designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Friday, October 12, 2007

(*) عشاق خائبون


بفضل صديقة عزيزة لم تعد النقود في جيبي تشبه الكلب الأجرب الذي نهشه أقرانه.

فكرت في ذلك و أنا داخل التاكسي، قبل لحظات قلائل من وصوله إلى بيتي. فتحت الحافظة—التي هجرت فكرتها مذ ما يزيد عن الأعوام العشر مثلًا—و أعطيت السائق ما بدا لي.

راقبت وجه السائق من طرف خفي، و أنا أعطيه النقود ثم لأعطيه ظهري في تؤدة مقصودة. دائمًا ما تنتابني حيرة وجودية عندما أركب التاكسي؛ كم سأعطيه و إن كان راضيًا بما أعطيت. التؤدة هنا تبدو كنوع من العدوانية. نعم، أعطيك النقود و لا أهرب منك لكيلا تلاحقني. ربما هي ليست بعدوانية صافية، هي شيء اقرب للندرة العربية الشهيرة "يكاد الجاني يقول خذوني"، أو مثل نظرة التردد الطفيفة علي وجه الحكاء عندما ينحرف فجأة في حكايته قائلًا "و لا ايه؟!".

أغلب السائقين يتخذون سمت المُكره علي ما ابتلاه الله. يحرك عصاه و يدعس دواسته و ينطلق. قلائل يشكرونك بحرارة أو يلحون في طلب جنيهين أو ثلاثة زائدين.

"اسطباحتك زي العسل".

أعلم أنني سأصعد البيت مثل المحموم لأكتب شيئًا.

كنت في ديوان مذ يومين، و قرأت قليلًا في كتاب جديد لباموق. الرجل حاز النوبل و صار—فيما يبدو—يطلق الكتب من باب الحصول علي فوائد البيع. بعيدًا عن ذلك أعجبني احتفاله بثلاثين عامًا من كتابة الروايات، يعترف أنه يبالغ قليلًا، فلم تكن كل هذي السنين مخصصة للروايات فحسب، و لكنه في احتفاله ينتبه للعديد من الكتاب ممن يسبقونه بعشرين عامًا أو أكثر. بالطبع طول المدة ليست مقياسًا علي جودة كاتب من عدمه، كما أن الكتاب الضخم مثلًا ليس بالضرورة أن يكون قيمًا، و لكن مدى السنين هي فكرة براقة، مثلما "شبق الكعب"—كما اسميه—هي فكرة مغوية.

ربما يسأل من يقرأ السطور عن العلاقة ما بين باموق و سائقي الأجرة الهائمين، أو ما بين ديوان و الجنيهات المبسوطة. هو سؤال وجدت نفسي اسأله حالا. الحق انه لا توجد علاقة أبعد من شبق الكتابة ذاتها. خطرت في بالي كتابة، انتهت في سطر "الاسطباحة"، و قادت بعدها لما هو حول الكتابة، بكتابة.

هاجس الكتابة عن الكتابة، أو الكتابة للكتابة، هو هاجس مقلق محفوف بالشكوك.

و باعتباري مؤمن راسخ بميتافيزيقية الموهبة، أجد أن الشعرة ما بين الهلوسة الخلابة، المسماة بالكتابة المتداعية، و الهلوسة الخائبة ( يمكنك تسمية أي كتاب تشاء!) هي قيمة الموهبة ذاتها. مثلما تتشكك في تفاني العالم في معمله، أو الدرويش في حضرته: قد يسحبه ما يعشقه بعيدًا عن كل شيء لينجز لا شيء. قعقعة بلا طحين أو قبض ريح. نهاية باردة هي، حين تكون كلماتك ليس أكثر من حبر علي ورق، أو صورة مُقنعة لأرقام حسابية لا متناهية العدد في حالة النقر فوق مساحة بيضاء إليكترونية. فكرة أن لا تحمل تلك الكلمات شيئًا مفارقًا و مغايرًا ، سواء بصدمة واضحة أو بخبث دفين. أن تتحول الكلمات إلى رص للحروف بجوار بعضها و حسب. هنا توجد تلك الفكرة الهلامية الآسرة، التي تجعل من خبرة الحياة شيئًا واضحًا جليًا: الموهبة.

في أحايين كثيرة— بينما أنا اعلق سيجارتي فوق شفتي و أحلم بأن أكون "لاكي لوك" عتيد يدخن السيجارة بينما هي فعليا في الهواء الذي هو بين شفتيه—أقابل أناس مهذبين نذروا حياتهم للكتابة بصدق و إخلاص و لكنهم، و للأسف، لا يحوزون تلك البركة السحرية. يبدون لي مثل التائه في المتاهة الكريتية بلا شمعة الموهبة الضئيلة، مندسون في الأركان و هائمون في الجنبات بلا طمأنينة الرؤية الحتمية و إن تكن خادعة.

هو شيء صوفي ساحر مثل الكتابة عن الكتابة: أن تعيش حياتك للكتابة.

أعلم، و أنا انقر هذه السطور، أن بي حنين للكتابة و أنا بعد لم أتمم أشهر قلائل من إتمامي مخطوط جديد. و أعلم أكثر أن هناك توترًا ما يمسك بتلابيبي حتى أكتب شيئًا. أخاف أحيانًا من فكرة أنني بلا كتابة ألحظ مزاجًا متعكرًا قد بدأ يخالطني. روح قلقة تطوحني بين الشوارع بسادية فريدة من نوعها. ربما هي السادية الوحيدة التي تتفهمها، بل و ربما تشفق عليها أيضًا.

لا أحاول هنا أن أسوق صورة عاطفية عن فعل الكتابة، أو اسم الفاعل الذي هو الكاتب. لا أحاول و لكنني لا أتبرئ من شبهة الشك في مخالطته دونما قصد. الأمر يذكرني بالنساء. النساء في الحب تحديدًا. عندما ينسجن أساطير صغيرة يناجون بها عشاقهن؛ فتجد أن الحبيب ربما يكون من اصطناعها، أو هو غامض، أو هو غريب.

مثل هذه الأساطير الصغيرة ترضي الرجال لأنها تدغدغ غدة التفرد في أنفسهم، هكذا الكُتاب—الموهوبون و المصطنعون منهم—مع الكتابة. ننسج حولها، دونما قصد في حين و بخبث في أحايين، العديد من الأساطير الصغيرة اللطيفة التي تعيش في وجدان القراء أو الكُتاب المبتدئين. و في فن نسج الأساطير، كما هي الكتابة، هناك الأسطوات و الصبيان. مازلت أذكر حكاية ماركيز، و هو أسطى أسطوري، عن بعثه للنصف الثاني من رواية "مائة عام من العزلة" للعرض علي دار النشر بدلا من النصف الأول عن سهو. النهاية السعيدة نعرفها جميعًا، و ما جعلها أسعد هي أسطورة صغيرة—أو دعنا، بسطوة العاطفة، نقول حكاية صغيرة—لا نعرف الحقيقي من المصطنع فيها. الحق أننا قد لا نعرف ماهية الحقيقة و ماهية الاصطناع أساسًا. من قرأ مذكرات ماركيز بتوطئتها الشهيرة، أو شاهد فيلم "دون جوان" لجوني ديب و مارلون براندو، ربما يفهم تمامًا ما اقصد.

دعونا من كل هذا. العبرة، دائمًا، بالخواتيم.

لا يهم عدد الكولاجات التي يخاتل بها البشر أنفسهم ببراءة، أو الكُتاب خاصة بخبث، المهم هو العمل في ذاته و لذاته. هذه الكولاجات، التي تعبر عن حيرة و تخبط و طفولية و خوف، هي جزء من كل يصنع فرادة الأدب العظيم حقيقة. الرواية البديعة التي تُلخص بصدق و مهارة بعض من أسوأ مخاوفنا و أحط تخيلاتنا. أن نشعر، في لحظة، أن هذا الكتاب يحمل جزء من أرواحنا، هائمًا ما بين الأرفف و الأكف هو ذواتنا. نحن، الهائمون ما بين أكفف و أرفف بدورنا. و كلما اتسع عب الكتاب منا اتسعت قيمته و ترامت.

دعوني ارتدي معطف العلامة القدير و أدعي، أن قيمة الكاتب، أي كاتب، هي في تلك القدرة السحرية علي أن يصوغ ما ترتبك ألسنتنا في قوله في عبارة واحدة، رشيقة، ساحرة بسخرية أو ببراءة أو بإدعاء حياد. أن نتمتم تلقائيًا، عندما نقرأ هذه العبارة، بنبرة هادئة مستكينة عجيبة لأنها تحمل أشد مناطق دهشتنا إطلاقًا:

"يمكنني أن أكتب مثل هذا!".

و عندما نجرب، و نحبط، كعشاق خائبون، نستسلم لعظمة كاتب ما، تمكن أن يشعرنا بكل هذا الجمال في لحظة خاطفة كالبرق، ليتركنا في محيط لا متناهي من الحياة التي ازداد قبحها و تعاظم بعدها.

المضحك في الأمر، بحتمية الأساطير الصغيرة البريئة، و طرافة الجنيهات المبسوطة و تعبيرات السائقين الكظيمة، و التقابل العبثي المزيف ما بين الكتابة عن الحياة و الكتابة عن الكتابة (و أنا أحذركم من سنتمنتالية الكُتاب و أساطيرهم الصغيرة الخبيثة)، أن كل كُتاب الدنيا—ما عدا المحظوظين منهم لدرجة تثير البغض—يعيشون و يموتون بالشك، و اهتزاز المرايا، و البكاء، و الرثاء للذات، و نزوات النرجسية اللطيفة اللعينة.

نعم؛ يعيش كل كُتاب الدنيا و يموتون—ما عدا المحظوظين منهم لدرجة تثير البغض—عشاقًا خائبين.

.............................................................

(*) العنوان هو أسم رواية للزميل إيهاب عبد الحميد.

اللوحة لـ: ويزلي بيرت.

2 comments:

Marwa Rakha said...

Interesting thoughts:) I have a few questions for you .... why do some writers make more money than others? why do some writers gain more fame than others? why do some writers have better luck than others?

If it is neither about talent nor about age; if it is neither about the quality of their work nor about the quantity of their books ... then what is it about?

أحمد جمال said...

جميل :)