designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Wednesday, October 15, 2008

.. حرية الأسر



مساحات بيضاء تترك خيالي مكبلاً، بالضبط مثل الساعات التي تخبرك بشاغر ساعتين أو ثلاثة قبل ميعاد لا ينتظره احد حقيقة. ما بين إقدامي وضجري امتد خيط واه من التردد. خيط يجذبني قليلاً ويطلقني كثيرًا. يطلقني لاصطدم بي، عابرًا بلا مودة في طرق كنت أحبها. صرت لا املك من الرومانسية مددًا يجعلني أحبه أو اكرهه، لأتحرش به مداعبة أو مقتا.

اهتمامي بالعابر، الذي كان أنا وجعلته كل شيء، يجعلني اكره ضجري واكره عبوري بلا مودة واكره خمولي عن المداعبة. اهتمام لزج متسلل خبيث يتملق الدفء كثعبان يغير جلده ما بين الفصول، اهتمام يذكر العابر بأنه لابد وان يصفف شعره بعناية ثم يتثاقف حول ذلك الكائن في المرآة أمامه، أو أن يفكر بجدية في الأسماء كلها وفي دلالة سكتة المتحدث في وسط جملة، أو في مغزى نظرة عابرة. اهتمام يتوله، بطرف خفي، في تلك المسافة ما بين البطانة وقماش الجسد، ويحتفي، متأسيًا، بالخيط الواهي من التردد.

ثم ارجع عابرًا. ارجع مشنوقًا بمسافة وسطى مابين مقدمات مزعومة ونتائج افتراضية.

.. ما بين حنيني ونصلي


عند نهاية ذلك الجسر ربما أقف. ربما امشي بلا هوادة، بعناد، تاركا رائحة جسدي تغادرني ببطء حتى تطير، فأصير لدنًا بلا عنوان. ربما اجلس، في نتوء صنعه جذع جشع لشجرة، لألوك قليلاً من المازوخية المخلوطة بنكهة ليمون عدوانية. قد استرجع الطرق المتشابكة التي قادتني لذلك الجسر النائي، ما بين حنيني ونصلي. قد لا اهتم بظلال الخيبة التي ترف حولي. قد لا اترك منديلاً نادمًا يسعد قلب المتناظرين. عند نهاية هذا الجسر قد انزع وجهي واكتفي بصنبور. صنبور مزروع في لحم مزروع في جمجمة أضحت بلا معنى. صنبور يصب كافورا للأشباح مثلي، الذين يعبرون من قريب ومن بعيد، ككلاب ضالة ما عادت تثير الشفقة.

Tuesday, October 14, 2008

..حياة وموت إميل آجار


"التراجيديا الحقيقية هي أنه لا يوجد شيطان ليشتري روحك"

رومان جاري

وعد في الغروب- 1960

في الثاني من ديسمبر من العام 1980، فقد الأدب الفرنسي اثنين من عمالقته برصاصة واحدة.

رصاصة سددها رومان جاري، الأديب الأكثر شهرة ومكانة في الأدب الفرنسي من بعد الحرب العالمية الثانية إلى أعماق فمه، ليتمدد بعدها تاركًا الحياة، وبجواره مخطوط كتاب باسم "حياة وموت إميل آجار".

ولم يكن آجار، حديث الفرنسيين في سنوات السبعينات والحائز على الجائزة الأعظم في فرنسا، الجونكور، سوى رومان جاري.

ذات رومان جاري الذي حاز الجونكور في العام 1952 عن "جذور السماء"..

في بداية السبعينات، تحديدًا في العام 1973، حضر محام لمقر دار جاليمار الفرنسية العتيدة، عارضًا مخطوط لرواية أولى من شاب فرنسي مبتدئ، يسمى إميل آجار. شرح المحامي لمسئولي النشر أن الشاب الجزائري الأصل هو دارس طب سابق تورط في إجهاض غير شرعي، نتج عنه موت شابة باريسية، وانه قد هرب إلى البرازيل لتفادي السجن، وانه قد وكله لعرض مخطوط روايته الأولى "هدهدات" عليهم.

ونال الشاب آجار، ذو الثانية والثلاثين ربيعًا، ثناءً وترحيبًا من النقاد باعتباره صوت جديد شاب، ليس كما العتيق جاري، الكاتب الذي جف، وانتهى، وولت ايامه. حجزت الرواية مكانًا في قائمة الأكثر مبيعًا، وصنعت من إميل آجار النجم الجديد في الأدب الفرنسي، ولكن كل هذا النجاح لم يقارن بنجاح روايته التالية "الحياة أمامنا"، التي تُرجمت لاثنتي وعشرون لغة، واحتلت قائمة الأكثر مبيعًا، وحُولت لفيلم باسم "السيدة روزا" وحاز على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي (هي رواية عن سيدة يهودية تربي ولد مسلم- ولاحظ الكثيرون تشابهها مع رواية السيد إبراهيم وزهور القرآن التي كُتبت بعدها بعقود). وكتب احد النقاد واصفًا جاري، بدون مناسبة، بالعاجز أدبيًا.

لقد سطعت شمس آجار على فرنسا...

وهنا، في العام 1975، نال الكاتب "العبقري" إميل آجار جائزة الجونكور عن "الحياة أمامنا"، كأكبر تكريم أدبي في بلاد طالما احتفت بالأدب والأدباء وجعلت مقياس التميز بالغًا في الصعوبة، وهو- كما هو معلن- في الخامسة والثلاثين ربيعًا فحسب.

حاول محامي السيد آجار التنصل ورفض الجائزة، ولكن أكاديمية جونكور أبلغته بحسم أن الجائزة لإميل، سواء قبلها أو لا.

وبالفعل، حضر الكاتب الشاب ليتسلم جائزته الكبرى، "الجائزة الذي يُحظر منحها مرتين لنفس الشخص"، وليحظى بتيجان الشرف للحظات خاطفة، قبل أن يختفي مجددًا، وبأقصى سرعة.

لم يكن هذا الشاب سوى بول بافلوفيتش، قريب لجاري ساعده في منح الحياة للكلمات التي تشكل اسم آجار.

وعندما اهتم النقاد بالبُعد اليهودي في "الحياة أمامنا"- كانت يهودية جاري تطل أحيانًا بين ثنايا كتبه- سأل احدهم جاري عن ذلك، فعبر جاري عن اقتناعه الشديد بأن الكاتب الشاب قد تأثر به كثيرًا. بالطبع جاء الرد من احد معجبي آجار بأن جاري قد انتهى، انتهى، ولا نقاش في ذلك.

وربما كان بعضهم على حق حين أحس بغيرة جاري من الكاتب الشاب، ولكنهم لم يعرفوا- سوى قلة منهم تشككوا في الأمر- أن جاري كان، وبصمت شديد، يغار من نفسه.

مازلت أذكر هذه القصة الحقيقية التي أخبرني بها محمود قاسم بينما أنا ولد صغير. لست أدري لِمَ تسلطت على ذاكرتي منذ أيام مضت. برزت فجأة لي من العدم. وجدت نفسي أفكر في جاري، وآجار، وتلك القصة التي هي أشبه برواية أو بفيلم متقن الحبكة.





وبرصاصة واحدة، رصاصة واحدة بالضبط، ترك جاري الليتواني الأصل، المحارب والدبلوماسي والمخرج وكاتب السيناريو، وراءه جمهورًا ونقاد مشدوهين. لم يعد في الأمر معنى بالنسبة له. فقط، أتم انتقامه الهادئ من النقاد الذي هاجموه، من الحياة التي ملها، وربما من نفسه: مخطوطة كتاب "حياة وموت إميل آجار" التي كتب في نهايتها سطرًا واحد:

"لقد استمتعت بالكثير من اللهو. أشكركم، والوداع".