأديان وتخص الإنسان وغرائزه وعلاقاته بهذا الوجود ، وهي بهذا تعتمد على بنية شكلية ما قبل الروائية، فهي على عكس الرواية الواقعية لاتهتم بالحقيقة الاجتماعية وغير معنية ببنية أدبية نفسية أو أسطورية أو رمزية خالصة ، البنية في هذه الرواية تخضع لفوضى منظمة، فهي تبدأ بتصور خليط مجتمعي محدود على نحو معاصر ثم تتخيل تشكله بنفس طبيعة النماذج فيه، في مجتمع آخر وطبيعة أخرى ، وانتقالة زمانية ومكانية أخرى.
تعتمد البنية هنا على وهم متخيل في المرحلة الأولى من الرواية بتلك البنية الافتراضية من الشخوص التي تخضع للاحتمالية وفي المرحلة الثانية تعتمد على تلك التحولات التي جعلت نفس الشخوص في مكان وزمان آخر ، لكن تحكمهم نفس الغرائز والنوازع البشرية ، في المرحلة الثالثة تعتمد على التحول الذي حدث لشخصية " الجاهل الجرىء المهزوم " وقدرته على أن يصبح الإله لإنسان في آن واحد ،يتحكم في تشكيل هذا الوجود. هذا الشكل الذي تتكون فيه الحكايات وتبدل إحداها الأخرى ، لا يأتي مجانياً، لكنه يأتي وفق رؤية فكرية.
- يلعب محمد علاء الدين بالخطاب الروائي لعبة فوضوية لكنها مدروسة ومبيت لها ، فهو على قدر افترضاته واحتمالاته التي تبدو كتداعيات عشوائية في النماذج التي تشكل عناصر روايته ، وعلى قدر إبداعه في تشكيل وبلورة رؤية لحياة الإنسان ثم تحويل هذه الرؤية لسياق زمني مكاني تاريخي مخالف،نراه لا يسعى لإعلاء قيم محددة أو تحمل مسئولية تغيير معّين للأشياء أو للأشخاص ، فهو لايحمل على كاهله سوى تشكيل لعبة إبداعية ذات وجود خاص بها، لايعنيه مردودها الأخلاقي، أو مناقشة طبقة أو جماعة من البشر بأعينهم ، إنها لا تتبنى سوى تشكلها وتقديمها لتصور أكثر ما يميزه هو الجدة والابتكار وتكوين عناصر بإمكانها أن تكون محاوراً وصراعاً.
- ويناقش الكاتب من خلال عمله ودون أدنى افتعال أو خروج عن سياق نصه الأصلي العديد من المقولات الفكرية الكبرى، والمقولات النفسية الإنسانية، وتأتي في معرض قصة دون زج بها أو تزيد، يقول على لسان النبي " ولكنني عندما توقفت عن الشك أيقنت أني تحولت إلى النبي حقاً" (ص34)،أو قول البوهيمي واصفاً حال هذا النبي " كنت سيداً لأن الناس شياهٌ " (ص36) ويشير الروائي إلى عقدة القضيب التي تحدث عنها فرويد في معرض تفسيره لسحاقية الأربعينية يقول:" كنت أنا الرجال أخيراً " (ص39) أو قول الأربعينية : "ستحب العاهرة من يشعرها بأنها إنسان يستحق العطف والرقة" (ص40).
كما يشير إلى عقدة أوديب في حديثه عن رغبة النبي " الفنان المرهف" في أمة الأربعينية .
وبالرغم من البنية السابقة التي تعتمد على الرمز أو التوغل في التأويلات المتعددة ، فقد تعامل الكاتب مع مادته القصصية الخام تعاملاً مباشراً لا غموض فيه ، فكل قارئ يمكنه أن يلمس أن المبدع يحاور التصورات الإنسانية الكبرى بهذا الوجود الإنساني ومقولاته، فهو لا يلجأ إلى رمز غامض أو متعدد المستويات، لكن المستوى الرمزي هنا محدود ويمكن فك مغاليقه بقليل من الجهد الفكري ، وتنبىء السطور بالرواية عما تريد الإفصاح عنه، فهو لايتعمد غموض لأنه يقدم رؤية فنية فكرية تعتمد الوهم أو التخيل، تضاهيها بنية افتراضية تعتمد أيضاً الوهم أو الحلم.
" الإله قد يكون هو الإنسان" (ص53) ، السيدة الأربعينية قد تكون هي السيدة العذراء (ص48) ، قصة قتل النبي مزيج من قتل سيدنا عيسى ومحاولة اغتيال الرسول الكريم (ص49) الجنة "فوق الجبل " (ص57) ، قصة قابيل وهابيل الأخوان اللذان تباريا (ص57)، الفتاة بارزة النهد قد تكون هي الفتاة التي تزوجها سيدنا موسى ، قصة ولادة النبي قد تشير إلى ولادة سيدنا المسيح.
ربما يلمح الكاتب من خلال هذه البنية إلى أفكار من نوعية تناسخ الأرواح ، والحلول النفسي والعقلي والجسدي ، كما يشير الكاتب إلى قصص خلق العالم والمراحل التي مر بها الخلق، يقول على لسان الإنسان الذي صور نفسه إلهاً " كتاب الحياة مسطور لدي وأنا من أرجعت الأقدار لهم ، ليس بهم صالح إلا لغرض ومنفعة ومللت منهم ولا بد أن أفارقهم ملياً، رأيت فيهم الشر من قبل رؤيتك هذا العالم فاصمتي " (ص58).
يناقش المؤلف قضايا من قبيل الجبر والاختيار، وحدود قدرات الآلهه، يقول على لسان أخته التي صارت امرأته قالت لي :" مادمت تعلم كتاب الحياة مقدماً ، إذن لم لا تأخذ صالحيهم بجورانا الآن وننهي المسألة؟ " (ص59) أو قولها :" أي عبث هذا إن كنت تعلم أنت كل شيء من البداية ؟ " (60).
لا يكترث الروائي بأي تابوه جنسي أو ديني، في حين أنه لم يقترب كثيراً من السياسي، والمعالجات الجنسية لديه ترصد المجاوزات تبرز الشذوذ كعلاقة الميكانيكي بالصبْية (ص13) أو العلاقة السحاقية بين الأربعينية والفتاة بارزة الصدر لينة المؤخرة (ص39) أو زواجه بعدما أصبح إلهاً من أخته (ص54)، وهو في ذلك يتعامل مع الإنسان في طبيعته الأولى البدائية، قبل أن توضع له شرائع أو أعراف اجتماعية ، الإنسان بغرائزه الفطرية التي تتعامل مع حيوانيته ، هذه الفوضى الجنسية تنسحب أيضاً على الأفكار والمعتقدات الدينية فهو يعبث في تشكيل حياة الأنبياء جميعاً فنجد أصداء واقتباسات من حياة كل نبي " موسى ، داود ، عيسى ، محمد " في شخصية النبي الذي أصبح بعد أن كان "الفنان التشكيلي مرهف الحس" في الجزء الأول من الرواية، وهي فوضى في البنية الفكرية لكنها فوضى مقصودة لتبيان رؤية خاصة تعيد تشكيل إنجيل جديد للإنسان بهذا الوجود ، إنجيل يجعل الإنسان إلها لهذا الكون مبتداه ومنتهاه عقله الذي به صاغ هذا العالم ، مُبْرِزاً فيه كل المتناقضات وكل الشهوات شهوة الجسد ، شهوة السيطرة والأمتلاك والتحكم، شهوة الفخر والظهور هكذا يعيد المؤلف صياغة قصة خلق جديدة لهذا الوجود الكوني وفيه ينقل الروائي مركز هذا الوجود من المتعالي المغاير ،إلى الإنسان بكل احتياجاته البشرية ، الأنثى الرقيقة، الرغبة في التحقق والحب ، حاجة الإنسان إلى الأرض والأسماء ، البحار والأنهار ، تعايش المتناقضات : الحب والكره ، الفرح والحزن ، الألوان ، الخوف والأطمئنان ، ينقل الروائي الجنة التي صورت في الأديان في السماء إلى جبل فوق ذات الأرض على لسان الإنسان الإله يقول:" كنت لــــــهم الإنسان الأول الذي من عقله خرجت الأشـياء جميعها" (ص55).
يعتمد السرد في رواية " إنجيل آدم" على الإضافات الافتراضية ، وكل إضافة يفترض الروائي فيها الروائي شخصية إنسانية جديدة ، يعطي من خلالها دفعة في القص ، دفعة للتقدم ،الفني ومن ثم خيطاً من الخيوط الواهنة الاحتمالية التي تشكل هذا الصراع "الافتراضي الوهمي – الحقيقي الواقعي" بهذا العمل الفني ، وهي تشابكات متقاطعة تقدم نموذجاً تصورياً عن طبيعة وأفراد تكوين تجمع بشري مصغر يقول السارد :" أنا الجاهل الجرئ خبير المضاجعة، وكل ليلة عندي محلاة بنهود...، الألوان مزيج من السمني والفستقي في تناغم مريح للأعصاب لا يفسده المسطح الأحمر الصغير لعلبة " المارلبورو". مثل هذا التخيل يوحي بفنان تشكيلي مرهف الحس يتعامل مع النساء والطعام والشراب برفق ...،أو ربما أكون فناناً بوهيمياً قاسياً، أصفعها ...، يمكنني أيضاً أن أكون سعيداً إن عدت فناناً تشكيلاً مرهفاً لأتذوقها..." (ص11.10) . يوفر الروائي لعمله ، تقنية سرد تقترب من تقنية تعدد الأصوات ، لكنها أيضاً تختلف عنها ، القص كما ذكرت سابقاً افتراضياً لكن المبدع يجعل كل شخصية تتحدث عن نفسها، ولذا يصبح القارئ دائماً في منطقة حائرة وغائمة بين درجة الصدق والبوح المباشر ، الذي يوفره حديث كل شخصية عن نفسها، وبين تقنية الاحتمالية أو الافتراضية يقول:" كباشا ظالم تحول إلى سيد غليظ الرقبة للمدينة راقبتهم ، عرضت الأربعينية تدبير مكان للرجال يتجمعون فيه إلى حين الميعاد المحدد ...كجرىء جاهل مهزوم سألت النبي أن يمن على باسم آخر غير المهزوم " (ص44). هناك دائماً افتراض شخصية ثم لا تلبث أن تتحدث بضمير أنا المتكلم.
يلاحظ أيضاً أن الصوت الذي يأخذ فرصة البوح والحديث عن نفسه لا يستغرق قصة أكثر من سطور محددة لا تتعدى عشرة أو خمسة عشر سطراً ،وهي مساحة لا توفر تعمقاً في الداخل الإنساني، ولا تتيح سوى عرض لصراعات خارجية بين أفراد هذا التكوين البشري الافتراضي وهنا قد يتساءل القارئ كيف نجح الكاتب في تخطي عقبة تلك الانتقالات المتكررة السريعة بين الشخصيات المتفرعة وحديثها عن نفسها؟!
لقد تعامل الروائي مع تلك الانتقالات باستخدامات لغوية تبدو بسيطة للغاية مثل قــوله:
" أنا كالضابط الصارم فكرت أنه حان وقت الانتقام، سأكون وزيراً لداخلية يملأ فضاء الغرف بطوله وعرضه " (ص25.24) ثم يهيىء المشهد والمنظر الذي ستتحرك فيه هذه الشخصية الجديدة فنجده يقول:" لأنني أنا الوزير وهو المتهم الذي سيرمي في جب بلا زمن بتليفون صغير مني ..لا..من العاملين بمكتبي . نظرت حولي فإذبي في مكتب فخم ضخم وأمامي الضابط الصغير الذي هو أخي فتنازلت قائماً وسرت إليه لأصفعه مرتين على وجهه ولأحوله إلى ماكانه من جاهل جرئ مهزوم لأنه لا يستحق شرف ارتداء هذه البذلة أشرت بيدي فاختفى وفرغت للفتاة بارزة الصدر...،التي تقف أمامي بملاءتها الحمراء فأمراتها بخلعها.. فقط أمرت جسدها ألا يكون مشعراً.."(ص25).
أتصور أن الروائي تغلب على صعوبة هذه الانتقالات بين الشخصيات عن طريق وسيلتين أولهما رؤيته العامة للإنسان في هذه الرواية ، فهو يرى رؤية فنية في هذا العمل أن الإنسان، كل الإنسان كيان واحد يمكنه أن يكون كل هذا المتعدد ويظل في النهاية واحداً ، خامه واحدة ولها أن تأخذ عدداً من الأشكال مهما اختلفت الأزمان والأماكن ، كما أن الإنسان بتلك الرؤية قادراً أن يقول للأمر كن فيكن ، هذه الرؤية تعطي الإنسان إمكانات غير محدودة، وتعلى من قدراته منذ بدء الخليقة على تشكيل هذا العالم.
ثاني الوسائل أن الروائي يستخدم كاف التشبيه في أغلب الانتقالات من شخصية إلى أخرى ويتوسل بإضافة بعض التعبيرات البسيطة - التي تتيح له تمريرة سريعة- إضافة بعض الصفات الجامعة والمختصرة في ذات الوقت كقــــــوله :" كضابط صارم وسيد للإبداع المطلق" (ص22). أو قوله :" أنا كاهل جرىء مهزوم جعلت نفسي أتجسد ثانية في فضاء الغرفة الفاخرة" (ص25).
يحسب للروائي تلك القدرة التركيبية المبهرة ، وهذه التقنية الذي جعلها بوسائله البسيطة تحد من درجة الفوضى والتخبط اللتين يمكن أن يستشعرهما المتلقي من جراء كل هذا التعدد المنبثق من واحد ، يسعى الروائي في اختياره لتلك التقنيات أن يقدم فعل الكتابة كنوع من اللعب التجريبي الذي يتوافق شكلاً مع الرؤية المقدمة بهذه الرواية.
يقول مفتتح الرواية :" عين الشمس تنظر نظرة ثاقبة إلى الشارع ، تنهمر سياطها على رؤوس المارة وظهورهم ، العرق اللزج ينساب على جبهتي وأنا أمشي بتؤدة محتمياً بظلال العمارات عن يميني . منفتح أمامي الميدان العريض بعد خطوات قليلة ووجهه يلمع من عرق هو الآخر " (ص9).
في تلك الصياغة يمكننا أن نلاحظ أن هناك تضافراً لعدد من الألفاظ التي تعطي إحساساً ما بزمن بطىء أو زمن لا مُبالٍ، فالسارد يتعمد نوعاً من الحيادية إزاء نوع من القص يخوض صراعاً مع بلادة وسخافة هذه المشاهد العادية المتكررة، ويبدو أن الكاتب لا يحمل حساسية ما إزاء بعض المعايير الفنية المتوافرة والمتعارف عليها بالرواية فهو لا يستبدل معايير بأخرى شأن الحداثيين ، لكنه كمن يستعرض كل المعايير كلاسيكية أو حداثية ليوظفها في عمله ، نستطيع أن نزعم أن الرواية بها خليط من تقنيات التعامل مع الزمن – وللفنان الحرية المطلقة في اختيار ما يوظفه- مما يسمح لنا أن نصف هذا العمل بأنه ذو زمن دائري فهو يبدأ بمشهد في منتصف النهار وفي مكان محدد ميدان بمنتصف البلد ، وتجتاز الرواية بمراحلها الثلاث أزمنة سحيقة أو أزمنة مستقبلية ويموت الزمن ويفنى ، ثم يحيا مرة أخرى لنجد أنفسنا في ذات المشهد الأول ، لقد خضنا مع السارد حلماً أعادنا فيه لنفس عين الشمس التي بدأنا بها العمل ، يمكننا أيضاً أن نصف تعامل الكاتب مع الزمن بأنه خاضع للعبة وهمية خرافية تحمل في أذيالها عين الحقيقة ، لكنها الحقيقة الممتدة في الدهور المتعاقبة.
حين نتعامل مع طبيعة هذه الأعمال الروائية لنا أن نزيح مجموعة التقاليد في هذا المجال جانباً، نحن لا نحرقها أو نغلق فوقها الصناديق الخشبية ، لكنا نصنع معها تكييفاً معرفياً وجمالياً أكثر اتساعاً وأكثر خروجاً على المعايير - لا رفضها - و عدم الاعتراف بالحدود الموضوعة سلفاً والتعامل معها في ذات الوقت وذلك ماشَكَّل هذه الفوضى الجميلة التي أتحدث عنها.
يمكننا أيضاً أن نصف الزمن في تلك الرواية بالزمن المستمر أو السائر في خط مستقيم على الدوام ، وهنا سيبدو الإيقاع بالرواية إيقاعاً سريعاً لاهثاً، إذا تخيلنا أو تأولنا أن هذه نماذج الرواية مهما اختلفت الأزمان والأمكنة متكررة إلى مالانهاية ،وهو ما توحي به الرواية في أحد تأويلاتها لكن الملاحظ أن تقنية الزمن المستخدم بالرواية تبتعد عن الزمن الداخلي الخاص بالأفراد وهو أحد سمات ما بعد الحداثة في تعاملها مع الزمن ، ومن شأن الروائي المبدع أن يعرض التقنيات التي تناسب رؤيته الفكرية الفنية وهذا ما نجده في "إنجيل آدم".
تتنوع الأماكن برواية " إنجيل آدم" فنرى الميدان في مدينة حديثة ، أو نرى الصحراء الشاسعة ، أو نرى استواء الإله على عرش الماء أو فوق الجبل .نرى شقة الفنان البوهيمي ذات الباركية البني اللامع ، أو غرف التحقيق" المستنسخة بطول البلد وعرضها " (ص21).
الإماكن على اتساعها بالرواية تبدو عنصراً حيادياً إزاء طبيعة الصراع الإنساني بالرواية ، فهي تعد مجرد ديكور ، خلفيات متحركة، وهي إن تعددت تظل وعاءً يحمل نفس الغرائز والشهوات البشرية.
نلاحظ أيضاً أنه نتيجة لثقل الخط الشبقي وتفعيل الغرائز الإنسانية بالرواية، لم يقتصر تفعيل الممارسات الجنسية على الاماكن المغلقة أو الغرف الخاصة، بل تجاوزتها إلى السينيما ، إلى ورش الميكانكا إلى الميادين أو في الصحراء ، وهنا تختفي الأبواب والنوافذ ويظل ، الحدث أو الصراع الأساسي دون غطاء مما يقدم كسراً ملحوظاً لتقاليد التعامل مع المكان وتهميشه إن صح هذا التعبير ، يبدو المكان في " إنجيل آدم" معزولاً عن الفعل لأننا لسنا بصدد ظواهر تعد إنعكاساً شاملاً للواقع ، نحن بصدد صراع الإنسان في هذا الوجود.
** ذات" الكل في واحد"
تتنوع الشخصيات برواية " إنجيل آدم " ولذا نرى نماذج من أمثال " الجاهل الجرىء المهزوم ، الجاهل الجرىء السوقي ، الفنان التشكيلي المرهف، الفنان البوهيمي ، الميكانيكي الأصلع، الكهل المحترم ، الضابط الباشا الصارم ، الضابط ، السيدة الأربعينية البيضاء ، الفتاة بارزة الصدر بلدية المؤخرة ولينتها.
تناولت الرواية كل هذه الشخصيات بشكل تصوري عام يصور نوازعها، غرائزها الأساسية في طبيعتها الفطرية المجبولة ولم تَنُصْ المعالجة في الداخل النفسي لكل شخصية ، فهي لم تفرد دراسة رأسية لأحدى الشخصيات أو حتى نماذج منها بافتراض إن هذه الشخوص تشكل عينة صغيرة تنسحب على مجموعات متعددة من الأفراد.
وتقدم الرواية شخوصها بصفات أساسية جوهرية في الشخص ، صفات ليست وحيدة لكنها الأوضح، والتي تسم كل شخصية بسمات متميزة ، وكلهم دون أسماء محددة ، فهم متكررون وأن تعددت أشكالهم على مر التاريخ البشري ، في كل مجتمع صغير أو كبير فتكون طريقة التقديم الجاهل الجرئ السوقي، أو الفنان التشكيلي المرهف ، أو الفتاة بارزة الصدر، الجديد بالرواية هذه التحولات بالشخصيات في القسم الثاني منها والثالث لا كما ، عهدنا أن تكون للشخصية تحولات بأنواعها أما دائرية أو شخوص مسطحة أو نكوصية ، لكن التحولات في هذه الرواية تأتي في دائرة الوهم والتخيل.
هناك إذاً معيار متوافر من المعايير الفنية في كتابة الرواية ، والروائي يستخدم المعيار ولا يهدمه أو يتحداه ويرتكز صنيعه معه على أنه يجدد فيه، ويبتكر بداخله تحولات للشخصية في الرواية غير معهودة، وهو ما يساعد على خلق تلك الحالة من الجماليات التي سميتها "جماليات الفوضى" ، وأستطيع أن أنتقي إحدى هذه الشخصيات وليكن الجاهل الجرىء المهزوم الذي تحول في الجزء الثاني من الرواية إلى الشخص الذي كان منوطاً به أن يبيت مع النبي بالدار وينام في فراشه ولنا أن نتذكر قصة علي بن أبي طالب، ومحاولة الضفر مع هذه الموروثات وفي إطار من الوهم والخروج إلى آفاق التخيل الواسع.
تتحول هذه الشخصية التي لم تثبت في هذا الاختبار وأصابها الخوف من الموت وهربت، حين يقول :" ما حكمة الاعتقاد إذا ما قتلنا " (ص45)، تتحول الشخصية إلى إله في الجزء الثالث يقول للأمر كن فيكون ،له قدرة الخلق والإبادة ، له السيطرة والبعث والميلاد والموت ، يجلس على عرش الوجود يثيب ويعاقب، التحولات كلها إذاً في إطار الخرافة والتوهمات ، إنها تحولات غير تقليدية في رسم الشخصيات ، بل تتسم بالجرأة ومناوشة الأمور المسلم بها.
تمثل النماذج المختارة لتشكل شخصيات الرواية عينة تتكامل فيها منظومة الصراع التي يمكن أن يحدث داخل كل مجموعة من البشر ، بأهوائهم بوظائفهم بنوازعهم وغرائزهم، هناك مرهف الحس الفنان وهناك البوهيمي والكهل والمتحكم بالمجتمع من خلال سلطة أمنية " الضابط" هناك الميكانيكي القبيح الشاذ وهو اليد الباطشة الغوغائية ، وهناك نموذجان للمرأة الأربعينية والفتاة الشابة بارزة الصدر.
تلك النماذج يهيئ الروائي لها بهذا التكوين الاجتماعي والثقافي والنفسي والسياسي أن تصنع صراعاً من الصراعات المعهودة بين البشر أسوياء كانوا، أو على درجات متفاوتة من الشهوات والأطماع والشذوذ .
يثير الانتباه بالرواية ذلك النموذج المقدم للمرأة فالعمل يتعامل معها ليس على أنها إنسان من نفس جنس الرجال، لها شهواتها المتنوعة ورغبتها في التحقق ، أوجب الظهور أو الفخر أو النجاح. المرأة في هذا العمل جسد ، وجسد منتهك على الدوام ، هي قطعة من اللحم مستباحة ، يلهو بها الرجال ويتنازعونها ، أو هي مجرد وسيلة يتخذها الرجال وسبيلاً لتحقيق مآربهم.
وهي في ظل هذا الإطار الخرافي والوهمي الذي يسيطر على رؤى وبنية هذه الرواية- ليس لها قدرة الرجل على التحول أو الإرادة أو التغيير فهي مفعول به على الدوام .والتحول الوحيد الذي بإمكانها القيام به تحول الفتاة العاهرة إلى طاهرة ، حتى هذا كان من أجل رجل.
في ظل المجتمعات المعاصرة وبعد التغيرات التي حدثت لأوضاع المرأة بالعالم كان على الرؤى أن تتغير وتلتفت إلى طبيعة ودور المرأة في الحياة ، ولكننا،أو لأن المؤلف يعيش مجتمعنا، الذي تنتكس به أوضاع المرأة في مجالات متعددة ،وتعود النظرة لها مجرد جسد وأداة للمتعة ، تظل المرأة في هذا الإنجيل الذي يكتبه محمد علاء الدين كائناً منتهكاً وشاهدنا تلك الأربعينية وما مثلته من امرأة مستباحة وسحاقية (ص29).
- لا أحد يؤمن بقيمة ومن أجلها يحارب ، ولها ينتصر ، الوجود والتحقق الظاهري الذي لا يحمل عمقاً هو السمة المسيطرة على معظم الشخوص، والتحولات التي حدثت في حلم الفنان المرهف الذي صار نبياً تدلل على ذلك، فالفنان التشكيلي المرهف تحول عن الرسم في المجتمع الصحراوي الذي يعشق الشعر والموسيقى إلى عازف ومؤلف مزامير ،ليحقق لذاته وجوداً افتقده في المرحلة الأولى ، والفنان البوهيمي يتحول إلى كاهن وتاجرٍ غني (ص39.38) إن تحقق الشخوص في ذاته تحققاً أفقياً لا يحمل أسساً أو إيمانا عميقا لشيء أو فكرة ، إنها شخوص تتقاذفها الأطماع والشهوات وتغلب عليها نوازع الحقد والخبرة والسيطرة .
وثمة إشارات للمؤلف ذكية تتسم بالدهاء والرغبة في الهروب من المسآلة وتبدو في ملاحظات متفرقة، في هذا المزج الذي صنعه وهو يؤلف الواقع الروائي مع قصص الأديان وشخوصها وأحداثها ، لنا أن نلاحظ اختياره للمزامير وهو في معرض هروبه من الحديث عن القرآن (ص38)، وكما نلاحظ المزج التوليفي الذي صنعه بين صلب المسيح والعشاء الأخير وقصة هجرة الرسول الكريم إلى المدينة بعد أن تحالفت عليه القبائل ،وقصة " عليبن أبي طالب " ونومه في فراش الرسول، وسراقه الذي أراد أن يخبر القوم عن مكانه وما حدث له ولفرسه ، استطاع الكاتب أن يجمع خيوطاً تتشابه طبيعتها في قصص الأديان ،لينسجها في نسج مبتكر خرافي مجاوز وفوضوي . إن تلك البنية التي شكلها المؤلف لروايته والتي تتسم بهذا التراكب والتداخل بين العديد من الحقائق والأساطير والأديان ،تحسب له فنياً وتشكيلياً وتشير إلى تلك الذهنية والموهبة الفنية القادرة على مجاوزة التقليدي ، والخلق على النحو السابق ، لنا أن نشير إلى ذلك حتى وإن اختلفنا معه في العديد من الأفكار والرؤى التي دعمت هذا الشكل الفني الروائي.
إن طبيعة بناء شخصيات تلك الرواية وكونها منبثقة من خلال افتراضات مصدرها كلها شخصي أو ذوات إنسانية واحدة ، تجعلها لا تبتعد عن طبيعةالذات ما بعد الحداثية ، فهي وإن كانت نتيجة لعبة يمارسها الكاتب إلا أنها تؤول في النهاية إلى الذات الواحدة التي تتجمع فيها ذوات متعددة متناقضة و متصارعة ومتجاورة، لكنها متعايشة.
التقنية المستخدمة في بناء هذه الرواية توافقت بشكل مبهر في البرهنة على طبيعة العصر وطبيعة الذات البشرية الآنية التي تتعدد فيها الذوات ، لكنها أيضاً خالفت ذات ما بعد الحداثة في قدراتها على الفعل والإيمان بطاقات الإنسان ، عكس الذوات الهشة المهمشة اليائسة في هذا العصر المعيش .
** تحولات المجاز وطبيعة اللغة في رواية أنجيل آدم
اتسمت أدبيات ما بعد الحداثة باللغة التقريرية التي تتعامل مع حقائق الواقع اللغوي ، وتقترب من اللغة المستعملة في المعاملات اليومية للإنسان العادي ، و كان ذلك ردة فعل لما صنعته الحداثة في إبحارها في سراديب المجاز اللغوي والافتنان به.
يستخدم محمد علاء الدين في خطابه الروائي لغة تعتمد على المجاز ، لكنه مجاز له طبيعة خاصة ، مجاز يقترب من الحقيقة ، يوجد لكننا لا نلمح به علاقات متباعدة بين أطرافه، أو استخدام يوهمنا بخلق مغاير متكئ على علاقات تصويرية مجازية ، الملمح الأساسي للمجاز في هذه الرواية هو وضوحه ومباشرته في ذات الوقت قدرته على حمل سمة الطزاجة والالتقاط المبدع المتجدد يقول على لسان التاجر الحرامي أبي الجاهل الجرىء الســـوقي :
" لأنها تعلم أنها قطعة اللحم المفضلة على فراشي هي وأمها . الآن أنا حر لأمزق حنجرتها الصاخبة شر ممزق وأكرمشها في يدي مثلما أفعل بنهدها " (ص29)، إن هذا الاستخدام المجازي اللغوي يستطيع أن ينقل لمتلقيه مقدار العدوانية والتعدي الذي يميز شخصية البوح، يميز شهوانيته واستباحته للمحرمات ومقدار النفوذ الذي يمكن أن تصنعه المادة في التكوين الشخصي للإنسان في اللحظة المادية الراهنة ، ويجعله قادراً على انتهاك الآخرين والعدوان عليهم ، هل بإمكان أحد أن يكرمش الحنجرة وهل عبثاً يأتي التشبيه بين كرمشة النهود وكرمشة الحنجرة ؟ أم هي إشارة للتوجه الشبقي العدواني المتمكن من هذه الشخصية. وهي أيضاً بكارة الالتقاط وعدم تداوله .
أو قوله على لسان مالك البئر الواشي الخائن الذي كان ميكانيكياً أصلع بشع الخلقة : "وصل الألم إلى النقطة التي أكل فيها نفسه " إن تلك الالتقاطات المبتكرة هي ما تميز المجاز اللغوي بالرواية ويلاحظ أنها مجازات تنطلق من الحواس وتحتفي بها ، فلا مجال لمجردات أو توغل في علاقات ذهنية ، الحواس هي مصدر الحقيقة والتصورات المستخدمه بهذا العمل الروائي.
يقول الإله الإنسان في معرض وصفه حال الأرض بعد أن قتل أحدهم أخاه " ماتت الشمس وسرت الأنهار دماء وجنت الرياح " (ص57) على قدر مباشرة هذه المجازات ووضوحها إلا أنها تتمتع بالتأثير القوي على النفس ربما لما تحمله من وقع الحقيقة وثقلها، بالرغم من مجازية العلاقة بها ، لكنها تقترب من علاقات الحقيقة التي تمتلك زخم كامن يتكشف ويؤثر حين يوظف فنياً بطريقة محددة.
وقوله على لسان الفنان البوهيمي :" ولكن النقود قليلة كابتسامة على وجه اللواء الظالم " (ص31)، يحمل هذا التشبيه نفس الإحساس بالمباشرة وتأثير الحقيقة الصارخ، الواقعي الفعال على النفس ، وطرفي التشبيه كأطراف علاقات المجاز بهذا العمل كلها تحمل ألواناً رمادية وسوداء توشي بالعذاب والحيرة وافتقاد الأمان ، ويبدو التشبيه هنا مؤثراً لأنه دلالة صارخة على عالم معقد ، فهو حقيقي ودال على حقائق غير قابلة لصياغات متعالية أو مفارقة للواقع الناطق بامكاناته.
ويتميز المشهد عند محمد علاء الدين بفنيات ذات رتوش خاصة ، ففي أحد مشاهد الرواية في معرض موت الميكانيكي بشع الخلقة، بعد أن نام مكان النبي يقول واصفاً حاله وهو في السكرات الأخيرة :" وجدت ذهني صافياً بغتة . فرأيت وجوهم الحاقدة وأمعنت جيداً في التماعات السيوف وهي تهبط ، وأقواس الدماء التي تصعد في الهواء بحماس طفل صغير. رأيت يدي تسقط عن جسدي وتتهاوى إلي الأرض مضرجة في دمائي ، لتتدحرج بعيداً كخف قذر . رأيت لحمي يبرز متهتكاً تحت الجلد الممزق وبقايا عظام ساعدي المهشمة. ...رأيت أحشائي المدلاة من بطني ..أحسست بأنني أطير ونظرت إلى ما عهدته كجسدي فوجدتني شفافاً أرتفع إلى فضاء الغرفة .." (ص52).
يتناسب إيقاع هذا المشهد مع إيقاع رجل يفقد أنفاسه الأخيرة ، فنلاحظ فيه أنفاساً متقطعة"، فالرجل اختار أن يكون قتيلاً طواعية تكفيراً عن جرائم كثيرة سابقة، والمشهد على قدر دمويته وإيلامه يقع في منطقة ملتبسة بينية أخرى ، ولذا تأتي تشبيهاته برغم الدماء والعنف كأنها ارتفاع وتطهير للنفس وخروج بها من أسر الشهوات كأن الألم الذي يتكبده، يعانيه طواعية، ولذا لا نلمح رعباً أو صراخاً لكننا نلمح انفصالاً وإحساساً بالراحة لتكفيره عن ذنوبه. وتأتي إيقاعات نهايات الجمل ممطوطة ، تتهاوى مثل حياة تنتهي.
يتميز الأسلوب في رواية " إنجيل آدم" بهذا العرض البارد الحيادي، صياغة كأنها استرسالات لا مبالية بالأحداث، تعرضها ببساطة برغم ما تتميز به بعض الأحداث من السخونة الناتجة من مناطق توتر مختلفة ، ففي بداية الرواية والشاب يعرض لمشهد البنت البارزة الصدر لينة المؤخرة وبلديتها، وبرغم ما يتصف به هذا المشهد في إحساس شبقي إلا أننا لانشعر في الأسلوب بتلك الحرارة بل نشعر ببرودة تتسرب من السارد وأسلوبه ، برودة تنم عن اللامبالاة الحقيقية بهذا العالم وأحداثه ومشاهده (11.10.9) ، كل المشاهد تبدو وكأنها فوق شاشات عرض ،بينها وبين التفاعل الحقيقي مع الإنسان مسافة ما .
في مشهد أخر حين تتآمر الأم الأربيعينة البيضاء على ابنها النبي مع من يريدون قتله لا يبد للعواطف الصادقة الحارة المنفعلة وجود أو أثر سوى أثر باهتٍ بارد (ص41.40)، لا وجود سوى للأنانية وحب الذات وغلبة المشاعر الجنسية الشاذة " علاقتها مع الفتاة".
ويستخدم الراوي لغة عربية فصحى، ونادراً ما تتسرب بالجمل والعبارات بعض المفردات التي تندرج تحت اللهجة العامية، وتأتي جملة قصيرة واضحة ، تميل إلى اللغة التقريرية ، مقصودة ،لغة الرواية لغة محكمة ، موضوعة لما تريد أن تنقله دون مبالغات، بل بالقدر الذي يسمح بالاسترسال المستمر دون عنوانات فرعية ، بالرغم من أننا يمكن أن نقسم الرواية ثلاثة أجزاء أو مراحل .
لكن الروائي في تعامله مع المرأة وما يتعلق بها من شهوات أو مشاعر أو اعتبارات فكرية أو إنسانية، جاءت اللغة فاضحة تميل إلى المفردات غير المهذبة ، المفردات العارية والنابية المقززة ، والتي تسهم في امتهان هذا الكائن البشري ، والمساس به وتجريحه والحط من شأنه كقوله وهو يصف الفتاة " بارزة الصدر لينة وبلدية المؤخرة " ويكتفي بهذا الوصف ليشير إلى المرأة الثانية بالرواية بقوله "سيدة أربعينية بيضاء الساقين والوجه والمؤخرة" وقوله "كل الرجال يعاملونني كفرج وأنا قد تعبت" (ص39).
وفي معرض حديثه عن شذوذ النساء يقول على لسان الأربعينية :" سأكون عشيقة العاهرة... هي ترقد الآن فوق فراشي.. لأول مرة أكون ما أريد ...كنت أنا الرجال أخيراً . وداعاً للخوف والاضطراب " (39).
أو قولها " في المواقف السابقة كنت أعلم أن الرجال أولاد زواني والخيانة لم تعن شيئاً كذئب يفترس ذئباً " (ص40) وفي حديثها عن ابنها تقول :" لكن نبي الأقدار النوراني المنزه هنا . هو ليس بابن زانية – على المستوى القيمي وليس الفعلي بالطبع – ولايتهاون مع الخطيئة..أي أفكار تافهة يتحدث هو عنها ؟ أي معجزة يحملها ذلك الفتي الذي لا أعرف أنا – أنا أمه – من هو أبوه ؟ أنا أعلم أنه يشتهيني منذ رأيته صدفة يحدق فيّ كالرجال عند خروجي من المغطس " (ص40).
يشير هذا المنولوج الداخلى الدائر بذات هذه المرأة عن هذا التردي الفكري والأخلاقي الذي يحيط بالأنثى في العقلية الذكورية ، كما يشير إلى كل هذا القدر من الفوضى ، الفوضى الأخلاقية والنفسية التي يمكن أن تلحق بهذا الكائن في النظرة الثقافية العامة المتعلقة بها ، ومن ثم جاءت مستوى المفردات التي عبرت عنها على قدر من التدني والشبقية الصارخة وكأن الغرائز هي كل ما يحرك هذا الكائن البشري.
أستطيع بعد هذه القراءة لرواية " إنجيل آدم" أن أشير إلى تمكن المبدع من اختياره لتقنياته بما يتناسب مع رؤيته الفكرية في هذا العمل، كما لا يفوتني أن أشير إلى أنه لم يتقيد بحدود مذهبية أو فتية تسود فتصبح سمات عامة لنوع من الكتابات التي نطلق عليها "الرواية الجديد" فلقد تعامل مع التقنية الواحدة بتمكن جعله موظفاً لبعضها وتاركاً للآخر ، آخذاً ومستبعداً ، مختار لحريته الفنية غير الخاضعة لتقنين ما، نحن بإزاء لعبة تجريبية تثير الكثير من التساؤلات والتأويلات.
تساؤل يمكنني أن أطرحه على الروائي إذا كنا بصدد افتراضات وتشكيل يستهويه اللعب التجريبي ، لمّ لا تجعلها لعبة حتى النهاية ، أتصور أنك لجأت لتقنية الحلم لتبررهذه الانتقالات التي بالرواية وهو الشيء الذي قد يضعف هذا التجريب غير الخاضع للمبررات العقلية: إنها جماليات روائية ذات نوعية لا تبحث عن منطق ، فهي تحمل منطقها الفوضوي الخاص.