designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Monday, August 27, 2007

نهير صغير يشق دماغي..


انتظر صديق في المقهى يبدو انه قد مل من الانتظار و رحل.

احمل حقيبتي. امشي في شارع هدى شعراوي الذي تتراوح تفاصيله ما بين إقبال و إحجام تبعا للضوء الشحيح الذي استغربه دوما لشارع في مثل موقعه. ادخل لبار "ستلا"و اسلم على رجل عزيز عليّ. اعرض عن دعوته للجلوس بدافع مبدأ الزيارة الخفيفة. اقبله و أشم رائحة البيرة التي غلفته. اخرج من البار، و أعود خطوات قليلة لأمر بـ"زهرة البستان". كان يمكنني الدخول في الممر الذي ترقد علي ناصيته شركة الخطوط الجوية التونسية، و لكنني أقوم بمناورة مملة فأدخل في شارع "زهرة البستان" لأعرج يسارًا حتى أعود لنهير شارع سليمان باشا، لأولج نفسي في الممر سابق الذكر. عينيّ تستعرضان الجالسين فوق كراسي المقهى. أعبرهم كما اعبر استوريل في وسط الممر و مدخل نادي السيارات الذي كان ملكيًا في مواجهتي، هناك، عبر نهير قصر النيل. امشي إلى اليسار قليلًا، بوسعي أن ادخل "الجريون" لاستعرض جالسيه برتابة و لكنني أعرضت كما فعلت مع دعوة العزيز. أدخل في الممر الذي يسند يساره ملهى "الأفتر آيت"، و أمر ببائع الزهور علي يميني قبل أن انعطف أنا بدوري جهة اليمين. عندما أنحرف يكون المطعم المتواضع الذي يبيع رواد قهوة مهران—التي أسموها افتر آيت بدورها—أصناف من المحاشي و الممبار. إلى يساري يكون حسن رياض صاحب برج الحمام الذي أطلقه صوت منير بهجة. أسلم عليه و أنا أقول بابتسامة ما:

- و كأنني اعبر بك مرة ثانية في نفس اليوم.

نظر لي و اتسعت ابتسامته الطبيعية قليلًا قبل أن يقول:

- عندك حق.. و كأنك بالفعل تعبر بي بعد ساعتين أو ما يزيد قليلًا..

رأيته بالأمس، جالسًا في ذات المكان بالضبط، و يبدو عليه أنه ينتظر ذات الطلبات، و كنت أنا ارتدي ذات الملابس، و حالق لذات اللحية. وبكرمه المعتاد لم ينس أن يعرض ذات العرض:

- طيب اقعد واشرب شيئًا هذه المرة.. بجد..

ابتسمت و أعرضت مرة ثالثة بينما هو يلحف بسلامة طوية. تأخذني قدميّ لعمق الممر. الناس عن يمين و عن شمال. محل الكبدة علي يميني و علي يميني أيضًا محل "سعد الحرامي" بعدما ودع عربة الفول المتهالكة في شارع شامبوليون، بجوار المدرسة التي أغلقتها السلطات. أعبر بكل هذا، و يكون نهيرًا آخر يسمى محمود بسيوني أو الانتكخانة. أعود بقدميّ خطوات قليلة إلى اليسار، و ادلف للشارع الضيق الذي يرقد محل الحمر اليوناني علي ناصيته. على يساري مقهى صغير جدا لا يكف صاحبه عن شتيمة "كفاية"، و بعده مباشرة نت كافيه مغال في أسعاره و بقالة ومدخل بيت يليق بوسط البلد. أيضًا على يساري تقع المدرسة، و الممر الصغير الذي كان سعد يقف بعربته في آخره، مواجهًا مقهى روميسا.

شارع عجيب يمتد لما بعد التاون هاوس الذي يتثائب في ناصية قريبة، و علي يسارك تجد التكعيبة بكل روادها. مصدر عجبه هو أنه ببساطة يمتد، بينما احسبه أنا جثة هامدة و واقع افتراضي فيما جاوز التكعيبة و التاون هاوس. عرفت أن اسمه حسين المعمار و أنه بالفعل يمتد فيما بعد التاون هاوس ببعض من الجرأة و كثير من الوقاحة ليضم مسرحًا تجريبيا يدعى روابط. سيكون علي يسارك إن أكملت شارع المعمار الذي هو حسين و لكنني و ببساطة أورثتها العادة انحرف يسارًا. بالأمس قابلت صدفة صديقة اعرفها عن طريق الانترنت. تعرفت وجهي و تعرفت وجهها بينما أنا أتحدث في التليفون و ابحث عن وائل سعد و مجدي الشافعي. سألني صديقها المصري إن كنت اجلس هنا دوما فقلت بحسم إنني أُفضل "منه فيه". هو يعرف مقهاي الذي أسميت و يهز رأسه بلا معنى ثم يخبرها أن روايتي كانت من أكثر الروايات مبيعًا في العام المنصرم. تشكر يا مولانا.

اليوم اجلس قليلًا مع مخلوف و قنديل اللذان أحبهما. يسميني قنديل عبد العزيز و اكسل أنا عن رد تحرشه الودود. أصل إلى بيت وائل سعد المؤقت، و الذي يحتل ناصية التكعيبة—علي يميني بالطبع و أنا قادم من ذاك الاتجاه—و أنا أفكر للحظة في أن أنهر وسط البلد الصغيرة، بضفافها التي يرقد بها ما لا نستطيع حصره من محال و عمائر و بشر و كائنات خرافية في كثير من الأحايين، تنحت أنهر أخرى من الأفكار في الدماغ، أفكار ترقد علي ضفافها الحياة ذاتها، أو ما تبدو أنها كذلك.

بينما أنا أغلق باب مصعد وائل الخشبي، بعدما أبديت افتناني – لمرة أخرى و ليست أخيرة–بزر الاستدعاء الذي يسطع لك بكلمتي "سيحضر" و مقابلتها بالفرنسية، مستنشقًا رائحة الزمن القديم المتماهية مع بعد المكان ذاته، وجد نهير صغير طريقة جديدة لشق دماغي؛ إذ أن مولود وسط البلد لا يستطيع التخلص من سطوتها، مهما ابتعدت به المسافات، أو حتى قربت.

4 comments:

قبل الطوفان said...

حين تطأ قدما محمد علاء الدين أرض مكان.. يصبح للمكان أخيراً عنوان وهوية

هكذا أراك، في قدرتك الرائعة والسلسة على الاقتراب والرصد، خاصة عندما تعلن انتماءك إلى وسط البلد.زأو ربما انتماء وسط البلد إليك
:))

رائع يا عزيزي

بنت الحياه said...

متهيألي مينفعش أتوه تاني ف وسط البلد، طول مانا بعدي من هنا..

qindeel said...

هى وسط البلد دى .. اللى عند التحرير ولا حتة تانية ؟

simsim said...

البلد لم يعد لها وسط ولا حتى أطراف ...تحولت الى كائن هلامي لا ملامح له ..