"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، آيه قرآنية، يستشهد بها الكثيرون من الحكام والقضاة في العالم العربي،
بالإضافة إلى عبارة شائعة أخرى، ينسبها الناس تارة لأبي حامد الغزالي، وينسبها بعضهم لمجمل أعمال ابن خلدون، وهي "العدل أساس الملك". صحيح أن العدل هو قيمة إنسانية عامة جدا، ولا يمكن قصرها على ثقافة بعينها، ولكن في حالة مجتمعاتنا الإسلامية نجد العدل في القلب؛ هكذا كانت ثقافتنا في روحها، عدالة في وجه الظالمين، المستكبرين، الفخورين بذواتهم والمتجبرين. فكان العدل أساساً وميزاناً، ولا توجد سبة أسوأ من أن تكون ظالمًا، "لأن الله ذاته العدل، والعدل يعني الحق، والحق حبيب الله"، كما يقولون، وهو اسم ثان للذات العليا.
هكذ ينتقد كثير من المفكرين غياب العدل في ثقافة ارتكزت على مفهوم العدل، ليس فقط كعملية قضائية، ولكن كأساس لتقييم السياسة ذاتها، فقال ابن تيمية إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، فالعدل، مرة أخرى، هو أساس الملك.
إذن، فما دام الحاكم عادلاً، مادام حاكماً. لا يهم لكم من السنوات، لا يهم، ما دام عادلا، يستدعي عدله حق بالسياسة والرياسة والتولي.
هكذا ننظر للتداول الديمقراطي باعتبارها آلية لنظام سياسي قد ينوجد فيه العدل بشكل أكبر من النظم الأخرى، بينما تحولت العدالة في مجتمعات أكثر تطورًا منا لقيمة، أغلب الأنظمة الرئاسية تحدد فترة الرئاسة بمدة أو مدتين، وحتى الأنظمة البرلمانية، التي بطبيعتها لا تقيد عدد مرات تولي رئاسة الوزراء، صار هناك مفهوم عام أنه لا يجوز أن يبقى أحدهم حاكمًا لمدة تتجاوز العشر سنوات أو ما يزيد قليلا. في وطننا العربي نقول: وما قيمة هذا إن كان عادلا؟ هل نترك الرجل من النشامى (وكلهم نشامى مغاوير) من أجل ما لا نعرف؟
سنسأل هنا، أي عدل هو؟
لقد نشأت في مصر، وأعيش فيها، وحين كنت تلميذا في الفصل، كان يمكن أن يضرب المدرس الطلاب جميعهم لعجزه عن تحديد من فعل شغبا ما، فيعاقب الجميع بحجة "المساواة في الظلم عدل".
يمكنني أن أقول، في الحقيقة، "أي عدل هذا؟!"، ويمكنني أن أقول "هكذا نرى كيف تفسر النخبة الحاكمة عدلها"، ولكن الحقيقة بعيدا عن سخف التفسير السابق للعدالة، ولشمولية مبدأ العدالة والإنسانية نفسه، أن لكل زمان عدالته: لذا تتوالى القوانين التي تتغير بتغير المجتمع، وهكذا يكون لكل عصر تشريعه، وقانونه، وعدالته.
لكن لدينا نقول إن الأساس في الحكم ليس تعاقب الأجيال، التي تحدث قانونها وعدالتها بما يلائمها ويلائم عصرها، بل إننا نقول إن عدل الحاكم هو أساس حكمه، ودعنا من ظلمه الشائع الذي يراه عدلا، فحتى ولو كان "عادلا" فعلا، فهذا يعني أن تستقر طبقة بكاملها بمفهومها ليس فقط عن العدالة، وإنما عن الفن، والثقافة، والسياسة، والتعليم، والفلسفة.
يعني أن تتجمد مجتمعاتنا لمدد قد تصل إلى ثلاثين عاما أو أربعين عاما أو أكثر من هذا -في ظل سيطرة عقلية بعينها لا أشخاص بعينهم- حيث تأتي السلطة من ثقافة تثبت الحاكم، ليثبت الحاكم هذا المجتمع في عملية دائرية، تحاول تكسيرها وتهشيمها أفكار الديمقراطية التمثيلية، ومبادئ التداول وحقوق الإنسان، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في الروايات والأفلام، في برامج المؤسسات الأهلية.
نعم هناك سباق لعقل جديد يؤمن بالتغير والتداول، وبأن لكل جيل، أو أجيال متقاربة، مفهوما عن الحياة قد يختلف كثيرا أو قليلا عن الأجيال التي سبقته أو التي ستعقبه. لكن هذا دوما يصطدم بالعدل الذي هو أساس الملك، أو، بالأحرى، بالملك الذي يستخدم العدل.
ثم نسأل، ما الذي أوصلنا للسيسي؟!
ثم نسأل، عدل السيسي؟!
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
نشر في العربي الجديد بتاريخ ٣١ مارس ٢٠١٦، يمكنك رؤية المقال الأصلي هنا.