هذا هو اللفظ الذي تعودت أن انطقه في الشارع، لكيلا يضحك مني العيال الصغار عندما اقول "بابا". ابي الصامت عادة، و الناطق بكلمات قليلة تداخل الهمهمة و حركات الايدي الرهيفة بينها
ابي الذي كان يستيقظ في كل يوم ظهرًا، ليسعل و ليدلف إلي المرحاض، ثم ليعود مرتديًا ملابسه، قبل أن يذهب لميعاد ورديته في مكتبة الشرائط الاذاعية بالتليفزيون. حركة ابي خفيفة لا مرئية كقط، و هو الذي لم يتجاوز السبعة و الستين كيلوجرامًا منذ كان في السابعة عشر من عمره. هو بعينه ذلك "الجنرال النازي"--كما وصفته صديقة قديمة--عندما كان منتصبًا كتمثال، بمعطفه الجلدي القصير، و كوفيه معقودة بعناية حول رقبته
في ايام كثيرة، كنت اتأمل علاء الدين صابر، الرجل الذي هو والدي، برهبة كبيرة. ابي لم يضربني في حياته غير مرتين، و لكن نبرته الحادة المليئة بالعصبية--كعهد الاباء كما فهمت لاحقًا--كانت تملاؤني رهبة. بعض من حكايات متناثرة، تلاصقت بجوار بعضهم، و عمر آخذ في الازدياد، مكناني من استجلاء بعض مما هو ابي. ابي الذي ولد لأب في الخامسة والخمسين عامًا و أم في الخامسة و الثلاثين. كان ابنًا وحيدًا لوالده، و أبن ثان لوالدته--فقد سبقه عمي طلعت من زيجة سابقة--مما يمكنه أن يفسر تلك العلاقة الملتبسة بين علاء الصغير و ابيه و امه.
ابي و جدتي--يرحمها الله--و عمي طلعت
ابيه كان--و بأدبية مبتذلة من كثر الاستخدام و لكنها ما تزال مثالية--يعبده. "لو حدث شيء لعلاء فسأموت بعده في التو". هكذا كان ابيه يقول. أمه، السيدة نجية عبد الرحمن، ذات الاصول البرجوازية من الطبقة الوسيطة، كانت سيدة صارمة، لا تتورع عن ضرب ابنها المدلل بالكرباج
جدتي نجية هانم في شرخ الشباب--من مواليد العام 1907
جدي عبد القادر صابر--الزمن غير محدد
ولد علاء الدين صابر في السابع و العشرين من اكتوبر من العام 1941، في بيت العائلة الكبير في باب اللوق. بيت العائلة الكبير هو بيت جده لأمه، السيد عبد الرحمن سيد احمد، صاحب مطعم اللحم المشهور في شارع خيرت، و هو الشارع شائع الصيت في حي السيدة زينب (بيع المطعم الضخم الفخم و تحول إلي محلين: الونش للأمن الغذائي و حلو الشام). لم يجد عبد الرحمن بأسًا في تزويج ابنته الشابة إلي ذلك العجوز، فقد كان ذلك--بطريقة أو بأخري--مكتسبًا اجتماعيًا لعائلته الناظرة لأفق اجتماعي اكثر رحابة، يدعم غني عبد الرحمن العجوز و يزيده نسبًا فوق حسب ، بالاضافة إلي كون ابنته مطلقة، و هي صفة تقترب من السبة بمقاييس ذلك الزمان. و رغم كونه عجوزًا مرهقًا، فقد اثبت عبد القادر مدي حكمة و سداد رأي حموه العجوز عندما تدخل غير مرة لأنقاذ مواقف كثيرة، كان من اهمها--و ربما من اطرفها--انقاذ مصطفي اخو زوجته عندما تعرض لمتاعب جمة، اثناء دراسته في بريطانيا و بعد تعرضه لعملية نصب كوميدية
لم يكن علاء الدين يعرف فردًا من العائلة التي يحمل اسمها بقدر ما يعرف من عائلة والدته و اقاربه منها، فقد عاد السيد عبد القادر صابر منهكًا من رحلة ماراثونية اسطورية في ارجاء اوروبا، دامت لمدة تقارب الخمسة و الثلاثين عامًا، عاد ليجد أن قصر والده الذي كان يستقر في "درب سعادة"--وراء قصر الخديوي فقصر الملك--قد راح، و لم يبق بظروف الزمن و الطبيعة الانسانية غير اخت واحدة يودها، و كانت متزوجة بعميد عائلة الحكيم و تسكن بعزبة المعتمدية--هي الان في بولاق الدكرور--كانت دومًا مفتوحة للعجوز الغاضب من زوجته الشابة قوية الشكيمة، و كانت مرتعًا مناسبًا ليشكو منها لأوراقه، في مفكرات قديمة كثيرة رأيتها و قرأتها طويلا، تحمل ماركة الشمرلي
احمد فؤاد الحكيم--عديل جدي
ظهر الصورة--بخط احمد فؤاد الحكيم
كان فتي وسيمًا، و كان فتي مدللًا، و كان فتي ذكيًا
سمي علي اسم الامير--البرنس بلسانه--علاء الدين مختار، كما سميت اخته أمينة علي اسم الأميرة أمينة مختار، كما سميت اخته الاخري--التي توفاها الله سريعًا--نعمت، علي اسم الاميرة الأم نعمت مختار
كانت الأميرة نعمت العمة الكبري للملك فاروق، و كان عبد القادر--بحكم صلات قديمة و كثيرة--ملازقًا لها، و بالتالي كانت نجية هانم هي و ابنها علاء الصغير يدعيان للغداء برفقة العائلة. تمتع علاء إذن بتدليل لم ينازعه فيه أحد، بل و كان محبوبًا من محمد طاهر باشا، عم الملك فاروق و رئيس الدورة الاولي لألعاب البحر المتوسط، إلي الدرجة التي دعته لتقديم خمسة جنيهات كاملة من
جيبه لأبن عبد القادر صابر--مساعده في مهام رئاسة الدورة--حتي "يشتري بعض من الحلويات"
ربما كان من حسن حظ الصغير أن عائلته قد فقدت نفوذها--و حتي توارث ألقابها--منذ أمد بعيد، و أن ثورة يوليو قد قامت و هو بعد في الثانية عشرة من عمره. هذا الوضع لم يمكنه من مزيد من الحقد علي تغير احوال ابيه الاجتماعية--الذي لم يملك سوي حسرة علي فراق احباء نشئوا و تربوا معا--و أن ترك له انتقاد شرس لم ينقطع يومًا لتاريخ الثورة و تجربتها. لم ير علاء الدين غير وجه مضيء لطيف لعائلة بلاده الحاكمة، فقد كانت الاميرة نعمت شخصية مرهوبة و محترمة تتميز بالموضوعية في نظر جميع من يعرفونها، و في نظر كل من يهتم بتاريخ الاسرة العلوية في مصر، حتي انها وصلت مرة لحد القول لعبد القادر--في جلسة خاصة--أن "هذا الولد سيمرمغ انوفنا في التراب"، و كانت تقصد ابن اخيها، الملك فاروق الاول
الاميرة في موكبها الرسمي، يمكنك رؤية الرجل الاسمر علي اليسار الذي كان يناديه علاء و امينة ببابا بشير
الأميرة نعمت الله (توفيق) مختار
الأمير علاء الدين مختار
و هكذا، لم يجد علاء الدين سوي شوارع باب اللوق و عابدين و السيدة زينب ليمارس انواعًا مختلفة من الصعلكة و طرقًا مختلفة في اللهو، حتي ذكر اصدقاؤه انه كان يلقي بالكراسي علي زجاج القهاوي المواجة لقهوته، من اجل مزيد من الشجار اللطيف. ابوه دلل فيه كل ما افتقده طوال واحد و ستين عامًا بلا ابن--عبد القادر من مواليد العام 1886--و نجية هانم سحقت فيه كل امكانية للتفاهم. كان علاء الدين الشاب يبيت علي عتبه بيته الرخامية العريضة في البرد القارص إذا ما رجع متأخرًا. كان يضرب بالكرباج في كل مرة يتمرد فيها، و لكنه، و ربما من روح شرقية مؤصلة، كان يلقي بلوم مسيرة حياته العجيبة علي تدليل والده لا علي قسوة امه، فعندما نصح اخته امينة بعدم تدليل ابنها شادي قال لها
"لا تستجيبي لكل طلباته فذلك سيفسده.. اعرف ذلك جيدًا و اقوله لك"
قالت له بعد ثانية من التحديق، و كأنها اكتشفت سر الكون
"أتقصد ما حدث معك؟"
لم يرد علاء الدين، و اكتفي بزم شفتيه القاسيتين
مات ابيه في السنة السابعة و الستين من القرن الماضي، تاركًا فتيً عابثًا لم يتمكن من تحقيق احد حلميه في ممارسة كرة القدم--كان من اشبال النادي الاهلي حتي سن السابعة عشرة، أو في أن يكون طيارًا حربيًا--حال مجموعه في التوجيهية دون ذلك
ترك عبد القادر ورائه ابنًا بالغ في تدليله حتي وصل به الامر إلي كسر خزينته و سرقتها. تركه مليئًا بالهم و الحزن علي مصير معبوده الصغير، علاء الدين ابن عائلة صابر، الذي يحكي أن والده الذي كان معروفًا بالكرامات طلب منه أن يحضر كوب ماء، شرب نصفه ثم امر الابن بالشرب من ذات الكوب وراءه ، ثم مات و لم يقل شيئًا تنبوئيًا له، مثلما قال لأبنته و زوجته
ذكري ابيه الطيبة و كرامات الثورة--و إن كره علاء الدين--كان سببًا في أن يلتحق باتحاد الاذاعة و التليفزيون في الثلاثينيات من عمره، قبل أن يقابل امرأة حسناء، اقنعته بالزواج و هو في سن السابعة و الثلاثين، بعد ماراثون طويل من العلاقات العاطفبة ذائعة الصيت..و الرائحة ايضًا
كنت وليده الاول، و كان حريصًا بشكل لم افهمه إلا مؤخرًا علي عدم اظهار مشاعره لي، ربما هي طبيعة فيه، و لكنها بالتأكيد خوف كامن من عواقب التدليل. لم اكن اصدق أن يبتسم ابي--ذلك الصارم الاسطوري--و يقول للناس في زهو ساذج أن شاربي قد بدأ في الظهور
لم اكن اصدق أن يزور علاء الدين معرض القاهرة للكتاب من اجل أن يري كتب ابنه البكري فحسب. و لم يصدق ابنه البكري عينيه عندما رأي ابيه منزويًا في جانب، يقرأ احد الكتب في صمت، و علي وجهه، و حول كل ما يحيط به، استكانة و هدوء يوحيان بالبراءة بل و بالعذرية. تبدي علاء الدين لأبنه كائنًا ضعيفًا ليس بمعني الاحتقار و لكن بمعني الحب و الاحتواء. تعود بعدها الوليد أن يلحظ كتمان ابيه القهري لأبتسامة راضية، عندما يحدثه احد عن ابنه محمد بنوع ما من التقدير
ربت علي كتف وليده و هو يوصيه بكتابة يومياته عندما يسافر إلي النمسا. لم يلق الوليد المتعجرف الكسول بالًا لنصيحة ابيه. و لكنه اكتشف بعد سنين طوال مدي ما تكتنف هذه النصيحة من مهارة في مناورة النسيان، و التمسك باللحظات التي تعني شيئًا في الحياة-- و هذا امر نادر
اتيح للوليد أن يكتشف ولعًا لدي ابيه بالقراءة و الكتابة. دفاتر كبيرة عريضة من الورق مسودة بخطه الازرق الشيني، فيما يبدو كمقابلة محكمة مع مفكرات عبد القادر الصغيرة، و خطه الاسود المنمق. قرأ الوليد حكاية حب ابيه و امه كما رواها علاء الدين صابر، و لم يقدر له قراءة هذه الورقة ثانية بعدما صار اكثر نضجًا و صبرًا، و لكنه لم يستطع نسيانها
اصبح الآن والدي يعزم علي بالسجائر بعد سنوات من التحريم. حتي اعتذر لي مرة في عزاء جمع اولاد اخواله في عدم منحي سجائر في حضورهم. اندهشت لأنني لم اتخيله يعتذر لي عما لا يوجب الاعتذار. رأيت ابي الضاحك ذو النكات الحاضرة عندما اتت جارة قديمة بضة شقراء ذات ضحكة انثوية مجلجة. استشعرت شيئًا من الود القديم بينها و بين رجلي العجوز فابتسمت في خبث
رأيت والدي الذي يؤنب اخي عندما يجبر اختي علي ارتداء الاكمام الطويل-- لم يكن علاء الدين ذو تشنجية ذكورية لا مع اخته الصغري و لا مع ابنته. رأيت ابي الذي يتنهد و ينظر إلي بعيد. دعوت ابي لشرب سيجارة من علبتي فأخذها و هو مبتسم. علاء الدين صابر الذي لم يجبرني علي شيء في حياتي كلها، و لم يمانع عندما كنت خارجًا في ليلة امتحان هام من امتحانات الثانوية العامة، فقط قال لي بنبرة هادئة
"إذا نجحت فلنفسك و إذا رسبت فعليها"
علاء الدين صابر الذي كان يطالبني دومًا بأن اصير رجلًا حتي صار ذلك كابوسي الخاص. علاء الدين صابر الذي اعلم أنه سيكتم فرحته في كل يوم احقق انا فيه شيئًا. علاء الدين صابر، رجلي العجوز الذي يصر أن جده الاكبر قد مات في موقعة نفارين البحرية، الذي احبه بصدق لأنه لم يسمح لي بجعله نموذجًا احطمه من اجل أن اصير رجلًاعلاء الدين صابر الذي يبتسم في هدوء، و يترك لي الخيار في أن اكون أنا والده، في أي وقت اريد
ابي الذي كان يستيقظ في كل يوم ظهرًا، ليسعل و ليدلف إلي المرحاض، ثم ليعود مرتديًا ملابسه، قبل أن يذهب لميعاد ورديته في مكتبة الشرائط الاذاعية بالتليفزيون. حركة ابي خفيفة لا مرئية كقط، و هو الذي لم يتجاوز السبعة و الستين كيلوجرامًا منذ كان في السابعة عشر من عمره. هو بعينه ذلك "الجنرال النازي"--كما وصفته صديقة قديمة--عندما كان منتصبًا كتمثال، بمعطفه الجلدي القصير، و كوفيه معقودة بعناية حول رقبته
في ايام كثيرة، كنت اتأمل علاء الدين صابر، الرجل الذي هو والدي، برهبة كبيرة. ابي لم يضربني في حياته غير مرتين، و لكن نبرته الحادة المليئة بالعصبية--كعهد الاباء كما فهمت لاحقًا--كانت تملاؤني رهبة. بعض من حكايات متناثرة، تلاصقت بجوار بعضهم، و عمر آخذ في الازدياد، مكناني من استجلاء بعض مما هو ابي. ابي الذي ولد لأب في الخامسة والخمسين عامًا و أم في الخامسة و الثلاثين. كان ابنًا وحيدًا لوالده، و أبن ثان لوالدته--فقد سبقه عمي طلعت من زيجة سابقة--مما يمكنه أن يفسر تلك العلاقة الملتبسة بين علاء الصغير و ابيه و امه.
ابي و جدتي--يرحمها الله--و عمي طلعت
ابيه كان--و بأدبية مبتذلة من كثر الاستخدام و لكنها ما تزال مثالية--يعبده. "لو حدث شيء لعلاء فسأموت بعده في التو". هكذا كان ابيه يقول. أمه، السيدة نجية عبد الرحمن، ذات الاصول البرجوازية من الطبقة الوسيطة، كانت سيدة صارمة، لا تتورع عن ضرب ابنها المدلل بالكرباج
جدتي نجية هانم في شرخ الشباب--من مواليد العام 1907
جدي عبد القادر صابر--الزمن غير محدد
ولد علاء الدين صابر في السابع و العشرين من اكتوبر من العام 1941، في بيت العائلة الكبير في باب اللوق. بيت العائلة الكبير هو بيت جده لأمه، السيد عبد الرحمن سيد احمد، صاحب مطعم اللحم المشهور في شارع خيرت، و هو الشارع شائع الصيت في حي السيدة زينب (بيع المطعم الضخم الفخم و تحول إلي محلين: الونش للأمن الغذائي و حلو الشام). لم يجد عبد الرحمن بأسًا في تزويج ابنته الشابة إلي ذلك العجوز، فقد كان ذلك--بطريقة أو بأخري--مكتسبًا اجتماعيًا لعائلته الناظرة لأفق اجتماعي اكثر رحابة، يدعم غني عبد الرحمن العجوز و يزيده نسبًا فوق حسب ، بالاضافة إلي كون ابنته مطلقة، و هي صفة تقترب من السبة بمقاييس ذلك الزمان. و رغم كونه عجوزًا مرهقًا، فقد اثبت عبد القادر مدي حكمة و سداد رأي حموه العجوز عندما تدخل غير مرة لأنقاذ مواقف كثيرة، كان من اهمها--و ربما من اطرفها--انقاذ مصطفي اخو زوجته عندما تعرض لمتاعب جمة، اثناء دراسته في بريطانيا و بعد تعرضه لعملية نصب كوميدية
لم يكن علاء الدين يعرف فردًا من العائلة التي يحمل اسمها بقدر ما يعرف من عائلة والدته و اقاربه منها، فقد عاد السيد عبد القادر صابر منهكًا من رحلة ماراثونية اسطورية في ارجاء اوروبا، دامت لمدة تقارب الخمسة و الثلاثين عامًا، عاد ليجد أن قصر والده الذي كان يستقر في "درب سعادة"--وراء قصر الخديوي فقصر الملك--قد راح، و لم يبق بظروف الزمن و الطبيعة الانسانية غير اخت واحدة يودها، و كانت متزوجة بعميد عائلة الحكيم و تسكن بعزبة المعتمدية--هي الان في بولاق الدكرور--كانت دومًا مفتوحة للعجوز الغاضب من زوجته الشابة قوية الشكيمة، و كانت مرتعًا مناسبًا ليشكو منها لأوراقه، في مفكرات قديمة كثيرة رأيتها و قرأتها طويلا، تحمل ماركة الشمرلي
احمد فؤاد الحكيم--عديل جدي
ظهر الصورة--بخط احمد فؤاد الحكيم
كان فتي وسيمًا، و كان فتي مدللًا، و كان فتي ذكيًا
سمي علي اسم الامير--البرنس بلسانه--علاء الدين مختار، كما سميت اخته أمينة علي اسم الأميرة أمينة مختار، كما سميت اخته الاخري--التي توفاها الله سريعًا--نعمت، علي اسم الاميرة الأم نعمت مختار
كانت الأميرة نعمت العمة الكبري للملك فاروق، و كان عبد القادر--بحكم صلات قديمة و كثيرة--ملازقًا لها، و بالتالي كانت نجية هانم هي و ابنها علاء الصغير يدعيان للغداء برفقة العائلة. تمتع علاء إذن بتدليل لم ينازعه فيه أحد، بل و كان محبوبًا من محمد طاهر باشا، عم الملك فاروق و رئيس الدورة الاولي لألعاب البحر المتوسط، إلي الدرجة التي دعته لتقديم خمسة جنيهات كاملة من
جيبه لأبن عبد القادر صابر--مساعده في مهام رئاسة الدورة--حتي "يشتري بعض من الحلويات"
ربما كان من حسن حظ الصغير أن عائلته قد فقدت نفوذها--و حتي توارث ألقابها--منذ أمد بعيد، و أن ثورة يوليو قد قامت و هو بعد في الثانية عشرة من عمره. هذا الوضع لم يمكنه من مزيد من الحقد علي تغير احوال ابيه الاجتماعية--الذي لم يملك سوي حسرة علي فراق احباء نشئوا و تربوا معا--و أن ترك له انتقاد شرس لم ينقطع يومًا لتاريخ الثورة و تجربتها. لم ير علاء الدين غير وجه مضيء لطيف لعائلة بلاده الحاكمة، فقد كانت الاميرة نعمت شخصية مرهوبة و محترمة تتميز بالموضوعية في نظر جميع من يعرفونها، و في نظر كل من يهتم بتاريخ الاسرة العلوية في مصر، حتي انها وصلت مرة لحد القول لعبد القادر--في جلسة خاصة--أن "هذا الولد سيمرمغ انوفنا في التراب"، و كانت تقصد ابن اخيها، الملك فاروق الاول
الاميرة في موكبها الرسمي، يمكنك رؤية الرجل الاسمر علي اليسار الذي كان يناديه علاء و امينة ببابا بشير
الأميرة نعمت الله (توفيق) مختار
الأمير علاء الدين مختار
و هكذا، لم يجد علاء الدين سوي شوارع باب اللوق و عابدين و السيدة زينب ليمارس انواعًا مختلفة من الصعلكة و طرقًا مختلفة في اللهو، حتي ذكر اصدقاؤه انه كان يلقي بالكراسي علي زجاج القهاوي المواجة لقهوته، من اجل مزيد من الشجار اللطيف. ابوه دلل فيه كل ما افتقده طوال واحد و ستين عامًا بلا ابن--عبد القادر من مواليد العام 1886--و نجية هانم سحقت فيه كل امكانية للتفاهم. كان علاء الدين الشاب يبيت علي عتبه بيته الرخامية العريضة في البرد القارص إذا ما رجع متأخرًا. كان يضرب بالكرباج في كل مرة يتمرد فيها، و لكنه، و ربما من روح شرقية مؤصلة، كان يلقي بلوم مسيرة حياته العجيبة علي تدليل والده لا علي قسوة امه، فعندما نصح اخته امينة بعدم تدليل ابنها شادي قال لها
"لا تستجيبي لكل طلباته فذلك سيفسده.. اعرف ذلك جيدًا و اقوله لك"
قالت له بعد ثانية من التحديق، و كأنها اكتشفت سر الكون
"أتقصد ما حدث معك؟"
لم يرد علاء الدين، و اكتفي بزم شفتيه القاسيتين
مات ابيه في السنة السابعة و الستين من القرن الماضي، تاركًا فتيً عابثًا لم يتمكن من تحقيق احد حلميه في ممارسة كرة القدم--كان من اشبال النادي الاهلي حتي سن السابعة عشرة، أو في أن يكون طيارًا حربيًا--حال مجموعه في التوجيهية دون ذلك
ترك عبد القادر ورائه ابنًا بالغ في تدليله حتي وصل به الامر إلي كسر خزينته و سرقتها. تركه مليئًا بالهم و الحزن علي مصير معبوده الصغير، علاء الدين ابن عائلة صابر، الذي يحكي أن والده الذي كان معروفًا بالكرامات طلب منه أن يحضر كوب ماء، شرب نصفه ثم امر الابن بالشرب من ذات الكوب وراءه ، ثم مات و لم يقل شيئًا تنبوئيًا له، مثلما قال لأبنته و زوجته
ذكري ابيه الطيبة و كرامات الثورة--و إن كره علاء الدين--كان سببًا في أن يلتحق باتحاد الاذاعة و التليفزيون في الثلاثينيات من عمره، قبل أن يقابل امرأة حسناء، اقنعته بالزواج و هو في سن السابعة و الثلاثين، بعد ماراثون طويل من العلاقات العاطفبة ذائعة الصيت..و الرائحة ايضًا
كنت وليده الاول، و كان حريصًا بشكل لم افهمه إلا مؤخرًا علي عدم اظهار مشاعره لي، ربما هي طبيعة فيه، و لكنها بالتأكيد خوف كامن من عواقب التدليل. لم اكن اصدق أن يبتسم ابي--ذلك الصارم الاسطوري--و يقول للناس في زهو ساذج أن شاربي قد بدأ في الظهور
لم اكن اصدق أن يزور علاء الدين معرض القاهرة للكتاب من اجل أن يري كتب ابنه البكري فحسب. و لم يصدق ابنه البكري عينيه عندما رأي ابيه منزويًا في جانب، يقرأ احد الكتب في صمت، و علي وجهه، و حول كل ما يحيط به، استكانة و هدوء يوحيان بالبراءة بل و بالعذرية. تبدي علاء الدين لأبنه كائنًا ضعيفًا ليس بمعني الاحتقار و لكن بمعني الحب و الاحتواء. تعود بعدها الوليد أن يلحظ كتمان ابيه القهري لأبتسامة راضية، عندما يحدثه احد عن ابنه محمد بنوع ما من التقدير
ربت علي كتف وليده و هو يوصيه بكتابة يومياته عندما يسافر إلي النمسا. لم يلق الوليد المتعجرف الكسول بالًا لنصيحة ابيه. و لكنه اكتشف بعد سنين طوال مدي ما تكتنف هذه النصيحة من مهارة في مناورة النسيان، و التمسك باللحظات التي تعني شيئًا في الحياة-- و هذا امر نادر
اتيح للوليد أن يكتشف ولعًا لدي ابيه بالقراءة و الكتابة. دفاتر كبيرة عريضة من الورق مسودة بخطه الازرق الشيني، فيما يبدو كمقابلة محكمة مع مفكرات عبد القادر الصغيرة، و خطه الاسود المنمق. قرأ الوليد حكاية حب ابيه و امه كما رواها علاء الدين صابر، و لم يقدر له قراءة هذه الورقة ثانية بعدما صار اكثر نضجًا و صبرًا، و لكنه لم يستطع نسيانها
اصبح الآن والدي يعزم علي بالسجائر بعد سنوات من التحريم. حتي اعتذر لي مرة في عزاء جمع اولاد اخواله في عدم منحي سجائر في حضورهم. اندهشت لأنني لم اتخيله يعتذر لي عما لا يوجب الاعتذار. رأيت ابي الضاحك ذو النكات الحاضرة عندما اتت جارة قديمة بضة شقراء ذات ضحكة انثوية مجلجة. استشعرت شيئًا من الود القديم بينها و بين رجلي العجوز فابتسمت في خبث
رأيت والدي الذي يؤنب اخي عندما يجبر اختي علي ارتداء الاكمام الطويل-- لم يكن علاء الدين ذو تشنجية ذكورية لا مع اخته الصغري و لا مع ابنته. رأيت ابي الذي يتنهد و ينظر إلي بعيد. دعوت ابي لشرب سيجارة من علبتي فأخذها و هو مبتسم. علاء الدين صابر الذي لم يجبرني علي شيء في حياتي كلها، و لم يمانع عندما كنت خارجًا في ليلة امتحان هام من امتحانات الثانوية العامة، فقط قال لي بنبرة هادئة
"إذا نجحت فلنفسك و إذا رسبت فعليها"
علاء الدين صابر الذي كان يطالبني دومًا بأن اصير رجلًا حتي صار ذلك كابوسي الخاص. علاء الدين صابر الذي اعلم أنه سيكتم فرحته في كل يوم احقق انا فيه شيئًا. علاء الدين صابر، رجلي العجوز الذي يصر أن جده الاكبر قد مات في موقعة نفارين البحرية، الذي احبه بصدق لأنه لم يسمح لي بجعله نموذجًا احطمه من اجل أن اصير رجلًاعلاء الدين صابر الذي يبتسم في هدوء، و يترك لي الخيار في أن اكون أنا والده، في أي وقت اريد
..........................................................
صور افراد العائلة المالكة من ارشيف عائلة صابر الشخصي دون النقل من مصدر آخر
17 comments:
You made me feel I am living in the very very old days.
The photos are really inspiring.
Great article.
ايمان
شكرا علي كلماتك يا عزيزتي
نفسي
ح اوصله السلام اكيد، بس اشك يفهم الموضوع كله اساسا
:)
شكلك كان عفريت حتى من صغرك :-)
سعيدة بالتعرف أخيراً إلى علاء الدين صابر. يبدو إنه فعلاً صاحب شخصيّة مميّزة. انشالله يبقى دايماً فخور فيك.
ايفو
انا طول عمري عفريت
:p
شكرا علي كلماتك الجميلة يا عزيزتي.. و اعرف انه سيكون سعيدا بالتعرف عليك
;p
ايه الحلاوه دى يا مضروب
wow amazing ! i enjoyed reading it
by the way ur dad is very handsome mashalla ... is he single ? lol ;p j/k
ليتل مو
حلاوته حلاواني
:P
ماذر
شكرا عزيزتي..نعم، هو وسيم للقدر الذي اقدر فيه جلد و صبر والدتي أن جعلته يتزوج
:P
و بالنسبة لموضوع إن كان مرتبط أو لا، فلا أظن أن مثل هذه الاشياء توقفه
:P :P :P
اشكرك مرة اخري
سلام
قد يبدو لك تعليقي غريبا
لكن الصراحة لا يمكن ان تتصور سعادتي وانا اشاهد هذه الصور
لقد قضيت جزءا كبيرا من حياتي في دراسة التاريخ فاصبحت متعتي الكبري اشتمام اشياء الماضي
الصور جميلة علي الشاشة لكن المتعة الكبري هي لمسها برفق وشم رائحتها
وانا اقرأ الموضوع تذكرت كتاب أمين معلوم
Origines
عم ريحان
متشكر علي تعليقك اللي مش غريب ابداً، لأننا من ذات الفصيلة يا سيدي الفاضل
ما تتصورش متعتي و انا بمسك الصور دي انا كمان
و انا سعيد اني قد اسعدتك يا صديقي العزيز
تحياتي
علاء
عملتها أخيراً يا علاء، رائع، اللي انت عامله ده بيفسر حاجات كتير فيك انت شخصياً.. الصور وملامح البني آدمين، والنظرة على أيام بعيدة انت امتداد حقيقي ليها، يمكن ده أهم بوست عملته في رأيي
عمور
يخليك ليا يا امير
:P
Amazing pictures. :)
Huda
Thanks! :)
شئ هايل والله يا علاء إن الواحد يكون عارف تاريخ عيلته و ملم بيه و بيفتخر بيه .... و ده شئ نادر إن الواحد يلاقيه دلوقت .... على فكرة عجبتنى أوى الجملة دى "الذي احبه بصدق لأنه لم يسمح لي بجعله نموذجًا احطمه من اجل أن اصير رجلً"
أدام الله عمر والدك و بارك له فيه
Looking for information and found it at this great site... business management training arthritis otc pain relief Nutone model 9093 h Zocor rash kia sprectra 5 performance bextra 20mg0 Cialis cialis cialis cialis genuinerx net business schools cheap meridia bextra fda recall Valtrex skin rash Royal vacuum cleaner model 290 Pamela anderson roasted Tire pressure for 200 pontiac bonneville
الاستاذ محمد علاء الدين ابحث عنك من سنين برجاء الاتصال بي للاهمية القسوة انا محمد زمان تليفوني 01004499449
حقيقة أنك تكون نفسك ولو لحظات قليلة وتمرعلى أمبارح وكأنه غمضة عين يدوب لمحتها بس معشتهاش
استمتعت وعشقت علاء الدين صابر بخوفه ودلعه واستهتاره شوفت فيه صورة بعيدة قوي عن والدي اللي مكنش مدلل بالمرة حاجة كدة تشبية الصورة المتناقضة لصورة علاء الدين صابر من طفل مدلل لأب في ال61 من عمرة، لأبن ترتيبة التاني من وسط 7 أخوة آخرين مولود من أب مدلل فبسبب دلعه شال هو الحمل والهم من وهو عنده 8 سنين
عارف يا محمد الفاصل المشترك بنا في الحكاية دي هو الحنين والعشق لأمبارح بكل تفاصيلة ومتناقضاته
لو ينفع تسلملي علي عم علاء الدين واشوفه واقابلة واقعد معاه هكون سعيدة ويمكن أموت م الفرح لأني هشوف فيه تجاعيد وش ابويا وبصمة الايام اللي بتسيب وراها هدوء وحكمة وتعاطف مبيظهرش بوضوح إلا بعد حطة إيد الزمن ع الروح ووصمها بالزوال المحتوم
Post a Comment