designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Friday, October 15, 2010

الصوت





مثل كل الأنبياء وبعض المجانين بدأ في سماع صوت واثق يحادثه. وبما أنه بلغ مرحلة آمنة من النبوة فقد تعود على هذا الصوت كروتين حياتي، وبما أنه بلغ مرحلة آمنة من الجنون فلم يصرح لأحد. في البداية انزعج بالطبع، وشك في أنه يستحق مكانًا هانئًا في احد المصحات، واستغرقته هذه الأفكار بعض الوقت، إلى أن همت لنجدته بعض الذكريات، واقنع نفسه بأننا كلنا نستحق ذات المكان، في هذه المصحة أو تلك.
تعود ألا يهمهم برد تحية الصباح للصوت، لكيلا تتفحصه عيني زوجته المرتابة، التي قالت له في يوم من الأيام، وبشكل عابر، أنه من الطبيعي جدًا أن يكلم المرء ذاته. هي ذات القاعدة التي اتبعها مع زملائه في العمل ومعارفه على القهوة.
جرب أن يأخذ راحته ويناقش الصوت فيما يطرحه من رؤى (وهي للحق جديرة بالتأمل) أثناء خلوته في الحمام، ولكنه انتبه لاحتمالية أن يسمع احد أبناءه حواره الطويل (لابد وأن يكون طويلا بعد هذا الصمت)مع الصوت. كان يبذل مجهودًا حقيقيًا ألا يرد، فقد كان هذا الصوت أليفا للغاية، صوت ذكوري هادئ كاد أن يظن أنه صوت أبيه لولا هدوءه الملفت.  حاول التركيز جيدًا مع جمل الصوت الطويلة عادة، فقد يقول شيئًا يؤكد القرابة اللصيقة، أي نوع من أنواع الذكريات أو الحكايات قد يجد نفسه فيه، أو أخته، التي كان يعرف كم أحبها الأب، أو عمه الذي أنهك نفسه وأنهك أبيه في خصومة بلا معنى، أو أمه، والتي كانت لها مع الراحل صولات وجولات، وبلغت علاقتها به-ككل زوجين-منطقة لا يُعرف فيها الحب من الخصومة. ولكن لا شيء. لم يأخذ من هذا التركيز الشديد إلا بعض من الشاي الساخن الذي صبه فوق حجر بنطاله بلا وعي بينما هو يقصد فمه، على الأقل منح زملاء المكتب ابتسامات عابثة عندما رأوا موضع البلل.
يتحدث الصوت عن أشياء تبدو بسيطة جدًًا، ولكنها وعلى بساطتها كانت له أكثر الأشياء أهمية للتفكير فيها. مسألة العجلات مثلا: تلك الدوائر الملتفة وراء بعضها بمركزها الذي يرسل قوائمه لحواف الدائرة، والتي يمكن لخيالها أن يلف في عكس حركة الدائرة أحيانًا، وهذه السيور المعدنية التي تلتف حول الدائرة المسننة التي تحركها الأرجل. كيف كان الإنسان متفوقا على الأسد الذي لا يعرف العجلات.
كان حوارًا عميقًا ولكنه-وككل الحوارات العميقة- لا يخلو من ثمن مستحق، فعندما رأى رئيسه أن تقريره الأخير تضمن اسم احد الزملاء مكتوبا هكذا "فلان عجلة" استبد به الغضب ووبخه بشدة على وقاحته العجيبة تجاه زميله هذا وفي مستند رسمي.  هكذا لم يتحدث الصوت لا عن حكايات قرابة ولا شفت نبراته عنها، ولكنه وجد نفسه يفكر في إن كان هذا بالفعل صوت أبيه، بعدما اكتسب شيء من الهدوء أخيرًا. قال لنفسه أن هذا الصوت أكثر ذكاء بكثير. خجل من نفسه فعاد ليفترض أن الرجل قد حاز الهدوء والذكاء بعدما مات. هكذا عاش في ألفة، دعمتها أنه استدان الكثير ليشتري عربة بالتقسيط فرح بها ابنه البكري في البداية لأسباب يمكن تفهمها، قبل أن يدرك أن الأب لم يترك وقتًا يمكن استغلاله إلا ومكث في عربته، دفع عن طيب خاطر ديون العربة المعنوية من توصيلات ومهام للأقرباء والأصدقاء، ثمن البنزين ومبلغ القسط، فقط ليختلي بالصوت قليلاً في كل يوم وألا يكتب عجلة في تقرير رسمي أو يصب الشاي الساخن فوق عضوه .
وعلى ذكر عضوه، فقد شكت الزوجة في اختفاءاته العديدة بالعربة، وأخذت تفتش جيوبه وسجل مكالماته ورسائله في تليفونه المحمول، علها تجد أنثى هنا أو هناك، ولما لم تجد بدأت في التفكير في احتمالات أخرى منها إدمان المزاج، وهو نفس الخاطر الذي داخل الضابط الذي رأى رجلا خمسينيا يلوح بيديه في حماسة، ويتكلم في سرعة، جالسا وراء مقود عربته الرابضة في شارع جانبي. وعندما فتشه جيدًا وأدرك بخبرته أن الرجل في غاية التيقظ (بشكل إكلينيكي فحسب)، أحس بالحيرة لأنه لم يجد ما يقوله فتركه يمضي.
سألته زوجته بعدما أعيتها الحيل سؤالا مباشرًا: ماذا يفعل بالضبط عندما يختفي هو وعربته في اغلب اليوم؟
الرجل، والذي كان، ككل موظف صغير في الرتبة كبير في السن، يجد عسرًا كبيرًا في مواجهة الأسئلة المباشرة أجاب أنه يجلس في العربة ليفكر قليلاً.
بالطبع كانت هذه نكتة طاردته ما بقى له من حياة، واستغلها ابنه في التشفي بالطبع، وحكتها امرأته لصاحباتها في متعة، وذكرها هو لنفسه بغيظ، ولكنه لم يترك هذا ليستغرقه، هو في حواره الطويل مع الصوت، الصوت الذي ملك عليه الحياة لأنه كان مثل العدسة التي تنقل له صورة صافية ومفهومة للحياة، فعلى سبيل مثال آخر: مات مجدي زميل العمل ميتة عجيبة، فعندما صدمته شاحنة ضخمة، وهو يعبر الطريق السريع قادما إلى العمل، قام سالمًا ببعض من الرضوض البسيطة، ولكنه، وهو يفكر في لطف الله ورحمته، بينما هو يجرع من كوب القصب الذي كافئ به نفسه، فقد استغرق في التفكير حتى صب بعض من القصب في رئته فاختنق ومات. اخبره الصوت بأن هذه الميتة تلخص مجدي ذاته؛ هو من البساطة حتى لا يحتاج شاحنة بحالها لقتله. هكذا وجد نفسه يفهم مجدي أكثر بعدما مات.
وهكذا عندما قرر الصوت الاختفاء في يوم، لم يكن من الصعب عليه ألا يضطرب.
بدأ الموضوع بتناقص في الزمن، لم يعد الصوت يحادثه في ساعات الصحو حتى المنام، بدأ يخفت صوته، وتبتعد جمله، حتى بتر عبارة ما يقولها له، وهو جالس يستمع إليه في شرفة المنزل، جالسا مع بعض الأقارب الذين تحتم عليه ضيافتهم. حاول أن يخفي انزعاجه عن ضيوفه ولكنه وجد نفسه يصرخ في امرأته عندما نسيت أن تضع له السكر في الشاي ساعتها. نظر إليه الضيوف في تفاجئ وهكذا فعلت الزوجة التي لم تفهم لما بدأ زوجها في الذبول بعدها، لم صار معتكفا في غرفته بعد رجوعه من العمل (وبعد فشل محاولاته، وحيدًا في العربة، لمناجاة الصوت). لم تعرف لِمَ بدأ الزوج بعدها في تجاهل العمل، والرقاد في الفراش نائمًا كحجر لا يستجيب لكلمة أو لدفعه يد (وهو الشيء الذي سر ابنه البكري الذي صار يستولي على العربة في كل مساء.)
وعندما وجدت علبة المنوم لم تعرف ما الذي دفع بزوجها لاستخدامها من الأساس. ببساطة لأنها لا تعرف أن زوجها قد صاحب صوتًا اختفى في الصحوة، وبدأ يزوره في المنام، وصار على الزوج أن يطارده في كل ليلة، ثم صار يمد الليل نفسه حتى يرى الحياة كما رأها معه. صار يقوم ذاهلا ليلوك شيئًا يبقيه حيًا، أو ليذهب ليفرغ أحشائه، قبل أن يعود لرحلته الممتدة.
غافله المنوم وأرسله لنوم أكبر، عندما استغنى عن الطعام والشراب وصار يفرغ أحشائه حيث ينام، وما هال الزوجة ليس البول والخراء والعرق الذين التصقوا بجسد زوجها، ولا جسده النحيل كأصبع، ولا ذقنه الطويلة أو قدميه المتشققتين، ما هالها هي ابتسامة سعيدة، سعيدة جدا، كانت ترفل فوق وجه الجسد الميت.

4 comments:

light said...

عبقرية كالعادة

Muhammad Aladdin said...

رينا يخليك
:)

Anonymous said...

M :) ..
WOW .. AMAZING... I totally enjoyed reading it to the max.
way to go M.
way to go :)

Unknown said...

فعلا ممتازة يا علاء..
انا اندمجت فيها جداً و بعض اجزائها كاني مريت بيها يوما ما و نسيت..