لا اعرف لَمِ كل فكرت في مصر، تظهر لي صورة ملكها السابق فاروق
قررت في يوم أن افهم، و وجدت أن الأجابة--شأن كل الأجابات--شهلة و بريئة، فقط تنقصها العين الفاحصة. ازمة مصر هي ازمة فاروق.. و لو خيروني أن اختار وجها ذكوريا لمصر، فسأختار فاروق
فاروق، ذلك الملك الذي كان وسيما بهيا في طفولته و شبابه، متعلم، رياضي، اي باختصار: ملك حقيقي. و بعد سنوات ما. سنجد أن هذه الصورة البهية قد تبدلت إلي النقيض تماماً. سنوات قلائل قلبت كل المحاسن إلي مثالب. فاروق ضاع في ازمات طاحنة قتلت كرامته --والدته و حادث الرابع من فبراير و طلاقه--و مصر توشك أن تضيع بسبب ازمات طاحنة ضعضعت جسدها--الدكتاتورية و النهب . فاروق تحول إلي كائن شبحي عابث، و مات غريباً في ارض غريبة، و مصر تحولت إلي اسطبل عامر، تنتظر الموت بنفس رحبة
الدول غير البشر، فإذا كان البشر يضيعون في غضون سنوات قلائل، فالدول تضيع في خلال حقب. و ما يحدث في مصر منذ بداية العصر الجمهوري--و تحول إلي سياسات تدميرية حقيقية علي المستوي الأيدولوجي منذ العام 74 تقريباً-- هو شيء يدك اقوي البلاد و امنعها. النخبة السياسية، و علي رأسها سيادة الرئيس مبارك، تفننت في لعبة حذقة: قتل البراعم إذا ما تحولت لزهور مبشرة. و لا يخيل لكم أن مثل هذه "الزهور" هي من النوع الذي ينثر الطيب يمنة و يساراً، بل أن هذه القيادات نفسها--في اعمها الاغلب--منتج معاد التدوير في ظل اسوأ ظروف نخبوية يمكن أن تتاح لبلد في الدنيا، و هكذا، فلا يكون الأبعاد فعل تدمير لقيم ايجابية تشق طريقها مخترقة العفن، بل أنه فعل تجنيب لعفن آخر، يمكنه أن يفوق العفن الأصلي، و يبزه في سهولة
المهم، بعد 26 عاماً من الحكم، فقد نجحت النخبة السياسية المصرية في تصفية كل المنافسين المحتملين--بتكنيك ناجم عن خبرة عريضة، نشبت اظافرها في لحم الواقع في غير قليل من المرات، و لعل اشهرها حالة ابعاد الوزير النجم منصور حسن في العصر الساداتي
صارت مصر بلداً يبحث عن قيادة كارزمية فاعلة، بلداً يبحث عن فرد تحتشد به قيم الجماعة و احلامها، يحركها بنفس براعة تحريكها هي له. و لم يكن--بعيداً عن النخبة--تحقق ذلك بسهولة
الشعب الذي دجن عبر سنين طوال، و ركزت عليه مدافع دعائية بالغة الشراسة، و تعليم منحط، و تعميق للأنعزالية و الفردية في كل يوم، و قيادات حزبية لا تختلف في بنائها و آلياتها و فلسفاتها المنظمة عن الحزب الوطني في شيء، بالأضافة إلي مناخ بوليسي مهيب، يقتل أي بادرة للتمرد و للفاعلية في اجساد تلك الأحزاب--إن وجدت--بعيداً عن الرأس العفن ، أو الرأس اليائس محدود الحركة
و لعل التكنيك الذي استعمل غير مرة مع فئة الشباب--أخر الفئات و اكثرها حساسية لدي النظام-- لخير دليل علي منهجية التدمير الحذق، التي تقوم علي عنصرين يبدوا متضادين، و لكنهما--و تحت قيادة حكيمة لمايسترو محنك--يتسقان في تمازج عجيب، و توازن دقيق
فمن ناحية، نجد عبارات تدعو الشباب إلي العلم و العمل، الذي به يتحقق الأمل، و من جهة أخري--عندما يشطح الشاب و يخيل له عقله أن ما يقال ذو نية خالصة--يقال أن مصر ليست اليابان، أو امريكا
و هكذا يكون الحل قادماً من طرف خفي: سافر يا بني لتجد لك مخرجاً
و أمثلة التفوق كثيرة و حقيقية و شرعية الالتفات و الحفاوة مثل الطبيب مجدي يعقوب، و البروفيسور زويل. و بالطبع هناك بعض التباكي علي مصير التعليم و آليات المجتمع القاصرة عن تفريخ مثل هذه الأنماط محلياً و ألخ ألخ ألخ، و لكن الدرس الحقيقي المتبقي، الذي يشير به الكل للشاب: سافر-هاجر-اهرب
و كل هرب و كل سفر و كل هجرة هي مكسب للنظام. يوم أن يغادر مصر انسان يفكر بطريقة حرة، لا انسان عبقري مدفوع الأجر كعميل
و عندما يزيد الأحتقان قليلا، يقوم النظام بضخ وظائف بأعداد كبيرة-- لا يسلم منها فعليا إلا القليل، و في مواقع متواضعة دنيئة--علماً بأن قطاع الأعمال التابع للدولة، و ادارات الحكومة، تعاني من ازمة تضخم في العمالة الزائدة. يعني ببساطة: حل سياسي براجماتي
المعادلة هي: يمكنك أن نعطيك أملا بقدر لا يجعلك تثور.. و يأسا بقدر لا يجعلك تناضل
و بالطبع استمرت جوانب اللعبة قائمة إلي أن حدثت المتغيرات التي نعايشها حالياً، و التي يعلم الكثير منها تفاصيلها و احداثها، و نتج لدي النظام وعي مخيف: هناك شرارة
شرارة ليست خطورتها في كونها داخل تنظيمات عقائدية محدودة التأثير و قابلة للتشكيك عند أهل الشارع (الشيوعيين)، أو فئة تتماهي عقائديا مع فئات عريضة من الشعب تحت تأثير تغير مأساوي في عقلية المواطن المصري بدأ منذ السبعينات، و لكن تبقي هذه التنظيمات محاصرة في اطار سياسي امني محكم ، محلياً و دولياً (الجماعات الأصولية) أو حتي من تنظيمات يعتقد أن لها شعبية عريضة، و يساهم النظام في دعم هذه الصورة لغرض تخويف الغرب، و لكن--ايضاً--هذه التنظيمات محصورة بأطارات ثخينة، و بطرق صارمة في التعامل تحولت إلي روتين حياتي للنظام (الأخوان المسلمين). الشرارة هنا، هذه المرة، هي لدي رجل الشارع العادي
و المسألة ليست تنظيما يسهل ضرب ارشيفه و نقطته المركزية، أو حزب معروفة قياداته و نقاط ضعفها منذ ساعة تكونها، بل هي حركة حرة، ديناميكية، عيبها الأساسي هو نقطة قوتها، و مصدر رعبها المقيم: لا مركزيتها
و حتي الآن، يتعامل النظام بحنكة مع حركة كفاية، و مع التمردات التابعة في مختلف اجزاء اصيلة من النظام--مثل القضاء--انه يعاملها مثلما كان يتعامل مع الشعب اجمعه حتي الآن، مع تغيير المسميات و الحلي اللفظية: يمكنكم ان تتظاهروا حتي نقول أن هناك ديمواقراطية، و يمكنكم أن تُضربوا حتي تفهموا انها ديكتاتورية
الحكمة السياسية الأصيلة--كسياسة براجماتية--هي انك لابد من سحق مثل هذه الحركات بلا رحمة، لأن التاريخ يقول أنه إذا ما ايقنت التيارات الشعبية انها تملك قدرة الفعل، فستمضي بها طموحاتها للنهاية، كما حدث مع شاه إيران--و هو الشيء الذي عبر عن نفسه بارزا في شعار موحي : مش كفاية
و لكن النظام نتيجة لتوازنات دولية دقيقة يجد نفسه مغلول الأيادي عن ضربة ساحقة قاصمة تنهي المسألة، و تؤكد ادبية درج النظام علي ترويجها بمنهجية دقيقة: هذا النظام يمكنه وضع مصر كلها في السجن. أو ربما يخاف النظام من تكرار غلطة المثال الساداتي في اعتقالات سبتمبر. المهم أن النظام الآن يلعبها بشكل دقيق، و يراهن علي غياب القيادة الكارزمية الفاعلة، التي يمكنها أن تترجم مبادئ العمل إلي افعال علي الأرض، يراهن النظام علي انتهاء الفترة الثانية لحكم بوش الأبن، و امكانية ظهور قيادة امريكية جديدة تؤمن بالتعامل مع مصر من مدخل "الأمن" لا من مخل "الديموقراطية" ، كما اعلن جون كيري بشكل واضح اثناء حملته الأنتخابية
يوقن النظام أن اغلب ما يمكن تنفيذه قد نفذ: كل الوجوه سقيمة و كل الوجوه المبشرة يلقي عليها بظلال من التشكيك--المنطقي جدا في كثير من الحالات كمنطلق--يمنح النظام فرصة استمالة الجزء الأكبر من الشعب، حتي لا تقوم انتفاضة شعبية. هي استراتيجية تقوم علي مبدأين: التخويف الأمني الصارخ، و مخاطبة العقل بكلام منطقي: حق يراد به باطل
و للأسف، حتي في وجود هذا البطل الكاريزمي، المسيح المخلص، المستبد المستنير علي حد تعبير العقاد، فأن المسألة تعبر عن انهزام فكري عميق، فستبقي --إلي مدي غير معلوم--فكرة الرجل الذي ينوب عن الجماعة في تحقيق امالها القومية، بطل يتحمل مسئولية لا يتحملها إلا الشعب، الذي يضعها عليه تواكلاً، أو خوفاً، أو تعبيراً عن قلة الحيلة و اعترافاً بالضحالة و المحدودية. و في هذه الحالة، فأن ديكتاتورية اخري في الطريق. ديكتاتورية بالمعني و بالجوهر، مهما كان نبل اهدافها و رجاحة اختياراتها و صدق وعيها الوطني.. و ارجو ألا ننسي جميعاً المثال الناصري، فهو بكل ما كان يحمله من عظمة، قد سحق--بدوره--أي قيادات أو حركات منافسة، تحت مسمي "الأتحاد" و "الأتساق" و "محاربة خطر يهدد الأستقرار و الأمن القومي".. لقد كان النظام الناصري يهدف إلي غايات نبيلة و لا شك، و لكن نتيجته، و بالطبع هي نتيجة تراكمية من ممارسات مشابهة و إن اختلفت المبادئ إلي درجة الفزع، نتيجته هي ما نعيشه الآن، من افتقاد حقيقي لآلية ديموقراطية حقيقية، تملك خيار المواجهة و استطاعة التجاوز
نحن لا نريد مصر أن تذوي كما ذوي فاروق، و لكن أملنا الأكبر أن الحضارات و الدول العظيمة مثل العنقاء، تنهض من رمادها لتبث نارا و نورا، نحن--و بكلمة حرفية--لابد لنا من "صنع" هذه المعجزة ، لا انتظارها كحمل بائس.. كجودو حزين يلعن الأقدار
4 comments:
لما بتتكلم جد بحب اقرا لك
يشرفني انك بتحب تقراني بأي صيغة تحبها
:)
متشكر علي كلامك الرقيق، اللي فيه كده سنة عتاب خفية، بس ده حقك ف النهاية .. انت اللي بتقرا اساسا!!!!!!!
:)
يا سيدي العفو
انا الي مبسوط بوجودك
بس في نقطة,المدونة تختلف عن الكتابة في المجلات-الدوريات و غيرها فهي غرفة تخص المرء وحدة-كما يقول
حموكشة.
اكتب ما تريد ان تكتب هنا ولا داعي للتقيد بمزاج "القراء"
ده اقتناعي اساسا
:)
انا بس كنت بقول أن العتاب من حقك ، كما أن الكتابة من حقي
:)
اشكرك مرة تانية
Post a Comment