designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Friday, November 30, 2007

الأيام العظيمة البلهاء....

المدينة تلفظ خبثها*

حمدي أبو جليل



أسامة نشأ فى بيئة دينية موغلة فى التمسك بالمبادئ والشريعة، ووالده وجده وأعمامه متدينون جدا وشديدو التمسك بالعادات والتقاليد، وهو كان ملتزم، من يومه ملتزم، يقيم الصلوات فى أوقاتها ويصوم رمضان والمواسم، وأحيانا الاثنين والخميس، وظل ملتزما حتى سافر إلى السعودية، هناك، فى الأراضى الحجازية المباركة بدأ يتحول، طبعا لم يتحول نهائيا، وظل طوال حياته مؤمنا وموحدا بالله، ولكنه بدأ يهمل فى موضوع الالتزام، والأسرة الملتزمة لاحظت ووالده الشيخ انزعج، خاف على بكريه من الويل والثبور وعواقب الأمور، ولكى يقطع الشك باليقين سأله نفس السؤال الذى سألته له أمه بعد سنوات "إنت إيه يا أسامة.. إنت إيه يابنى.. إنت مؤمن بربنا والإسلام؟"، وطبعا أسامة اتخض بنفس الطريقة، ورد بنفس الكلمات التى قالها لأمه فيما بعد "إيه يابا اللى بتقولو ده؟ يا خبر، طبعا مؤمن، ومؤمن جدا كمان" ولكنه لم يلتزم أبدا، ويوما بعد يوم كان يزداد اقتناعا بفكرة إن المعانى الحقيقة للإيمان والدين شىء وما يفعله المتدينون – خصوصا المسلمين – شىء آخر، وفى آخر أيامه كان حانقا على المسلمين، أحيانا كان يقول لى فجأة "يا أخى أنا كرهت المسلمين، كرهت التعصب والعنصرية والجهل والقسوة"، وكنت أسأله "إنت كافر يا أسامة.. أنا باكره الكلمة دي، ولكن قصدى إنك ملحد يعنى" وكان يقول: "لأ.. ولكن مش ممكن ربنا يقول كده، مش ممكن يكون قاسى وفظ بهذا الشكل.. مش ممكن يقول "خذوه فغلوه ثم الجحيم صلّوِه"، تصّوِر، الله العظيم خالق الكون كله يقول هذا الكلام؟

أسامة سافر إلى السعودية للعمل، وسكن فى المدينة المنورة بالقرب من والده الذى سبقه إلى هناك، واشتغل مدرسا، ليس فقط لعلوم الجيولوجيا التى درسها، ولكن لكل المواد، وكان يعطى دروسا خصوصية فى اللغة العربية لطفل غريب الأطوار، يكره الدراسة والمدرسين، وخصوصا أسامة، وكان يسعى إلى تطفيشه بأى طريقة، وكان يخيفه بالضب، يخفى الضب وراء ظهره ويشهره فجأة فى وجه أسامة فيطيح على ظهره ويطير جرى والطفل وراءه.

المهم أسامة اشتغل فى السعودية خمس سنوات، وكان يزور مصر فى الأجازات الصيفية، وأثناء أجازة السنة الأخيرة، 1991، صدر ديوانه الأول "حراشف الجهم"، أصدره فى طبعة محدودة، وطبعا أخذ نسخا للسعودية، وأهدى الديوان لناظر المدرسة وبعض المدرسين ومنهم مدرس سورى يكتب الشعر، وكلم صديقه سعد الحميدين فى الرياض وقال له إنه يحتفظ له بنسخة من الديوان، وسعد دعاه لزيارة الرياض للتعرف على بعض الأدباء السعوديين وقضاء يومين معهم، فى ذلك الوقت كان موسم الحج على الأبواب، وأسامة قرر أن يقضى أجازة الحج عند الحميدين فى الرياض، ولكن والده الشيخ بهى لم يأخذ الموضوع ببساطة، معروف إن المصريين العاملين فى السعودية يؤدون فريضة الحج كل عام من باب زيادة الخير خيرين، وأسامة نفسه حج مرة ومرتين، والشيخ بهى كبَّر الموضوع وربطه بما اعتبره تطورات ظهرت على أسامة وقال له": بذمتك بتصلى يا أسامة، بذمتك بتصلي، قاعد جنب النبي عِدِل ومبتصليش؟!، وبعدين مش هتحج؟"، ولكن أسامة صمم، وأخذ الأجازة وطلع ع الرياض، وانبسط جدا وأقام الحميدين حفلة على شرفه حضرها أصدقاؤه من الأدباء والمثقفين، وقضى أجازته وعاد، وذهب للمدرسة، وبينما هو يكتب تاريخ اليوم واسم الدرس على السبورة، فوجئ بالناظر يفتح الباب، ليس يفتحه ولكن يقلعه عليه "عملت إيه يا ابنى.. عملت إيه يا أسامة؟!" ونظر حواليه برعب وسحب أسامة على مكتبه وأغلق الباب، وتأكد أنه أغلق جيدا، "المخابرات قالبه الدنيا عليك"، المدرس السوري بلَّغ، والمخابرات السعودية فهمت "حراشف" على إنها حراشف، واحتارت في شأن "الجهم"، البعض قال: إنه تلقيح على الملك فهد، والبعض اعتبر الجهم "الله" نفسه، وفى الحالتين لا شيء إلا الويل والثبور وعظائم الأمور، واتسعت أمام عيون أسامة صحراء الشاسعة والربع الخالي والوحوش والأساطير التي تروى، ولحسن الحظ إن الناظر سعودي ومن أسرة معروفة ويحبه، وقال له الحل الوحيد إنك تغادر السعودية الآن، خلال 48 ساعة تكون في مصر، وبالفعل تيسرت الأمور ونجح أسامة في الفرار، طبعا الوالد الشيخ كان يموت من الخوف على أسامة، وكلم طوب الأرض لإنقاذه من الهلاك المحقق، ولكنه لم ينس موضوع الحج، الخير العميم الذي عافه أسامة وسافر للرياض، وفى عز الأزمة قال عبارته التي ظل أسامة يرددها طوال حياته: "يا أسامة المدينة تلفظ خبثها".

.......................................................................

* جزء من كتاب " الأيام العظيمة البلهاء.. طرف من خبر الدناصوري ".

* صورة الكاتب حمدي ابو جليل: الأصل من ندوة الكاتب أحمد مراد بدار ميريت. تصوير: شيرين راشد.

المعالجة الفنية للصورة: محمد علاء الدين

3 comments:

عباس العبد said...

كالعادة مبدع
هو الكتاب ده نزل و لا لسه
و من اى دار نشر
و بيوزع فين ؟

Unknown said...

المدينة تلفظ خبثها

بجد حلوه

(:

إبراهيم السيد said...

حلو جدا يا محمد

الصورة و اختيار الجزء