يجلس حسني مبارك تحت الشمس الدافئة في قصر العروبة، يحتسي شايه في تلك الأكواب الزجاجية الصغيرة المزخرفة، يمسد شعره المصبوغ بتؤدة، ينظر بعينيه الشائختان إلى بعيد. لا يشعر حسني مبارك حقيقة بتأنيب الضمير. التربية العسكرية جعلت الديكتاتورية انضباطًا، و الاستبداد إنقاذًا و حماية. و الإهانة و التنكيل تقويمًا و إصلاحًا. جعلت العسكرية الأكل و الشرب و ممارسة الجنس—إن استطعت—هي الحقوق الأصيلة للشعب و حسب. ما دخل "الغوغاء" و "الدهماء" و "محبي الظهور" و "الحمقى" بتدبير أمور البلاد؟
حسني مبارك لا يشعر بتأنيب الضمير، بل هو يشعر بالتعب و بالكثير من الملل. كيف يُجن الجندي فيتخيل أن لديه توكيل بقيادة الجيش، أو حتى المشاركة في قيادة الجيش؟ كيف يرفض الجندي و يعاند في تنفيذ أمر قائده؟ يحدث حسني مبارك نفسه بذلك، و هو يمط شفتيه قابضًا علي مسندي مقعده بحركة عفوية، و يشعر بأنه قائد تاريخي حليم حقًا لأنه لم يسلم هؤلاء الجنود المجانين العصاة الوقحين "النمارده" (حسب لفظه الأثير) عديمي التربية للشرطة العسكرية و للحبس الانفرادي، أو حتى لفرقة الإعدام التي يستحقونها لتحدي أوامر القيادة العليا. أضف إلي ذلك مدلسي السلطة الذين يجلسون إليه—ليس تحت قدميه بالمعني الحرفي للكلمة—ليقولون له أن الشعب "لم ينضج سياسيًا" و "كيف يقرر الجائعون مصيرهم؟" و "كيف يحكم الأميون شعبًا؟". كيف يحس حسني مبارك بتأنيب الضمير و في كل تجمع أو زيارة أشخاص يهتفون باسمه، و يقسمون بحياته، و هو يعرف—قبل غيره—أنهم مجرد منافقين و كلاب سلطة و مشتاقين؟ أي شعب هذا ليحكم؟
تعلو وجه مبارك تلك النظرة الخبيرة، الممتزجة بالاستهانة و بشيء غير قليل من الاحتقار عندما يواجههم، ابتسامته المتقلصة و عباراته التي تبدو ممازحة بريئة "اقعد لا حسن يطقلك عرق"، و "خلصي يا.... و خشي في الموضوع"، تبدو كطقس نهائي لرقصة النفاق الأبدي. نقطة وقف تزيح المدى ورائها لامتعاض لا يؤدي—بأي حال—إلي الاحترام
علت وجهه ذات الابتسامة عندما تذكر إعلاميًا هتف به في برنامج تليفزيوني انه "لولا حكمته و قيادته التاريخية لخرج من عنده إلي السجن الحربي"، هكذا! و كأن هذا التصرف هو حق أصيل لرئيس الجمهورية يتساهل فيه مبارك من قبيل التباسط و التواضع
لا يرى الرئيس غير هؤلاء، و إن رأي غيرهم—بخلاف "الارذال" و "الوقحين" و "مشتاقي السلطة"-- فسيرى مواطنين مذعورين كل همهم هو إخباره بما يريد أن يسمع. مواطنون مطحونون لا يعرفون ألا طبق الفول و الفاكهة المسممة، و كل ما يتمنون هو استمرار تلك النعمة السابغة عليهم بلا تنغيص
يجلس حسني مبارك تحت شمس مصر الدافئة، و في قصر عروبته مطمئنًا إلي سداد ما يفعله. يريدون انتخابًا فكانت انتخابات. يريدون مظاهرات احتفالية و مظاهر ترضية و تباسط فكانت جلسات شرب الشاي (العفوية) مع المواطنين. يحبون كلمة الديموقراطية فقلناها في اليوم بدل المرة عشرين مرة. ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ محمد علي حكم حكمًا استبداديًا كما يقولون، و كذلك عبد الناصر، و كذلك صلاح الدين، إذن لِمَ ينفشون ريشهم عليّ أنا فحسب؟ هو ذنبي أنا لأنني منحتهم حرية الرأي و سمحت لهم بجرائد و مجلات و تجمعات. لو كنت قد ضربتهم بقسوة أكثر قليلًا لتفرقوا مثل الدجاج المذعور
الإعلام يحيط بحسني مبارك كما يحيط بنا، و صبغة الشعر السوداء الفخمة؛ و المأكولات الصحية؛ و الأدوية الناجعة؛ و مفاهيم التربية العسكرية؛ و قيم يمينية اوليجاركية متعسفة؛ و مقولات حق يراد بها باطل ؛ كل هذه المخاتلات تتشابك مع فساد طال حتى اللغة، فعُصبة منتفعي النظام تسمي نفسها بـ"الحزب" و "الوطني" و "الديموقراطي"؛ كما تدعي كل تجمعات النميمة اللطيفة و نوادي العجزة إنها "أحزاب" ؛ و حتى الغوغائية و الشوفينية و الحماقة صارت "وطنية ثورية"؛ و الاصطلاحات التي ما انزل الله بها من سلطان (مثل الإعلام الريادي) ، كل هذا قد تشابك و تناغم ليؤكد للفرعون انه القائد و الزعيم و السندباد البري و البحري معًا، و انه شعب "لايمشي إلا بضرب الجزم" و "كتر خيره انه واخد باله منه"، و "هي مصر كده يا ريس"، إضافة لمقولة ايدولوجية خطيرة: "هي الانصاص قامت و القوالب نامت يا جدعان؟". اختصار ملفت من فقهاء جمهورية الدهاقنة؛ ينزل بالدولة إلي مقام الحارة، و بالرئيس إلي مقام الفتوة
ليس من السهل حكم مصر.كلمة صحيحة يقولها مبارك؛ و التكملة الفصيحة هي أنه من المستحيل ترك حكم مصر أيضًا. الكرسي و طول الممارسة يجر وراءه الكثير من العداوات و المصاعب، منعة العرش تقي بطش الانتقام، سواء عن حقد دفين؛ أو كمحاولة من حاكم قادم لتلمس البركة من دماء سابقه سواء في شخصه أو في عائلته. لن يترك الفرعون حكم مصر مادام حيًا، و يبدو انه قد نجح في ذلك. سدنة الحكم ليسوا دهاقنه فحسب، بل ذئابًا تستعمل أنيابها في اتجاه الضعف؛ سواء معه أو عليه
يقوم الرئيس تاركًا فنجانه الفارغ، و مائدته المنمقة. يترك كل شيء ورائه و هو يستمر في النظر إلي السماء بلونها الصافي. ما يزال هناك الكثير لإنجازه
حسني مبارك لا يشعر بتأنيب الضمير، بل هو يشعر بالتعب و بالكثير من الملل. كيف يُجن الجندي فيتخيل أن لديه توكيل بقيادة الجيش، أو حتى المشاركة في قيادة الجيش؟ كيف يرفض الجندي و يعاند في تنفيذ أمر قائده؟ يحدث حسني مبارك نفسه بذلك، و هو يمط شفتيه قابضًا علي مسندي مقعده بحركة عفوية، و يشعر بأنه قائد تاريخي حليم حقًا لأنه لم يسلم هؤلاء الجنود المجانين العصاة الوقحين "النمارده" (حسب لفظه الأثير) عديمي التربية للشرطة العسكرية و للحبس الانفرادي، أو حتى لفرقة الإعدام التي يستحقونها لتحدي أوامر القيادة العليا. أضف إلي ذلك مدلسي السلطة الذين يجلسون إليه—ليس تحت قدميه بالمعني الحرفي للكلمة—ليقولون له أن الشعب "لم ينضج سياسيًا" و "كيف يقرر الجائعون مصيرهم؟" و "كيف يحكم الأميون شعبًا؟". كيف يحس حسني مبارك بتأنيب الضمير و في كل تجمع أو زيارة أشخاص يهتفون باسمه، و يقسمون بحياته، و هو يعرف—قبل غيره—أنهم مجرد منافقين و كلاب سلطة و مشتاقين؟ أي شعب هذا ليحكم؟
تعلو وجه مبارك تلك النظرة الخبيرة، الممتزجة بالاستهانة و بشيء غير قليل من الاحتقار عندما يواجههم، ابتسامته المتقلصة و عباراته التي تبدو ممازحة بريئة "اقعد لا حسن يطقلك عرق"، و "خلصي يا.... و خشي في الموضوع"، تبدو كطقس نهائي لرقصة النفاق الأبدي. نقطة وقف تزيح المدى ورائها لامتعاض لا يؤدي—بأي حال—إلي الاحترام
علت وجهه ذات الابتسامة عندما تذكر إعلاميًا هتف به في برنامج تليفزيوني انه "لولا حكمته و قيادته التاريخية لخرج من عنده إلي السجن الحربي"، هكذا! و كأن هذا التصرف هو حق أصيل لرئيس الجمهورية يتساهل فيه مبارك من قبيل التباسط و التواضع
لا يرى الرئيس غير هؤلاء، و إن رأي غيرهم—بخلاف "الارذال" و "الوقحين" و "مشتاقي السلطة"-- فسيرى مواطنين مذعورين كل همهم هو إخباره بما يريد أن يسمع. مواطنون مطحونون لا يعرفون ألا طبق الفول و الفاكهة المسممة، و كل ما يتمنون هو استمرار تلك النعمة السابغة عليهم بلا تنغيص
يجلس حسني مبارك تحت شمس مصر الدافئة، و في قصر عروبته مطمئنًا إلي سداد ما يفعله. يريدون انتخابًا فكانت انتخابات. يريدون مظاهرات احتفالية و مظاهر ترضية و تباسط فكانت جلسات شرب الشاي (العفوية) مع المواطنين. يحبون كلمة الديموقراطية فقلناها في اليوم بدل المرة عشرين مرة. ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ محمد علي حكم حكمًا استبداديًا كما يقولون، و كذلك عبد الناصر، و كذلك صلاح الدين، إذن لِمَ ينفشون ريشهم عليّ أنا فحسب؟ هو ذنبي أنا لأنني منحتهم حرية الرأي و سمحت لهم بجرائد و مجلات و تجمعات. لو كنت قد ضربتهم بقسوة أكثر قليلًا لتفرقوا مثل الدجاج المذعور
الإعلام يحيط بحسني مبارك كما يحيط بنا، و صبغة الشعر السوداء الفخمة؛ و المأكولات الصحية؛ و الأدوية الناجعة؛ و مفاهيم التربية العسكرية؛ و قيم يمينية اوليجاركية متعسفة؛ و مقولات حق يراد بها باطل ؛ كل هذه المخاتلات تتشابك مع فساد طال حتى اللغة، فعُصبة منتفعي النظام تسمي نفسها بـ"الحزب" و "الوطني" و "الديموقراطي"؛ كما تدعي كل تجمعات النميمة اللطيفة و نوادي العجزة إنها "أحزاب" ؛ و حتى الغوغائية و الشوفينية و الحماقة صارت "وطنية ثورية"؛ و الاصطلاحات التي ما انزل الله بها من سلطان (مثل الإعلام الريادي) ، كل هذا قد تشابك و تناغم ليؤكد للفرعون انه القائد و الزعيم و السندباد البري و البحري معًا، و انه شعب "لايمشي إلا بضرب الجزم" و "كتر خيره انه واخد باله منه"، و "هي مصر كده يا ريس"، إضافة لمقولة ايدولوجية خطيرة: "هي الانصاص قامت و القوالب نامت يا جدعان؟". اختصار ملفت من فقهاء جمهورية الدهاقنة؛ ينزل بالدولة إلي مقام الحارة، و بالرئيس إلي مقام الفتوة
ليس من السهل حكم مصر.كلمة صحيحة يقولها مبارك؛ و التكملة الفصيحة هي أنه من المستحيل ترك حكم مصر أيضًا. الكرسي و طول الممارسة يجر وراءه الكثير من العداوات و المصاعب، منعة العرش تقي بطش الانتقام، سواء عن حقد دفين؛ أو كمحاولة من حاكم قادم لتلمس البركة من دماء سابقه سواء في شخصه أو في عائلته. لن يترك الفرعون حكم مصر مادام حيًا، و يبدو انه قد نجح في ذلك. سدنة الحكم ليسوا دهاقنه فحسب، بل ذئابًا تستعمل أنيابها في اتجاه الضعف؛ سواء معه أو عليه
يقوم الرئيس تاركًا فنجانه الفارغ، و مائدته المنمقة. يترك كل شيء ورائه و هو يستمر في النظر إلي السماء بلونها الصافي. ما يزال هناك الكثير لإنجازه
1 comment:
كان تساؤل مثل هذا في ذهني: هل يشعر الرئيس انه ظالم أو مفتري؟
جملة ذكرتها أعجبتني: "الإعلام يحيط به كما يحيط بنا"
إذاً هما عالمان منفصلان تماماً!
يحيط بكلٍ منهما إعلامه و دعايته
نحن نتكلم و هو لا يسمع ثم هو يتكلم و نحن نسمع و لكن لا نفهم إلا في سياق قناعاتنا
فكيف يمكن الاتصال بيننا؟
Post a Comment