كنا في ميريت، انا والعايدي وإبراهيم داوود وآخرون، وفيما اتذكر، طرح داوود سؤالا بدت لنا اجابته بديهية: “ماذا تفعل لو حاول لص سرقتك بالاكراه؟!”. اجبنا انا والعايدي “سنقاوم”. هز ابراهيم كتفيه وقال كمن يقرر حقيقة كونية “لا طبعا، سأعطيه المحفظة”. وأمام استحسان البعض لرد داوود، نظرنا انا والعايدي لبعضينا وصمتنا. تملكني هذا السؤال، وطفقت افكر فيه بين كل حين وآخر، في اوروبا وامريكا يعطون الحافظات، بل حتى ينصحونك بوضع ورقة مالية من فئة معقولة، حتى لا يغضب السارق، الذي هو في حالتهم سيكون غالبا من المدمنين، فيقتلك غيظا. بدا الموضوع حكيما، ولكنني قلت لنفسي “وهل من يسرق عندنا من المدمنين فحسب؟”.
وباعتبار انه لم يسبق لي الوقوع في ذات المأزق قبلا، فقد كنت احاول تخيل ما الذي يمكنني حقا فعله، تذكرت الخناقات المتباعدة التي تورطت فيها، سواء في مصر او في اوروبا، وغالبا ضد اكثر من فرد في ذات اللحظة، بحماقة بالغة، ولكنني نجوت بدون اصابات حقيقية أو خسائر، وقبل ان اشكر “شجاعتي”، تذكرت ما قاله لي تيم، صديق انجليزي يضرب الآن في اطناب شنجهاي، عن مدى حماقة المصريين الذين يتورطون في خناقات مع من يفوقهم عددا وقوة في الشوارع، اثنى بدافع من أدب انجليزي مجامل ومعهود على هذه “الشجاعة”، ولكنه سأل سؤال مستحق عن النتيجة الاحتمالية لهكذا موقف. يجب، إذن. أن اشكر حظي الحسن؟! هل الوم داوود الملك؟! أم ألوم من علمني قصته؟!
وعندما كنت اصغر من عمري الحالي بخمسة عشر عاما تقريبا، رأيت روائيا لا يسعفني الزمن بتذكر اسمه، ولكنني اتذكر ما صدر به روايته الصادرة من هيئة قصور الثقافة؛ لقد كتب أن البراءة جهل. وظللت، ايضًا، افكر في العبارة. في يوم بعيد آخر، كان بلال فضل يجلس معي، محاولا شرح ما يعتنقه من عدمية ايجابية كما اسماها: الكل للعدم، فافعل ما تحب، فسألت نفسي أهناك ايجاب وسلب في عدم؟ أيوجد معنى في استحالته؟! أي عبث هذا؟!
وهكذا، وجدنا انفسنا نعتبر ان البراءة جهل، وأن الشيطان روح تواقة للمعرفة، وأن الايمان يعني الدوجمائية، وأن العدم هو الوجود، وان اللطافة ضعف، وان السخرية، بل التهكم المر الكريه، هي قوة، هكذا وجدنا أن الشر هو من يرث الدنيا، هكذا وجدنا ان الشرير هو الملك، هكذا فكرنا في عالم الحيوان باعتباره الكتاب الاسمى للحياة، هكذا قلنا أن الحياة لا تدين لنا بشيء، هكذا قلنا أن النجاح يعني الفساد أو بعضه، والثراء يعني السرقة أو بعضها، هكذا قلنا انه لا عدل.
وكلما هيئ لنا اننا قد ابتعدنا عن الدين، يمكننا ان نذكر انفسنا بأن المسيح قد قال “الشيطان إله هذا العالم”، وأن القرآن قد قال “ولا تلقوا بانفسكم إلى التهلكة”.
لم نفكك المعاني لننزع القداسة، أو نخفف الحدية؛ لم نسلم بالعدم، بل صرنا مؤمنين به.
حتى عندما فاجأنا انفسنا، في اليوم الثامن والعشرين، وكنا افضل من احلامنا، وجدنا بعضنا يعتذر لا للناس، بل لنفسه، عن ذلك اليوم. اعلم اننا فيما تبع السطوع قلنا لأنفسنا “نحن افضل جيل”، وها نحن فيما يشبه الانطفاء نقول لانفسنا “نحن اسوأ جيل”، نعم، هذا معتاد. أعلم ان الخطاب حال، ففي النصر نرفع رايات المعنى، وفي الهزيمة نرفع رايات العدم. نعم. هذا معتاد.
ولكن، اخبرني: كيف تنجح ثورة يتصدى لها مجموعة من العدميين؟!
اخبرني: كيف يمكن لاسماعيل الاسكندراني النجاة من جلاديه، ونحن بهذا الشكل؟!
.............................................................
نشر على موقع العربي الجديد في ٢١ يناير ٢٠١٦، لرؤية المقال الأصلي يرجي الضغط هنا.
No comments:
Post a Comment