عندما عزل الرئيس مرسي المشير طنطاوي والفريق سامي عنان عن قمة الهرم
العسكري انقسم الناس إلى قسمين كبيرين: قسم ينشد الأناشيد ويقيم الأفراح احتفالا بسقوط
دولة العسكر، وقسم آخر يكتم نوعًا عجيبًا من الخوف لأنه بزوال هذه الدولة سيكون
الملعب مباحًا مستباحًا للإسلام السياسي.
وهناك قسم آخر من الناس، ربما ليس بعظم القسمين السابقين، توجس خيفة
من تغييرات تظهر ثورية ولكنها، وتحت نور جلي يظهر التفاصيل، لا تعدو أكثر من كونها
تغيير للوجوه وليس للسياسات. لا يوجد جدال على أهمية "الشخصية" في
السياسة عامة وفي السياسة المصرية والعربية خاصة-حيث الولع بـ"الرموز"-
حيث تفنن برنارد لويس في شرح نظريته عن الشيخ الذي هو عامود الخيمة، والقبيلة التي
تجلس في حماها، ولكن حسبة صغيرة على واقع الدولة المصرية تكشف أن كابوس الجنرالات
ما يزال كابسًا على نفس هذا الوطن، فلا هم رحلوا ولا هم المدافعين عن علمانية
الدولة وحداثتها.
في البداية اتبع الجنرالات أسلوبًا عمد لتحميل جهاز مباحث أمن الدولة
المسئولية كاملة عن ميراث الدولة الأمنية، وهو كلام صحيح ولكن ليس على إطلاقه،
فالمضطلع المدقق في شئون هذه الدولة منذ نشأتها على يد ثورة يوليو سيكتشف جليًا أن
جهاز المخابرات العامة هو من انتزع السيطرة الأمنية من جهاز البوليس السياسي
المنحل (رسميًًا) والأمن العام، وصار مهيمنا على جميع جوانب الحياة المصرية بكتيبة
كاملة من المخبرين الذين اتخذوا أغطية عديدة: فهذا موظف وهذا فنان وهذا رجل أعمال،
أضف على ذلك توسع منشآته الاقتصادية، منها ما ظهر للعيان في النهاية مثل مجموعة
شركات النصر ووادي النيل، ومنها من هو غاطس ويتهامس به المختصون فحسب، على شاكلة أن
الجهاز يمتلك مستشفيات وشركات سياحة بل ومراكز حقوقية أيضًا، حتى سرت شائعة ما عن
تحكم الجهاز على تجارة السكر في القطر المصري برمته مثلا.
حتى مع إنشاء جهاز مباحث أمن الدولة (رسميًا) في بداية السبعينات،
مما بدا وكأنه محاولة لكسر سيطرة الجهاز المحكمة على الدولة خاصة بعد الحملات التي
شنها عبد الناصر عليه فيما بعد النكسة،
فقد ظل الجهاز على قوته، واحتفظ-مثلا- باثنين من أقوى وزراء حكم مبارك،
وهما صفوت الشريف وفاروق حسني،في منصبي الإعلام والثقافة، مما يعني استمرار
المؤسسة العسكرية في التحكم والسيطرة على هذه الدولة، بحكم خلفية الغالبية الساحقة
من جسد الجهاز أو قياداته التنفيذية، والتي تنتمي للجيش حقًا وفعلاً، حتى وإن
تخانقت "مصارين البطن" خاصة في فترة ما بعد الثورة.
وهكذا فما يزال جهاز المخابرات العامة بعيدًا عن أي نوع من أنواع
التطهير، ومن المؤسف أن تنشر جريدة التحرير في وثيقة هي مسئولة عن صحتها من عدمها
أن الرئيس الحالي للجهاز هو من كتب للنيابة العامة في خطاب رسمي نافيا وجود أي
أشرطة لدي الجهاز توضح ما حدث في موقعة الجمل، وهو ما اشتكت منه النيابة العامة
رسميًًا إبان محاكمة الرئيس السابق. ما يزال جهاز امن الدولة تحت اسم تدليله
الجديد محتفظًا بكل كوادره ولم "يُبعد عن ممارسة العمل مع الجماهير" غير
400 فرد فقط من جهاز يدعي أن عدد العاملين فيه نحو الـ 1900 فرد فحسب. ما تزال
المؤسسة العسكرية تمتلك ما يقارب الـ 40% من الاقتصاد القومي حسب بعض التقديرات،
وما يزال جهاز المخابرات العامة محتفظًا بمنافعه الاقتصادية المنفصلة عن النسبة أنفة
الذكر، مما يعني فعليا تخلص الكيانين من أي وسيلة ضغط فاعلة من القيادات المدنية
أو البرلمان. في أمريكا تمكن الكونجرس من إخضاع السي آي ايه بعد فضيحة ووتر جيت عن
طريق قطع تمويله الحكومي، صحيح أن السي آي ايه قد زاد من اعتماده على الأموال
السعودية لبعض الوقت، ولكنها كانت وسيلة فعالة نفتقدها هنا.
وبعيدا عن سيطرة الجيش الأمنية المباشرة، فما يزال هناك عدد مهول من
القيادات العسكرية في مراكز الإدارة العليا والمتوسطة، ما يزالوا محافظين ورؤساء إدارات
ومديري هيئات وما إلى ذلك.
المطلوب، وبشكل حاسم، هو نقل تبعية هذه
"العزب" الاقتصادية إلى أجهزة الدولة المدنية، وأن يكون البرلمان هو
المانح للتمويل للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية جميعها، وله حق الموافقة أو
الرفض على الميزانيات التفصيلية التي تقدمها، وله حق جلسات الاستماع الخاصة التي
يمكن أن تستجوب أي من أفرادهم بلا اعتراض أو تذمر. بدون هذا التشريع، وبدون إصدار
توجيه واضح لأجهزة الدولة المدنية بعدم توظيف العسكريين المتقاعدين ومنع ندب
العاملين للهيئات المدنية، فسوف نظل في اثر الدولة العسكرية لمدة لا يعلمها إلا
الله، حيث إعلانات "أوعى الجاسوس" وأخبار القبض على جواسيس "يحومون
بالقرب من بانوراما حرب أكتوبر"، حيث الفشل الذي تركونا نغطس فيه لمدة ستين
عامًا، وما يزالون يطالبون بالمزيد.
No comments:
Post a Comment