عندما وقفت أمام رف الكتب العربية في ديوان بحثت عن كتابي باهتمام طبيعي ممل، و عندما وجدت نسخة واحدة متبقية فرحت فرحة طبيعية قد تكون مملة، و عندما تناولت النسخة و نظرت إليها، مقّلبا صفحاتها في بلاهة، كانت نرجسية ربما لا تكون طبيعية و لكنها أيضًا مملة. لم يكن الأمر مملًا أو طبيعيًا أن أُرجع الكتاب إلي الرف لأفاجئ بتلك الشقراء القصيرة ذات الحركات العصبية التي تمد يدها في سرعة إلي كتابي الصغير، لتحشر وجهها فيه بصمت.
ظللت واقفًا و صامتًا و ناظرًا إليها. دارت عينيّ في محجريهما بحذر بطئ قبل أن اسأل
- Do you know this book?!
- أيوة..
فاجئتني لغتها، و فاجئتني لكنتها أيضًا. تبدو لكنة مصرية للوهلة الأولي. نظرت إلي عينيها الفاتحتين بلون العسل، أنفها الروماني، شفتاها الرقيقتان و احترت.
- ماذا سمعت عن الكتاب؟
- أنه ممتاز..(*)
لهجتها حاسمة قاطعة و لكن ليس للمدح فهي لا تعرفني، و لكن لإحباط الذكور الطامحين فيما يبدو.
وجهها ما يزال محشورًا في الكتاب.
بعد ثانية من التردد قلت لها مبتسمًا "شكرًا". رفعت عينيها إليّ فأدركت أنها ذات نظرات حادة.
أنا المؤلف. ابتسمت و تصافحنا. أتت فتاة اصغر سنًا لتقف بجوارها فهززت رأسي محييا.
- مِن منْ سمعت عن الكتاب؟
- من بهاء طاهر..
- أها! هذا يفسر الرأي الايجابي! أنت المترجمة النرويجية؟!
قالت و هي تضحك:
- لا! أنا المترجمة الصربية!
ضحكت و أنا استغرب تصاريف القدر. منذ اسبوعين هاتفني العايدي و قال لي أن هناك مترجمة صربية تود مقابلتي. يبدو انها سمعت عني في مكان ما. قد تكون قرأت الرواية و قد لا تكون.
هي لم تكن. سمعت عنها فقط من الرجل الذي تحبه كوالد، و الذي احبه أنا كملاك.
دراجانا، الصربية البلجرادية البرجوازية التي تحب اللغة العربية و تدرسها في مدينتها الأم، و تترجمها في احيان كثيرة، و التي ستتذكرني كلما شاهدت احدهم يقضي حاجته في الشارع، لأنها عندما ضحكت في عرض فيلم "سنترال" علي جملة "الدنيا حلوة الدنيا لطيفة و الناس لسه بتطرطر"، اخبرها العايدي أنها جملة من جملي الأثيرة.
ترجمت هي "نقطة النور" و بهذا صار لنا مدخل للحديث عن الإنسان و النفس و النور الذي تثيره كتابة بهاء طاهر. و عندما جلسنا في جوني كارينوز—لا احب هذا المطعم جدًا و لكنه كان أفضل الإختيارات وقتها—اكتشفت كائنًا غريبًا آخرًا يعرف من هو نات كينج كول، و يمكنه أن يتذوق غناء فرانك سيناترا، و يمكنه تقبل امريكا و أن يحبها رغم كل شيء.
بالطبع سؤالها الوجودي عن "ليه بيطرطر المصريين عند الكوبري بالذات؟!" شغل عقلها كثيرًا، و هو في حد ذاته مفتاح للتفكر في الكوبري و رموزه المتعددة التي من اهمها العبور و السلام و عثمان أحمد عثمان. من المفيد هرش الدماغ مع دارجانا التي قابلت مرة مثقفًا لا اعرفه فقال لها انه كان يكره الصرب جدًا، ثم في نهاية الجلسة حياها قائلًا "فرصة سعيدة"، فانفجرت "تشتمني ثم تقول لي فرصة سعيدة؟!".
شرسة دراجانا في الدفاع عن بلدها، و لكنها تقول في حوار حاولنا جعله قصيرًا مع إبراهيم البطوط—الذي غطى الحرب في البوسنة لمدة ثلاث سنوات كاملة "الغلطة الوحيدة أن الدولة كانت ورائهم (صرب البوسنة).. هذه هي الغلطة الوحيدة".
تري دارجانا إن الكل مخطئ في هذه الحرب، و أنها هي، الحاصلة علي درجة الماجيستير في لسانيات اللغة العربية و تعمل في جامعة بلجراد، لم تقتل أو تذبح أحدًا و لا تسمح لأحد أن يعاملها علي اساس جنسيتها فحسب. لا اتفق معها كل الاتفاق في الجملة الأولى، و اساندها تمامًا في الثانية، و احترم شجاعتها في دراسة اللغة العربية في محيط ينظر إلى اللغة العربية و الإسلام و دارسيهما بتشكك.
تمشينا قليلًا في الزمالك، و انا اضحك لطريقتها في الحديث و تعبيرات وجهها و مطة الألف في "ماشي.. ماشي"، السلاف الجنوبيين اساتذة في المرح و الضحك. رأيت ذلك مع البوشناق المسلمين و الصرب الارثوذكس و الكروات الكاثوليك في فيينا، و ها انا أضحك برفقة دارجانا التي يمكنها إصدار اسرع حكم أدبي في التاريخ، عندما تسألها عن رواية ما. تمط شفتيها و تصدر صوت ضراط.
هي كائن ضاحك و لكنه يمكنه أن يكون مخيفًا؛ كانت تتحدث مع احد مرافقيها بالصربية قبل أن تصمت تمامًا، مطبقة شفتيها الرفيعتين القاسيتين، و عينيها الحادتين تجول بهما قسوة و غضب ما.
قد يبدو طبيعيًا جدًا، و مملًا جدًا، بل و سخيفًا جدًا أيضًا، أن نتذكر المبدأ الرومانسي الذي يقول أن المكتئبين الحزانى المتوحدين هم من يمنحون العالم "اجمل اللحظات، و أصدق الضحكات" عادة، و لكنني تذكرت كل هذا و انا اثرثر كثيرًا مع دارجانا. وغد رومانسي طبيعي و ممل و سخيف أنا. يمكنك اضافة نرجسي بنفس راضية للقائمة و سأتقبل ذلك شاكرًا.
عندما سألتها عن أنفها الروماني قالت أن جدها حمار. استغربت ما تقول فتابعت "كان يوناني و افتكر أنه حاجة كويسة لما يتجوز صربية"، و عندما ضحكت أنا أكملت هي "مش بقولك حمار؟!".
.................................................
(*) أعلم أن الأمر يبدو كنرجسية مفرطة أن اذكر ذلك، و لكن عذري أن هذا قد حدث فعلًا، و أن لا شيء يجعلني أغيرها إلي "زفت".
الصورة: محمد علاء الدين و دراجانا جورديفيتش—بينوس الزمالك.
7 comments:
مسائه فل
يا معلم احلي حاجة في الفنان نرجسيته
الا قولي هو حاتم سافر ولا لسه؟
لحسن انا ما باركتلوش و خايف يزعل
وماله اتنرجس يا خويا، شو كم واحد كاتب كتاب متلك يعني؟ ;)
انت وغد رومانسى نرجسى
لكن محظوظ ايضا..
:D
ليك حق يا عم محمد .., أنت من اجمد الناس اللى شفتهم .. تستاهل يا معلم..
;)
مساه ورد و ياسمين
انت اللي معلم اولًا و انت عارف كده كويس
:P
و لأ، حاتم لسه قدامه يجي خمس شهور قبل ما يمشي، بس ألحق لأن فعلا الايام بتجري اسرع من اللي ممكن نلحقه
إيفو
لا و الله؟ ده انا زعقلي نبي يوم ما الاستاذة إيفو بجلالة قدرها تقول كده!! و كمان تعلق علي بوستين و ورا بعض! انا بحلم يا جدعان!!
;)
زوردياك
و الله ماليش حق يا عم زودياك.. و لو محظوظ ابقي محظوظ لأنك شايف كده مش لأي حاجة تانية، و و النبي الحاجة الوحيدة اللي استاهلها هي الصلاة ع النبي
:)
و تشكر يا سيد الناس
:)
الثقة بالنفس هي سبب النجاح
.. و الغرور سبب الفشل
:)
اتفق معاك تمتمًا
Post a Comment