designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Monday, September 19, 2005

ترانيم في ظل الجدة



أتيت إلي هذا البيت العتيق عندما كان عمري لا يتجاوز الستة اشهر. كونت وعيي بالأشياء كلها—كطفل أحمق و كشاب أكثر حماقة—في كنف هذا البيت و ربته العجوز. عندما كنت صغيرًا ضئيلًا كقط وليد كانت هي امرأة استوعبت الحياة بشوكها و زهورها. كانت عجوز هادئة بلغت الثانية و السبعين من العمر. اثنين و سبعون ربيعًا—أو صيفًا أو خريفًا أو شتاءً.. كما تريد أنت تسميته—أوصلت هذه المرأة إلي السكون الواثق. لم تعد بها حاجة إلى الجزع من تغضن ملامحها، من عبث أبن أو تمرد ابنة، من مشاكسة زوج أو مشاغلات عشيق. حتى الحمية التي سكنت جسدها إلى أن اختفت كانت نوعًا من الإعجاز علي كائن عتيق مثلها. عينيها الرماديتين الحادتين و زمة شفتيها القاسية—التي ورثها أبي، و ربما ورثتها أنا بدوري—كانوا ينذرون دائمًا بانفجار وشيك. هدأت النمرة قليلًا و لكن ملامحها التي اكتسيت بهدوء الثقة—و ربما التغطرس—كانت دومًا عنوانًا و دليلًا علي توحشها الذي ظل يلمع من فينة إلى أخرى كبرق متعجل أو كنبوءات عراف عابث. برزت نجية إليّ عندما برزت لي حياتي نفسها، فلما اختفت لم يكن من العسير علي أن اضطرب
نُعزي أنفسنا دائمًا بأن ما يحدث "للآخرين" لن يحدث لنا، و أن حقائق الكون المطلقة هي مجرد ديكور لحيواتنا نحن نأخذ منه العبرة و العظة فحسب، و كأن كل ما نعيشه هو البروفة الجنرال، نحدث أنفسنا أن ميعاد العرض الرئيسي، الحياة الحقيقية بكل مآسيها البعيدة، لم يأت بعد
هكذا وجدت نفسي و أنا أقف أمام باب المستشفي. الجسد ممدد بالداخل و أبي في المسجد القريب يؤدي الصلاة. اعتذر لي و ذهب بسرعة. تعجبت لِمَ لم يسألني المجيء معه. أبي رهيف الإحساس بشكل يفزعني أنا نفسي. قبل أن يرجع الوالد ليعهد لي بمهمة عربة الدفن، كان ذهني يلوك ما حدث ليقين حياتي الكبير في هدوء مصطنع. لقد ماتت جدتي. الكلمة المجردة تمددت في عقلي و دارت فيه ببطء. ماتت. الموت. لم تعد هناك. غابت. البشرة الوردية البيضاء الصافية. العينين الرماديتين. الشعر الذي امتزج السواد بالفضة فيه، بينما هي في السادسة و التسعين من العمر. عندما كانت تخلع منديل رأسها لتفرده فوق فخذيها الرشيقتين كنت أتأمل هذا الشعر الناعم المنسدل. كان قصيرًا لا يتجوز عنقها. كان ناعمًا رماديًا منسدلًا قصيرًا، و كان يطير في الهواء عندما كنت انفخ فيه برفق عابث
الكلمة تحولت لشيء لا يمكنني إدراك كنهه عندما فُتحت تلك الفجوة في قلب الأرض. الجسد الملفوف بالأبيض يبدأ رحلة أخرى لا أستطيع التنبؤ بها. بجوار الجدار كنت ابكي. بجوار الجدار كنت أودع أربع و عشرون عامًا من الحياة بقرب نجية. كنت أودع عمري كله الذي كنت اعرفه حتي هذا اللحظة. أبي يحتضنني. أبي يفهم لأنه قد ودع أبيه في ذات العمر. أبي يمنعه وقاره من البكاء كطفلة صغيرة مثلما افعل أنا. يطالبني برفق أن أكون رجلًا. جملته الأثيرة التي تحولت من تعاريج الغضب إلي انسياب التعاطف. كنت ابكي. لم ابكي منذ فترة طويلة، و عندما كنت ابكي كنت ابلع دموعي و اصمت. هذه هي المرة الوحيدة التي تركت فيها دموعي تتساقط كما تشاء. هذه هي المرة الوحيدة التي ابكي فيها أمام الناس جميعًا
لم تشخ نجية منذ عرفتها. عرفتها و هي شيخ في الثانية و السبعين، كانت ملامحها العجوز قد استقرت في رحلة تهدلها المقدسة. لم أر جدتي و هي تكبر و تشيخ، لم تغير جدتي عاداتها في الذهاب بنفسها إلي الحمام حتى قبل شهر فحسب من موتها، فظلت في عيني يقينًا لا يأتيه الباطل. تمثال عتيد و دليل علي الرسوخ. دليل علي الخلود. حتى عندما كنت احملها إلي الحمام، كنت اعلم يقينًا—وقتها—أن نجية عائدة لا محالة إلي كل ما كانت تفعله قبل الانهيار الأخير. عندما جلست بجوارها في غرفة الرعاية المركزة قبل يوم واحد من القضاء، رمقت وجهها الأبيض و قناع الأكسجين، المنامة الخضراء و اليدين المعروقتين. عينيها ذات النظرات التي استحالت تائهة. حتى عندما كنت اسمع صراخها في أول ليلة دخلت فيها المستشفي. حتى عندما كنت أقول، و أنا انزل درج المستشفي الرخامي، إنها ستموت. كنت أقولها و أنا غير مصدق. سترجع جدتي
لا اعلم كيف وضعت جانبي إلى سريري في هذه الليلة. روح جدتي لم تعد تطير كفراشة في هذا البيت. الظلام صار ثقيلًا. ثقيلًا. يطبق علي روحي و لا يفلتها. في ذات اليوم كنت متجهًا للعزاء. لم أكن أريد أن أقف في عزاء جدتي. لم أكن أريد أن أري أحدًا. لكن، انتم تعلمون، كان يجب عليّ ذلك. و عندما كنت أتأهب للخروج من الشقة الصامتة. لمحت نور الحمام الذي كنا نتركه لها في الليل حتى تتبين طريقها. أغلقته. و عندما خرجت أدرت المفتاح في الباب مرتين. كنا نفعل ذلك حتي لا تفتح الباب لأي طارق و نحن غير موجودين. لم يعد لهذه التكة الأخيرة أي معني. و عندما وضعت جنبي علي سريري، علمت أن كل شيء لم يعد له معني
كانت ليلة القدر التي اختارها لها الله، ليحدثنا مسئول المستشفي ليقول: البقاء لله. البقاء لله وحده. تركونا ننام في تلك الليلة. لم يكن في أيدينا فعل أي شيء حتى الصباح، لذا تركونا ننام بلا معرفة. و لكنني أحسست بذلك. رفعت يدي بالدعاء في تلك الليلة. استرجعت صيغة دعاء يقولون إنها لا تُرد. دعوت الله كخاطىء لا يرجو من دعوته عفوًا. كنت أدعو لها. و لكنني كنت انسي الصيغة دومًا، عندما كنت أدعو لها بطول العمر، و أتذكرها عندما أدعو لها بالجنة. حاولت التذكر بلا جدوى. علمت بشكل ما أن السيدة العجوز قد حانت نهاية زيارتها
في المسجد الكبير، بعد صلاة العصر، حيث كان الآلاف من المصلين يصلون علي جدتي، و هواء رمضان يبدأ في لملمة أطراف ثوبه تأهبًا للرحيل، قدرت أن الله منح بركته للرحيل، مثلمًا منح بركته للرحلة. صليت هذه المرة و كدت ألا الحق بالنعش الذي طار إلي عربته. الجسد يشتاق إلي مستقره الأخير. الجسد تمدد في صمت بليغ أمام عيني عندما كنت ارمقه في ذهول داخل العربة. لم أر مثوى الجسد في النهاية. دموعي كانت ساترًا ألا افعل
كنت أنام كطفل بجوار بطنها. كنت أتكور في وضع جنيني و أتمني أن اندس فعلًا في بطنها. رائحة جسدها كانت عنوانًا لجسدي. استرجع بكثير جدًا من الندم الأوقات التي كنت اهجرها فيها، بل و أتجاهل الرد علي أسئلتها بدافع أنها غير مهمة. أتذكر بمزيد من العار كيف كنت نذلًا و هي ترجوني أن أجالسها قليلًا فأرفض من اجل نزهة مع الأصدقاء. أتذكر كيف كانت تحبني فاعلم كم أنا أحقر بكثير من هذا الحب. قالت لي "سترحلون و تتركونني.. أليس كذلك؟!".. كنت احتضنها و أقول دون أن افهم "لا يا جدتي.. لن نتركك أبدًا.. لن نمضي بدونك". لم أكن افهم أنها تتحدث عن رحيلها هي. لم أكن افهم فزعها الذي كان تعاليها يمنعها من إفشاؤه بحرية. لا يا جدتي..لم نكن لنتركك. صدقيني
ما يقرب من سنتين علي رحيل الجدة، و صوتها مازال وشمًا فوق روحي. ما يقرب من سنتين علي رحيل الجدة، و انا مازلت افتح عينيّ في الظلام، خوفًا من رحيل جديد

9 comments:

لـيـلـيـت said...

ثوانى بس
انت عاوز تقولى إن
العَظَمَة .. اللى بتنط من الصورة دى .. جدتك ؟؟
عظمة على عظمة يا جدة محمد علاء

Muhammad Aladdin said...

ايوة هي، بس للأسف ما ورثتنيش حاجة منها نهائي
:)
شكرًا يا ليليت.. اسم جميل علي فكرة

Eve said...

من ذاق طعم الرّحيل مرّةً، دائماً يخشى الرّحيل الجديد. ما كتبته عن نجيّة يعكس شخصيّتك بقدر ما يعكس شخصيّتها، وربّما أكثر. أنت ثمرة نجيّة وأثرها الباقي أكثر ممّا تتصوّر.

Muhammad Aladdin said...

تعرفين يا أيف أن الاشياء تكتسب كثير جدًا من صفاتها عبر عيني الناظر.. اقصد في الامور الانسانية، و خاصة الكتابة، لذا اري ان كلامك معقول جدا.. حكيمة انتي كالعادة
:)

Anonymous said...

مش عارفة دي حالات استثنائية...ولا طبيعية...بس جداتنا بعاداتهم و طباعهم و ثقافتهم تأثيرهم علينا كان قوي أوي!!! الله يرحمها

Muhammad Aladdin said...

فعلًا.. متشكر يا نيرو
:)

Muhammad Aladdin said...

فعلا هي كانت اروع من اللي كتبته.. متشكر يا هوبي
:)

Anonymous said...

This is very interesting site... free game keno online poker nl 15 Clinics cosmetic surgery http://www.amateur-movies-1.info/san-andreas-sex-movie-download.html voip to pstn calling plans Tokheim printers Concerta and birth control Marketing case history on dodge what is medicare advantage plan volvo md 2030 Designing band t-shirts ppc 6700 watch tv

Anonymous said...

This is very interesting site... antidepressants Paypal gambling roulette bed mattress somma water bed salsa dresses Texas malpractice lawyers River dance in oklahoma Ldl cholesterol 70 Mentally ill and quitting smoking debt help savaria wheelchair lift Medicare coverage for prescription drugs Liquid glass auto polish canada