يبدو أن المؤسسة
العسكرية لم تستوعب حتى الآن ما جرى في 25 يناير.
لقد التقى الجنرالات
برجال الإعلام قبل أيام قليلة، ثم فوجئنا بثلاثة مقالات لصحفيين مشهورين تنذر بما اسماه
أحدها "غضب الجيش". قد يتبادر إلى الذهن أن عبارة كهذه تعني غضب الجيش
من الإرهابيين في سيناء، أو من إسرائيل التي تسرق غازنا الطبيعي من البحر، ولكن
الحقيقة هي أن المؤسسة العسكرية غاضبة من رئيسها الأعلى. ولِمَ الغضب؟ هل من
قرارات تنظيمية لم يستشر فيها قادة الجيش؟ أم من أمر استراتيجي في إدارة معركة؟ أم
ماذا؟ الحقيقة أيضا، كما أكدت المقالات، أن الجيش غاضب من احتمال التحقيق مع
المشير طنطاوي (متقاعد) والفريق سامي عنان (متقاعد)، وبالطبع لن يسكت الجيش إن
قررت السلطات القضائية في بلدنا العامر توجيه الاتهام لهما في حوادث كثيرة ومآسي
عديدة منها ماسبيرو والعباسية- وللحق قرار الاتهام لا يجب أن يقتصر على طنطاوي
وعنان.
وهنا يقع العجب، فمن
الواضح أن الجنرالات-وجوقتهم الإعلامية حفظها الله-ما يزالوا يتخيلوا أن مصر هبة
الجيش، أو انه جيش قد انبثقت عنه دولة، وتصوروا أن مجرد ارتدائهم لزى عسكري يشرفون
بتاريخه المجيد في أكتوبر 73 يبرر لهم الانقضاض، وليس مجرد الاعتراض، على أعلى
سلطة في هذه البلاد، واهم شرعية في هذه البلاد حتى تاريخ كتابة هذه السطور. هذه
الشرعية التي لا يعنينا في هذه المسألة كونها من المعسكر الإسلامي أو العلماني،
ولكنها شرعية الانتخاب الحر المباشر التي تجُب ما عداها. نعم، خلافاتنا مع الرئيس
وجماعته قد تصل إلى حد الخصومة، ولكنها أبدًا لن تبرر تمردًا عسكريًا على رئيس
منتخب.
نسى الجنرالات أنهم
مواطنون مصريون، ولسنا نحن المواطنين العسكريين، والمواطن المصري يخضع لأحكام
القانون المصري والقضاء المصري بدرجاته وأنواعه، وان قرار تحويل العسكريين-حتى من
في الخدمة منهم- إلى المحاكمة هو قرار لا يخضع، ولا يجب أبدا أن يخضع، للمؤسسة
العسكرية. وقبل كل شيء: لا يعنينا تهدئة الرئيس للجيش وتأكيده على احترامه لطنطاوي
وعنان. هناك شهداء سالت دمائهم على الإسفلت، ونحن وأهاليهم نتوقع إن يحال مرتكبي
هذا القتل إلى محاكمة عادلة. يجب أن نحاسب نحن هؤلاء الجنرالات وهؤلاء الضباط
الذين وضعوا سمعة الجيش المصري-جيشنا وجيش دولتنا- في الطين، يجب أن نحاكم كل من أهان
وابتذل وشوه شرف الزى العسكري بينما هو يأمر بسحل الفتيات وتعريتهن، وصعق الشبان
وتعذيبهم، في سلوك ندر حتى بين صفوف جيش الدفاع الإسرائيلي ذاته، للأسف.
لقد قامت هذه الثورة
من اجل بناء وطن جديد، ودولة جديدة، تتحدد فيها السلطات واختصاصاتها مثلما يحدث في
الدول الديمقراطية الحديثة، لا ما أوردته إحدى المقالات سابقة الذكر عن أن الجيش
لم يتحدى قرار رئيس الجمهورية بإحالة المشير طنطاوي للاستيداع لأن "طنطاوي لم
يأمره بذلك". يجب على من سرب مثل هذا "الخبر"، ومن كتبه، أن يشعر
بالخجل من نفسه: الجيش مثله مثل البوليس يخضع تماما للسلطة التنفيذية ورئيسها الذي
هو رئيس الجيش الأعلى، وان هذه الحكاية وإن صحت فهي تعبر عن نفسية وسلوك القبائل
وليس الجيوش.
ولكن يبدو أن مؤسستنا
العسكرية مصرة على احتكار 40% من اقتصادنا طبقًا لبعض التقديرات، ومصرة على سرية
ميزانيتها، ومصرة على أن ذاتها مصونة ولا تمس، ومصرة على أنها عصب الأمة ومركز
السلطات، ومصرة على أن تعامل نفسها باعتبارها فوق الدولة وفوق القانون. حسناً، يجب
على الجنرالات أن يتحسسوا رؤوسهم، وأنا واثق أنهم لن يجدوا ريشة هنا أو هناك.
والحقيقة أن مثل هذا
السلوك الرافض تمامًًا لتقبل حقائق الواقع يوجب علينا أن نُعدل فورا بعض من أوضاع
الجيش في الدستور: يجب علينا إلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة واعتبار رئيس
أركانها قائدها الاسمي وليس مجرد الفعلي، بينما يتولى أمور المؤسسة العسكرية
السياسية مدني تختاره السلطة التنفيذية ويصادق على هذا البرلمان. أن فصل السياسة
عن الجيش والجيش عن السياسة كان مفتاح نصرنا الوحيد في القرن العشرين، وتفرغ الجيش
لمهمته العسكرية المقدسة في حماية ارض الوطن ومواطنيه بدلا من إرهاب الدولة
ومؤسساتها هو مفتاح عبورنا للقرن الواحد والعشرين.
نعم، غضب الجيش قد
يكون قاسيا، ولكنه لا يقارن أبدًا بغضب الشعب.