لا أدري ما الذي يعتريني هذه الأيام .صرت حساسة بدرجة وحشية .الكلمات تنفذ مباشرة إلى عصب روحي .أسمع كلمة لا تعجبني فأسب صاحبها بشكل قاس. أقرأ كلمة" بلاد" في كتاب أو مجلة فأبكي كالأطفال. أشاهد فيلما عاديا فأتفاعل معه حتى أكاد أتفتت إلى ذرات من الشجن.
شاهدت هذا الأسبوع فيلمي المفضل" امرأة ورجل" ، وشاهدت "المريض الإنجليزي" ثلاث مرات.. أتابع "رالف فين " في أدائه لشخصية " دي الماسي" وأقول أنني بالتأكيد سأقع في غرام رجل كهذا ..نحيف وهادئ، عميق ، وقارئ نهم، يفعل كل شيء بهدوء وبلا تكلف ، حتى في ممارسة الحب وفي شدة الاهتياج سيبدو هذا الخليط من الرجولة والرقة.
سيقول الأشياء بشكل غير نمطي ، وسيفسر جسدي تفسيرا مختلفا، لن يشبه نهدي بالرمان ولن يتعامل معه بلا اكتراث ، بل سيعطيني الشعور انهما يتميزان عن نهدي أي امرأة أخرى نام معها قبلي . ربما سيقول لي انهما أشبه بعجين الياسمين. وربما لذلك سأظل أضع له يوميا عطر الياسمين بابتكار أيف سان لوران. أنا أيضا سأتوقف أمام جسده النحيف المشدود، لأتأمل تكوين صدره ، وابحث عن الوصف الناسب لجمال كتفيه. الفارق الوحيد أنني لن أخون زوجي أبدا ، أنا لا أستطيع احتمال فكرة الخيانة ، فأنا لا يمكنني أن أتسبب في مثل هذا الألم ، أشعر بأن الخنازير وحدها لها مثل هذه القدرة على إيذاء الآخرين.
وعندما أموت وحيدة في كهف مظلم وبارد سيكون اسمه آخر ما كتبت ، وسيحملني على ذراعيه ويبكي ، بينما تلفنا الموسيقى التي تلحن سر العالم ، وسأشعر به ، رغم موتي، وسأبكي لأجله .
في الطائرة التي سيحملني فيها جسدا محطما وروحا تنازع للتحليق بعيدا سأشاهد معه روح البشر وهي ترسم عالما بلا خرائط ، بلا تمييز من أي نوع ، سنحلق طويلا كجسدين لم يعد يناسبهما هذا العالم ، وروحين تتوقان لعالم آخر. وبسبب البدو ، وعلوم الطب البدائي التي توارثوها ليعالجوا حروقه سأظل في عالم آخر أنتظر الممرضة الحسناء لتستجيب للأنامل النحيلة المشوهة بفعل الاحتراق ، حين تدفع تلك الأمبولات الزجاجية الدقيقة الممتلئة بسر الرحمة ..المورفين.
****
ذهبت إلى مقهى "كافيه دو فلور" في سان جيرمان ، حيث أفضل الجلوس عادة ، عندما ارغب في الانفراد بنفسي. طلبت القهوة ، ولم تكن لدي أي رغبة في الاتصال بأحد ، فتحت جهاز الكمبيوتر وقرأت ما كتبته ولم أستطع مدافعة دموعي . لدي شعور لا نهائي بالوحدة ، ومع ذلك ليست لدي أدنى رغبة أن ألتقي بأحد . بذلت جهدا كبيرا لأبتسم للنادل ، صديقي ، دغدغت القهوة حواسي برائحتها النفاذة ، وأنا أهمس له "ميرسي مون شيري" وبدوت كممثلة في فيلم من أفلام "تروفو" .
استعدت صوتي وأنا أشكر الفتى عدة مرات. فكرت في وقع هذه النبرة الهامسة التي خرجت من حلقي مبحوحة ، ومكسوة بقطيرة بلغم تسبب فيه شراهتي للتدخين على مدى الأيام الماضية. لعله تأثر بصوتي شجنا ، وليس إثارة ،فهو يحب الفتيان ، لكنه صديق مثالي، أرتاح للحديث معه كثيرا. أتذكر دائما أغنية Il sapple Zigi، بصوت "سيلون ديون "التي غنتها في واحدة من حفلاتها هنا في باريس.
عندما قلت له هذه الملاحظة ، أدهشني بعدم معرفته للأغنية ، حكيت له عنها؛ عن قصة الفتاة التي تقع في غرام شاب اسمه" زيجي "، يبيع السجائر والصحف في أحد حوانيت الشوارع . كانت تمر عليه ليلا كل يوم ، ويسهر معها ليلة العطلة الأسبوعية ، لكنها كانت تعرف أنه لن يقع في غرامها أبدا ، لأنه يحب الفتيان.
كنت أريد أن أتحول إلى جنية في قارورة ملقاة في عرض البحر ، أنتظر بفارغ الصبر أن يجدها شاب له مواصفات" المريض الإنجليزي". توقه العميق للمعرفة ، وفضوله الذاتي يدفعانه ليتلقى الزجاجة ، على شاطئ ساحر، على الضفة الأخرى ، هناك في المكان الذي ألوك اسمه بوصفه "البلاد" .
سيهتف بالكلمة السحرية همسا وصراخا ليخلصني من أسري ، ويحررني من قيود الوجود خارج الزمن ، وسأخرج من القارورة لأعرف الحب.
خرجت من المقهى وسرت حتى وصلت ميدان لوكسمبورج ، عدت مرة أخرى ، وعبرت الطريق إلى الحي اللاتيني، عبر ممر ضيق، وسرت بجوار السوربون في طريقي لمبنى نوتردام . كانت روحي ثقيلة ، ولأن أجواء نوتردام عادة ما تجعلني اشعر بالسكينة قررت أن أكرر الزيارة .
ألقيت نظرة احترام على تمثال المسيح في مدخل الكاتدرائية ، وكدت أبكي عندما رأيت شابا أسبانيا ذا شعر أسود منكوش يركع أمامه ويناجيه بإخلاص . إحساسي بالألم يجعلني اكثر حساسية لآلام البشر وبحثهم المستمر عن الخلاص .كل بطريقته الخاصة .
تأملت النوافذ الشاهقة الملونة والمحملة برسوم بديعة يطغى عليها الأحمر والأزرق ، وتجاويف السقف المقوسة على الطريقة القوطية التي أعتبرها الأكثر رشاقة بين العمارة الكلاسيكية كلها.
أتذكر أمي عادة عندما أدخل أي كنيسة ، وأتذكر فورا مقاطع من مذكرات بابا عن اللحظة التي قررا أن يعيدا علاقتهما دون أن يتحدثا في الدين .."سنصاب بالعمى من الآن ولاحقا" رددت الجملة وانهرت في بكاء مرير تحت مرمى بصر المسيح والعذراء هنا في قلب نوتردام.
كنت ، في أثناء مروري بالحي اللاتيني ، قد لمحت البار" لي تروا ماييه" "Les Trois Maillet" الذي أحب الجلوس فيه مع كل صديق ألتقي به للمرة الأولى . لكن اليوم تلح ذكرى لقائي فيه مع أبي.
في عيد ميلادي الثامن عشر اتصلت به في دبي ، وطلبت منه أن يحضر للاحتفال معي بهذه المناسبة الاستثنائية. اقترحت عليه المكان ، وقلت له باسمة أن البيانيست المفضل لي لا يحضر قبل منتصف الليل ، فضحك لأني أريد أن أؤكد له أن عمري يسمح لي الآن أن أبدا سهرة في منتصف الليل.
اخترت منضدة في ركن ، وطلبنا النبيذ والعشاء . كان أبي ينظر لي بإعجاب وهو يقول بين لحظة وأخرى أنه لا يصدق أنني أصبحت فتاة ناضجة هكذا. كان البيانيست أمريكيا ، لكنه محترف في عزف موسيقى الجاز. بين مقطوعة وأخرى كنت أعلق على الطريقة التي يعزف بها البيانيست والمقطوعة التي يعزفها . ابتسم لي أبي وقال أصبحت مثل الفرنسيين حتى في الاستماع للموسيقى. ابتسمت ، ولكني لم أفهم فقال: نحن ننصت للموسيقى تماما عندما تعزف ، أو نكتفي بتحريك أجسادنا، أو أحيانا في الموسيقى الطربية نطلق أهات صاخبة من القلب مباشرة ، لكن انظري حولك ستجدي أغلب الجالسين يعلقون على العزف والموسيقى .هذه هي الطريقة الفرنسية لسماع الموسيقى. اندهشت للملاحظة وابتسمت بلا تعليق.
في بعض الفقرات الموسيقية ظهرت فتاتين الأولى فرنسية ، والثانية برازيلية . لكن ما أدهشنا أنا وأبي أن الفرنسية هي التي كانت تجيد الرقص بشكل متقن بينما البرازيلية بدت هاوية ، جسدها البض رشيق ، ومرن ، لكن حركة جسدها عشوائية ، فطرية ، وفي بعض الأحيان مضحكة ، وبعد فترة يحضر الفتى البرازيلي صاحب الشعبية ، خاصة لدى السياح من غير أهل باريس. فهو مشهور برقصة تنتهي بالقفز جالسا فوق إحدى الموائد . عندما شاهده أبي يفعل ذلك وسط بهجة الحضور ، تأكد من وجود الأطباق وزجاجة النبيذ ووضع عليها يده كأنه يتأكد من ثباتها في أماكنها، وحتى الأكواب الخاصة بالمياه ملأها حتى حافتها ، وهو يقول :
حطي الكُبايا ت كويس احسن ابن القحبة ده ييجي ينط لنا هنا.
ضحكت وأنا أقول له : ما تخافش يا بابا هومش هييجي عندنا ..فيه ناس معينة بتطلب الفقرة دي.
****
لو أن لي فرصة لإعادة حدث ما لناسبني الآن أن أتوقف للشاب الإنجليزي الذي قابلته هنا قبل عامين. كنت سكرانة . ودعت سيلفي عند محطة المترو ، وعدت لأستكمل السهرة مع الآخرين . استوقفني الشاب ، وأدركت أنه أيضا سكران. خفت في البداية ، وفكرت أنه ربما يكون متشردا يريد أن يسطو عليّ، ثم استبعدت هذا الخاطر ، وقلت لا .لا بد أنه التفت إلى شعري الطويل الأسود( كنت تركته طويلا في ذلك الوقت) يطير مع الهواء وأثاره ذلك فقرر أن يغازلني ، ومع تدقيق النظر أكثر استبعدت الاحتمالين ، للبراءة والطفو لية التي كانت تطل من عينيه الزرقاوين المحاطتين بحمرة طفيفة، وقررت أن أنصت إليه.
قال لي أنه تائه ، وأنه سافر من إنجلترا لأول مرة في حياته، وأنه لا يعرف كيف يصل إلى الفندق الذي ينزل فيه ، وانه يشعر بالحزن الشديد، فقد تركته صديقته فجأة ، وفوجئ بأنها حامل من شخص آخر . وبدأ يبكي .ووجدتني أنا أيضا أبكي .
كان آنذاك في مثل عمري تماما ،23 عاما ، وبدا لي لطيفا . اتصلت بالأصدقاء وقلت لهم أنني سأتأخر قليلا ، حاولت أن أستدل منه على المكان الذي ينزل فيه، وفهمت من اسم أحد المقاهي التي ذكرها أن الفندق في شارع 14 سبتمبر، قريبا من اللوفر، وانطلقنا إلى محطة القطار مرة أخرى. وصفتُ له المكان بشكل دقيق ، وكتبتُ له اسم المحطة التي سينزل بها .نظرت له بمودة حقيقية . ابتسم ، وقال لي أنني الفرنسية الوحيدة التي حدثته بالإنجليزية بهذه البراعة. قلت له ضاحكة أن كل جيلي يفعل نفس الشيء. فقال يبدو أنني سأعرف الكثير عن باريس في اليومين القادمين ، احتضنته بقوة وقال لي: سأفتقدك كثيرا.
قلت له :أنا أيضا سأفتقدك كثيرا . وكنا نعني ما نقول.
لم أتذكر اسمه أبدا بعد ذلك ، لكني كنت أتذكره كثيرا وأتذكر هذه الواقعة بين آن وآخر بنوع من الحنين.أحيانا كنت أفكر أنني كان لا بد أن أتعرف إليه أكثر، وأعرف الظرف المأساوي الذي جعل صديقته تفعل به ما فعلت، لكني آنذاك كنت مشغولة بباتريك وبسخافات كثيرة. ليتني أتعرض إلى موقف كهذا اليوم.
فكرت أن أذهب إلى" التروا ماييه" ، لكني لم أشعر أنني في حالة نفسية تسمح لي بذلك ، ففي حالة الحساسية الشديدة والاهتياج العاطفي هذه سأكون معرضة للبكاء لأقل سبب ، ومن أي شيء. أعتقد أنني أحتاج إلى شيء ما مختلف عن كل ما أفعله وأعيشه . أحتاج لاتخاذ قرار مصيري ، لكني لا أعرف أي طريق هو الذي سيحقق لي هذا التغيير.
إبراهيم فرغلي
...............................................................
فصل من رواية تصدر قريبا بذات الاسم عن دار العين.
8 comments:
أنا قريت التدوينة أكثر من تلات مرات ومش عارف أعلق وأقول حاجة غير صباح الجمال.. وياريت تبقى تبلغنا لما الرواية تنزل
---------------
"فتحت جهاز الكمبيوتر وقرأت ما كتبته ولم أستطع مدافعة دموعي . لدي شعور لا نهائي بالوحدة ، ومع ذلك ليست لدي أدنى رغبة أن ألتقي بأحد . بذلت جهدا كبيرا لأبتسم"
---------------
وعندما أموت وحيدة في كهف مظلم وبارد سيكون اسمه آخر ما كتبت ، وسيحملني على ذراعيه ويبكي ، بينما تلفنا الموسيقى التي تلحن سر العالم ، وسأشعر به ، رغم موتي، وسأبكي لأجله
الغربة صباحا هي انت بدون كل مراسيم الهراء اذ أن مساحة الأمن تتقلص حقا صباحا فلا الوقت والاالمزاج يسمحان بأمن جديد نمت به البارحه فاستيقظت صبحا لتجده رحل دونك لقد نفض الصبح السرير وتركك واهما وبعيدا عنك وعن كل مرافئ الامن .
Hey, my name is Nermeen am a close friend to Alaa. Or let's say he's a close friend to me. Anyway, This is my first time to write anything in here. Which means i realy am so shaked with your deep emotions that are coming out of your words.. i was astonished to find it long chapter when i scanned it again after i read it deeply. i felt it took a glimps to finish it! realy am speechless coz it took me into it and i was shocked when it ended!
Plz, tell us when you have it published. Thank you
طوبى من له أصدقاء مثلك
يا حامل المسك.. أنت تقدم لأصدقائك أجمل وردة وأطيب عطر.. عطر الكلمات المبدعة التي تنفذ إلى القلب وتمنح المكان مزيجاً من الدهشة والموسيقى الهادئة
نص جميل.. وبادرة أجمل منك
ديد مان
:)
اكيد ح اقول إن شاء الله لما تتنشر
:)
المجهول
جميل
نيرمين
شكرا ليك يا إبراهيم يا فرغلي ياللي خليت نرمين هانم تعلق اخيرا
:P :P :P :P
كرريها يا استاذة و النبي.. هه؟
:)
ياسر
علي فكرة انت اللي خلتني اعلق علي البوست ده من الاساس و كنت ناوي اسيبه من غير كلام مني.. مش عارف اقولك ايه يا سيدي.. بجد مش عارف
:)
نورت المكان
اشكرك يا محمد جدا
أخجلتني بكرمك
نيرمين ..أتمنى أن تحضري حفل التوقيع وتاخدي أول نسخة
ومحبة كبيرة لصاحب المكان وزواره
إبراهيم فرغلي
shane3aaaaaa awee..feen el7fla deh w emta bta3t eltwqe3???
ana 3aiz agy b2aa :)))
إبراهيم العزيز
كلامك كبير اوي عليا
:)
وئام
إن شاء الله أول ما يتحدد معاد ح اقوله
:)
Post a Comment