في ثمانينات القرن الماضي وقف أحمد وجه القتيل في العاشرة صباحاً أمام بيته مهيباً مُكرَّشاً بعد أن حكَّت أذنيه صدفةً من غرفة ابنه هشام أغنية بوني تايلور الخسوف الكلي للقلب، فقطف على أثرها شعرتين قاسيتين تنبتان دائماً بشذوذ في سقف بطن شكْمَان أنفه الأيسر، وتخرجان ملتويتين عنيدتين إلى أعلى قمة الشكْمَان، ونظر سريعاً لجذر الشعرتين الأبيض بين إصبعيه. وأقسمتْ رحاب لأخيها ليلاً بأن والدها ما كان له أن ينتش شعْرَتي أنفه بتلك الحِدَّة لو لا صوت بوني تايلور المشروخ شَرْخَة صوت مغنيات الفيلامينكو، وأرجع أخوها صدفة سماع والده لمغنية الروك وصدفة يقظة رحاب في التاسعة صباحاً إلى مبدأ إمّا أو، إمّا صدفة احتكاك الأذن بملكة الروك، أو صدفة الوجود في ركن الصالة، لكنّ الصدفتين معاً تلغي الواحدة منهما الأخرى، الأمر أشبه بميكانيكا الكم عندما تتداخل مجموعتان من الموجات، أي أن ذروات مجموعة من الموجات قد تتطابق مع قرارات مجموعة أخرى، وهكذا فإن مجموعتي الموجات ستلغي إحداها الأخرى، بدلاً من أن تتضايف إلى موجة أقوى. وضع أحمد وجه القتيل يده اليسرى في جيب السيَّالة الزائف، وبَاعَدَ يده إلى الخارج، فانتفخ جانب الجلابية الحرير بهواء أشاع السرور في صدره، ثم أخرج بيده اليمنى من الجيب الآخر الحقيقي علبة سجائر روثمان، وهي العلبة الرابعة من الخرطوشة الثانية من مجموع خراطيش ست مجلوبة من ليبيا وطن عمله الثاني على شاحنة فولفو يفتخرُ بدفعها الرباعي، وأشعل واحدة وهو يرمي عبر ملعب كرة القدم الترابي اتنين نِنِّي ناحية حنفي الخارج من مذبح حلوان الرئيسي حاملاً داخل عب الجلابية مصراين ثلاثة عجول، طول المصران الواحد حوالي ستة أمتار، وعلى خصره حزام جلدي تتدلى منه سلسلتان، واحدة تنتهي بالمُسْتَحدْ، والأخرى بالكزْلَكْ القصير ذي الشفرة الماضية. فجأةً وجد حنفي كلبين مُلتصقين يُكافحان عند قدميه للفرار، كل منهما في اتجاه، وللحظات بدا عزم الفرار متساو عند الكلبين، فكانت الأرجل الثمانية تنزلق على بلاط مدخل المذبح الإسمنتي اللزج بدماء ثخينة، وكان قَدَر الكلبين المشؤوم في التفافهما حول ساق حنفي الذي مال قليلاً إلى الأمام، وهو يسند بيده اليسرى كرش سَقَطْ العجول، وباليد اليمنى رفع الكزْلَكْ بسلسلته، وفصل بضربة واحدة نظيفة الكلبين عن بعضهما، فجرتْ الكلبة في اتجاه وكأنّ شيئاً لم يكن بينما ارتفع عواء الكلب، وأخذ في الدوران حول نفسه. اشتاق أحمد وجه القتيل إلى كبدة طازجة في الإفطار، وممبار في الغداء، فأيقظ ابنته رحاب، وبعثها لشراء الكبدة والممبار من حنفي الجزار العارف بأن زبونه أحمد وجه القتيل يحب نصف كيلو الكبدة قطعة واحدة سميكة مستطيلة. تاهتْ آثار دماء الكلب في دماء الكبدة الغنية. وضعتْ فوزية زوجة أحمد وجه القتيل صاجةً مُربَّعة كانت في الأصل لعلبة سَمْن هولندي على عين البوتاجاز الحامية، وانتظرتْ حتى تصاعد الدخان من جوانب الصاجة، ثم رمتْ دفعة واحدة قطعة الكبدة على الصاجة الحامية بعد أن دهنتها بورقة زبد، ورشتْ عليها حلقتين، واحدة من الملح، والثانية من الفلفل الأسود، وفي الحال أحدثتْ الكبدة صوت طشطشة ونشنشة من صدمة اللقاء الساخن، وتغيَّر لونها سريعاً، فقلبتها فوزية بسن الشوكة على الجانب الآخر، فانكمشتْ الدماء داخل سُمْك الكبدة، واندفع من تحتها صاروخ البخار الغاضب. سَطَحَتْ الزوجة مستطيل الكبدة على أحد أطباق طقم روميو وجولييت الصيني. وقرب صباح اليوم التالي دخل هشام غرفة شقيقته رحاب بمثال آخر عن الصدفة، إذ بدا على رحاب أن مثال ميكانيكا الكم لم تهضمه جيداً. قال هشام: سنفرض أن واحدة أراحتْ عينيها، ومالتْ برأسها، فسقطتْ خصلة شعر أمام وجهها، على كتاب لها في يده، وسنفرض أن جلوسها على طرف مقعد خشبي محدوف في حضن بحر هائج، حلم رومانسي قرأ عنه وشاهده في أفلام وحدس به وهو جالس على الطرف الآخر من المقعد، ومع هذا، ومع أنه حلم، ومع أنه رومانسي، حرَّكَ لها الكتاب مع حركة رأسها، لتقرأ اسمها على غلافه، وقال: كاتبتي المفضلة، دون الإيحاء بأنه يعرف أنها هي صاحبة الكتاب، وبعمى الصدفة عندما تتضاعف، فتجهض المعنى الوليد، وتكبت انطلاقه، أخرجتْ من بطن حقيبتها، وهي ترفع بيدها سقوط الملاك عن وجهها، كتاباً له، وقالتْ وهي تبتسم: كاتبي المفضل. بصرة الكوتشينة، الفرقعة الخفيفة بظهر ورقة الآس على جبين الخصم، الاحتفال بلقاء آسين، بلقاء صدفتين، وها هو البحر يحتفل بهضبة موجة عالية تلطم ذقن الصخرة الكبيرة، فيصل إلينا ماؤها ضعيفاً بعد أن كُتِم هوله في سقف الذقن.
...................................................
يوميات مصطفى ذكري: روزاليوسف
No comments:
Post a Comment