لا أحب أن أوصم بالحياد و أنا اتكلم عن بهاء طاهر.
الحياد جريمة. وسط بين ما تعتبره صوابًا و ما تعتبره مغلوطًا؛ سكوت عن باطل أو تخاذل في حق.
ربما كانت الموضوعية هي الكلمة المبتغاة؟ لا أعلم، فمن ناحية فأن الموضوعية المطلقة وهم، و من ناحية أخرى فأن الحب و الامتنان الذي احمله لبهاء طاهر سينزعان عني صفة الموضوعية، و لا أنوي أن أنكر ذلك.
هذا بشكل شخصي، و لكن بشكل عام، فأن بهاء طاهر بما يمثله من قيمة و تأثير في الأدب العربي الحديث لا يحتاج مدحه إلى حب، بل إلى بعض القراءة فحسب، فأن ذلك العمق الممتزج بالبساطة، هذه الاعجازية في كتابته السلسلة المصفاة التي اعتبرها هدفًا و مبتغى لأي كاتب، كفيلة بإنحيازك إلي جانب بهاء طاهر، سواء كنت قارئًا أم ناقدًا.
كنت مسرورًا و ممتنًا لأصدقائي في مؤسسة ورقة و قلم الأدبية لسماحهم لي بإلقاء كلمة مرتجلة و متعثرة في حب بهاء طاهر، و كان هو، كديدنه، رقيقًا و دافئًا. تكريم لأب كبير من الاباء الذين تربينا علي كتابتهم و اعجبنا بها. يجلس بهاء طاهر، الذي اعلم كم من تكريم يعتذر عنه—و هو قد قال ذلك بنفسه—و معه ابنته في احتفالية ورقة و قلم ليتسلم درع المؤسسة، و الأهم حب الناس و امتنانهم لرحلة طويلة من الكتابة التي مثلت للقراء متعة و تفكر، و للكُتاب غيرة حميدة و تعلم، و للنقاد نصوصًا تفيض بالجمال و الحرفية و العمق.
يمشي بخطوته الوئيدة في شارع 26 يوليو متجهًا إلى بيته بعد فراغه من الاحتفالية. امشي بجواره و انا استمع لكلماته. يرافقنا مصطفي علي—أحد أقطاب ورقة و قلم—الذي أصر علي توصيل الأستاذ بهاء إلى بيته.
تكلمنا عن حبي لـ"بالأمس حلمت بك"، و الحكايات المرافقة لكتابتها، و ما بعد كتابتها، و الفرق بينها و بين قصة أخرى عملاقة كـ"أنا الملك جئت"، التي قال عنها الصديق و الكاتب الموهوب نائل الطوخي انها كانت اول ما خطر في باله، عندما فكر في قصة يحولها إلي سيناريو.
يحتفظ بهاء طاهر بابتسامته الطيبة، ضحكته الصغيرة التي تحمل الفكاهة بلا تهكم و السخرية بلا حقد. يقول بهاء طاهر أن الوضع صعب. كم عدد القراء؟ كم عدد النسخ المطبوعة؟ يقول انه كان يمشي في ذات الشارع مع ابنته، فأتى احدهم و سلم عليه بحرارة متمنيا له طول العمر، و قال انه قارئ مواظب و متحمس. شكره الاستاذ بهاء و مضى في طريقه مع ابنته التي قالت في حماسة انه ها هم القراء الذي يشتكي ابيها من انقراضهم، فقال لها ان القراء خمسة عشر فردًا، يعرف منهم اربعة عشر، و هو مسرور بمقابلة القارئ الخامس عشر.
نضحك و امزح معه قائلًا أن تلك الحكاية تصلح لأن تكون قصة قصيرة، و لكن في الحقيقة الخمسة عشر قارئًا هم قارئ واحد يغير في هيئته ليسلم علي كاتبه المحبوب و في كل مرة يقول له اسم و مدينة شكل. يضحك ثم يعاجلنا باقتراح تقدم به لجمال الغيطاني: أخبار أدب و أدباء ايه يا راجل؟ المفروض يكون فيه أخبار القراء.. أهو هو ده الأصدار المهم فعلا.. يعني مثلا الأستاذ فلان الفلاني اكمل رواية مش عارف ايه و اقرضها إلى القارئ الاستاذ علان العلاني اللي ح يخلصها مش عارف امتى. اهو ده الخبر المهم بقي!
يبدو ذلك مؤلمًا من واحد من أكثر الروائيين العرب توزيعًا—15 ألف نسخة في الحب في المنفي علي وجه التقريب—و لا يمكنني الاختلاف معه في تقييمه للأمور، و لكنني من المؤمنين بأن الفن يحمل قيمته في داخله؛ قيمة أصيلة و نابعة من الجوهر، غير متأثرة بدواعي الذوق العام، و الاحوال الاقتصادية، و الاحباط الشامل الذي نعرفه انسانيًا و إجتماعيًا.
أي، و بعبارة أخرى، فأن بهاء طاهر، و هو يصدر احدث رواياته "واحة الغروب" عن روايات الهلال هذا الشهر، سيبقى واحدًا من اعظم كتابنا و اعلاهم شأنًا و قيمة في رأيي المتواضع، و أن الرحلة التي بدأت بـ"الخطوبة" ستستمر في ابهارنا حتى "واحة الغروب"، و ما بعد "واحة الغروب" إن شاء الله. متعك الله بالصحة و العافية يا أستاذ بهاء، من أجلنا نحن: قراءوك و احبابك.
...............................................................
الصورة: بهاء طاهر و محمد علاء الدين، مكتبة ديوان—الزمالك، سبتمبر 2006 .