designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Thursday, October 21, 2010

فرحة المتوسطين


كان يتصل بي ليخبرني بفخر عن نجاحه في الانضمام إلى نادي وادي دجلة الذي يبدو أنه الملاذ الأخير لمن هم مثله لم يرثو اشتراكات نوادي أولاد الناس.
لاحق تحدث بسخرية عن شعوره بالنقص طوال عمره (هو في منتصف الثلاثينات) لأنه لم يكن أبدا عضوا في أحد هذه النوادي. الحقيقة أن معظم أبناء الطبقة شبه المتوسطة عرفوا هذا النقص بشكل أو بآخر خلال فترة الجامعة، من هم في نفس عمره، حضروا آخر جيل من أبناء الناس المستريحين أثناء ارتيادهم الجامعات الحكومية قبل انبلاج فجر الجامعات الخاصة.
كان يمكنك ببساطة ملاحظة الفوارق الجسدية الفادحة بين المتوسطين والمستريحين. هؤلاء الأولين ليست أمامهم خيارات كثيرة بخلاف كرة القدم، وإذا تم رفضك باختبارات مركز الشباب والنادي الأهلي فسيكتب عليك ممارستها للأبد في الشارع أو البعد عن الرياضة والتحول إلى دودة كتب، والاختيار الأخير ليس حقيقيا لأن معظمنا كان يعاني من فقر التنوع في الثقافة التي تلقاها في صغره، مع تشوهات تليفزيونية شهيرة.. بعضنا تخرج من الجامعة وهو يقرأ بصعوبة، وأعتقد أنني أجد رواجا في مهنة الكتابة لأن الملايين من هؤلاء المتوسطين يجدون الكتابة مهنة أسطورية، تافهة لكن لا أحد يمكنه ممارستها.
المستريحين، معظمهم كانت التربية الجيدة تبدو واضحة على أجسادهم، معظمهم انتظموا في 3 رياضات على الأقل خلال طفولتهم المبكرة، منها السباحة بالطبع، وهي المهارة التي أجد رجالا متوسطين ناضجين لا يجيدونها لأنهم قد فاتهم الوقت على تعلمها. لقد تحطمت أسطورة أن الله يبسط القوة الجسدية للفقراء، وهم يحتاجونها فعلا، أجيال هزيلة سترث أجيال هزيلة، سوء التغذية وانعدام الرياضة هي الخبر الأصدق.
يتوصل المتوسطون لحل وسط كالعادة، بجنيهات قليلة في صالات ألعاب تقرقع بها أصوات أوزان الحديد (البلدية) يمكنك إخفاء عدم تناسق الجسد وضعف عضلات الأكتاف. في أيامنا كانت كانت هناك صالة الحسيني، بالقرب من السوق، لكننا كنا نبدو داخلها كالآنسات الرقيقات مقارنة بنوعية مرتاديها، كانت بلاسقف وأرضيتها ترابية. أقرب صالة محترمة كانت في ميدان الحجاز بمصر الجديدة، على حدود العالم المعروف لنا أيامها (الكون وقتها كان ينتهي بالقرب من مدينة نصر وبعد وسط البلد مباشرة)، لكننا هناك نبدو مثلا الفلاحين بملابسنا التي تبقت من الطفولة لأنه من الصعب إقناع الوالد بشراء ترينج إضافي (لقد اشتريت لك واحدا منذ 3 سنوات)، لكن الأزمة انحلت من نفسها بافتتاح السلام جيم، كانت أرضيته مغطاء بالموكيت، وبه أجهزة (نعم والله)، ورواده معظمهم مثلنا ومنهم تلاميذ يريدون تجهيز أنفسهم مبكرا للكلية الحربية (لا تنسى أنه عليك تنفيذ 30 ضغطة أو 20 عقلة لأنك ستخسر درجات السباحة بالطبع)، وفي النهاية كان يمكن للواحد إرهاق نفسه طوال الشهر بأقل من 20 جنيها.
لم نكن أبدا فقراء، والدي كاني مشتركا في نادي يتبع الشركة يقع في منطقة شعبية، لكننا كن نجد أنفسنا مرتعبين من الأوباش الذين يهبطون من البيوت الفقيرة المحيطة به للترازل على التلامذة أمثالنا، جاء لوالدي عرض بأن يشترك في النادي الأهلي الجديد مقابل 500 جنيه في التسعينات، لكننا نحن المراهقين رفضنا لأنه لا يمكننا استقلال المواصلات لهناك. لماذا لم يشترك أبي مبكرا في أحد النوادي المستريحة عندما توفر له هذا؟ لم يفعل لنفس السبب الذي منعه من شراء أرض في مدينة نصر أثناء بزوغ فجرها، وهو نفس السبب الذي جعله يفضل شقة في العجمي عن الساحل الشمالي، وشقة في سراي القبة بسعر فيلا في الرحاب. نحن المتوسطون ننظر للعالم الخارجي برعب، ونسعى أن ننتقل لأعلى، لكن بمجرد وضع أطراف أصابعنا في البحر الجديد، نصاب برعدة برد، ونشعر بهشاشتنا وانتظارنا لراتب الشهر القادم. من الأفضل أن تبقى في ما تعرفه (بنفس هذه الآلية نجح مقاول أنفار مثل حسني مبارك في اعتلاء أول دولة في التاريخ لمدة 30 عاما، وهي مدة لم ينجح فراعنة كثيرون في الوصول لها على العرش).
لقد مارست الكاراتيه وكرة السلة، وتعلمت العوم لحسن الحظ، رفضت كرة القدم باستعلاء، كنت نحيلا من الأعلى بفخذين ومؤخرة تخص جوريلا، لكن هذا كان يمكن إخفاؤه في السلام جيم. لكن اي رياضة مارستها كانت على مسؤوليتي الشخصية، لم يحضر والدي لبطولات الكارتيه مثلما يحدث بالأفلام الأجنبية (أحمد الله أنه لم يفعل ليشاهد ابنه يتعرض للضرب بقسوة).
النوادي فرضت نوعا آخر من الحصار علينا نحن المتوسطون، فلكي تزيد فرص تعرفك على فتاة يقل وزنها عن 60 كيلوجراما، كان يجب عليك أن تتحرك في دوائر النوادي. كان هذا أمرا عاديا بالنسبة للمستريحين، معظمهم تربوا مع فتيات رشيقات في الفرق الرياضية وأصبح على الفتيات أن يصبحن جميلات فعلا حتى يلفتن أنظار الشبان المستريحين (تعريف المتوسطين للأنثى الجميلة كان عجيبا وقتها، بعضنا كان يصاحب فتيات أكثر رجولة منه)، كان عصرنا الذهبي عندما تكفل صديق من الجيل الثاني بأعضاء نادي الشمس في إدخالنا (بل أن والده تصرف في مشاركتي بأحد الفرق هناك)، واكتملت الدائرة السعيدة بتعرفنا على آخر يمتلك سيارة 128 ذات كاسيت وأكوالايزر (أتذكر أنه كان يخبر العامل في محل شرائط الكاسيت بأنه يريد شريط أكولايزر).
لم ينجح أحدنا وقت الجامعة في اختراق كبير وسط البنات المستريحين، أحدنا نجح في الزواج بواحدة من بنات النادي بعد قصة حب إغريقية، لكنها في الحقيقة كانت متوسطة مثله لكن والدها الذي يعمل منذ 20 سنة بالخليج كان يعوضها عن غيابه بهذا النوع من الرفاهية، وبعد عدة سنوات أتى هذا الصديق يخبرنا فخورا أن انضم للنادي على عضوية زوجته.. لقد انتهت رحلتك أخيرا أيها الرفيق.
والآن، معظمنا يعمل برواتب تصل إلى الصفر الرابع، نسكن بأفضل أماكن للمتوسطين، لدينا سيارات وجربنا قروض البنوك، لكننا لم نكسر الحلقة القديمة، لم نصبح بعد من المستريحين، ننظر إلى أولادنا بحسرة ونقرر أنه من الأفضل لهم أنو نوفر مضرب تنس وحمام سباحة، وتعود الحاجة للنوادي من جديد.
لم ينضم صديقي فعليا لوادي دجلة، كان عليه أن يخوض أولا مقابلة شخصية لتحديد إذا ما كان يستحق عبور الحد الفاصل ما بين العالمين. هذه المرة لم يسأله أحدهم عن أصله المتواضع (لا، والده ليس حارس عقار)، ولم يسألوه عن قدراته المالية (فعليا البنك هو الذي سيسأل)، كان سؤالا بسيطا عن مظهره: لماذا تربي لحيتك؟ هل المدام منتقبة؟
الحدود مرة أخرى تزدهر ألوانها، إذا كانت تريد العبور، فعليك أن تتبع قوانين الجانب الآخر، عليك أن تترك وراءك بعض من مظهرك ومعتقداتك القديمة.
سمعة رئيس النادي أنه متعصب تجاه أصحاب اللحى والنقاب، نعم هي عنصرية في مؤسسة عامة لا يجب أن تكون هكذا، لكن ما يجمل الصورة قليلا أنه يمنع أيضا دخول ضباط الجيش والشرطة بالسلاح أو الملابس الرسمية (وكأن هذا يستوجب يحتاج قرارا خاصا)، لكن عنصرية صاحب النادي تعد عرض بسيط ضمن قوانين القشرة الرقيقة التي تعتقد أنها تعبر عن رؤية البلد للدين والتدين، وهي قشرة ثقافية ضحلة ترى أنه لاستمرار مظاهر الدين التي تراها صحيحة، يجب سحب حرية الخيار من الساكنين تحتهم، ومنعهم من الرفاهية والتعليم وحتى التوظف.
لقد نجح صديقي بالاختبار عبر كونه هجوميا ضد موظف أولوياته هي جمع أكبر كم من أموال المشتركين الجدد، أجاب ببساطة ثم سأله عن سبب السؤال، بغبغ الموظف بأي كلام لأن السؤال بالنسبة له غير محوري رغم ديانته المسيحية (هو شخصيا ينتمي للمتوسطين). وبعد النجاح، استطاع صديقي أن يقنعني أنا الآخر بالاشتراك، بل أنه أحضر لي مبلغ كان قد اقترضه مني ليساعدني على دفع مقدم الاشتراك (هو في النهاية لا يرغب أن يكون وحده هناك).
والآن، وقد قاربت الفرحة الكبيرة على الاكتمال، عندما يصبح لي ولأولادي وأحفادي عضوية قانونية وسط المستريحين وأنفذ آخر خطواتي تجاه العالم الآخر، أضع نفسي أمام نفس تجربة السؤال الذي أصابه: هل تعدنا بعدم تربية لحيتك وعدم ارتداء المدام للنقاب؟
لا أعرف.. حقيقة لا أعرف.


محمد حسين