كالعادة، منذ وصلت إلى هنا، كان اليوم يبدأ في السابعة صباحًا.
في برلين أنا شخص آخر. تبدو عبارة فيها كثير من المبالغة، ولكنها حقيقية، ربما، من اجل جبر بعض من الخواطر وللتماهي مع موضوعية مفترضة، دعنا نقول انني هنا مختلف: اصحو مبكرًا، اقرأ بنظام دقيق، كتاب في الصباح فور الاستيقاظ وكتاب في المساء قبل النوم، وادرك هنا أن النوم سلطان، بدلا من التقلب بلا جدوى في ساعات الصباح الباكر في القاهرة، يحل علي تعب لطيف، ادخل في الوسن بيسر، انام بعمق.
اصحو من النوم، اضع بيضتين في ماء فوق نار، اعد بعض من القهوة الايطالية في آلة الموكا التي نادرا ما استخدمها في القاهرة؛ حتى قهوتي هنا مختلفة، فعادة استخدم القهوة سريعة التحضير التي اضعها في قدحي كشاي، أو- نادرًا- ما اشرب القهوة التركية التي تقلب في الماء بصبر. حمام سريع قبل ان اخرج لاستقر إلى طاولة المطبخ، آكل البيضتين واهين القهوة الايطالية ببعض الحليب: اهدتني شابة ايطالية لطيفة هذه القهوة، ولكن كان وجهها يظهر الامتعاض الشديد حين افسد مذاق القهوة المضبوط بالحليب الذي اضعه فيها. كنت حريصًا علي تذوق رشفتين من القهوة قبل صب الحليب، اتذوقها ببطء وبأناة وباستمتاع.
في حوالي الثامنة والنصف، أو التاسعة، بعد القراءة في الرواية اخرج لابتاع بعض من الفراولة الالمانية الشهية، الصيف هو موسمها، قال لي أحمد فاروق (كافكا) صديقنا التسعيني المستقر في برلين منذ عقد ونصف، أن مذاقها يذكره بالفراولة المصرية قديمًا، نعم، لديه حق، كانت هكذا في طفولتي، قبل أن تُمسخ في مراهقتي، ويشيع استخدامها مقطعة مع رش السكر فوقها، ولكن كافكا-فيما اظن- لم يدرك التحسن الذي طرأ عليها في اواسط رجولتي، اتذكر ان احدهم قد فسر لي الموضوع بانتقال من سلالة من الفراولة إلى سلالة اخرى، ويأخذ الامر سنين قبل أن يتحسن المحصول، ربما.
الفراولة: فاكهة الجنة، لونها الاحمر وشكلها المخروطي ققلب، المسام الخضراء الدقيقة فوق سطحها، العصارة الشهية التي تجول بفمك وحول لسانك وانت تقضمها بيسر، كانت واحدة من فاكهتي المفضلة، سواء كفاكهة أو كمربى، فيتراك الفراولة، هذه الايام. لسبب ما لا استسيغها كعصير، ولكن الموضوع يمكن تفهمه في ضوء انني احب المانجو حبا جمًا كفاكهة او كعصير، ولكنني لا اتخيلها ابدا كمربى.
امشي عادة قليلا في ارجاء كرويتسبرج، قبل أن اعود بحصيلة الفاكهة وبعض من الخضروات لسلطة طازجة، اترك كل شيء وآخذ اللاب توب إلى حيث “كوتي كافيه”، المكان متعدد الاعراق والتوجهات بالقرب من منزلي. هي منطقة تموج بالمهاجرين، وبالموسيقى العربية والتركية والكردية. بالأمس، اثناء صعودي للمنزل وبعض من وسن يتمكن من دماغي، شاهدت زفة عربية اسفل المنزل، خمنت انهم جيراني الذين يشغلون موسيقى أم كلثوم بين حين وآخر في الظهيرة. كان موكب العربات عربيا في كل شيء، الزينات والاشخاص والضحكات واللغة ولكنها، ولكنني شاهدت بدل العلم علمان فوق كل عربة، العلم الالماني.
اجلس في الكافية لاعمل قليلا واتصفح الانترنت كثيرًا، لن اثقل عليكم بالشأن العام لأننا كلنا في الهم واحد، ولأن مسئول الصفحة ها هنا قد نبهني، المهم، ما يزال لدي وقت قبل الذهاب لمعرض الفنون التي اخبرتني عنه صديقتي الالمانية، اتمم ما جئت لاجله، واجرع “الشاي العربي” بالنعناع كما يسمونه، قبل ان انفذ خططي المعتادة بالمشي لاطول مدد ممكنة في مكان يحتفي بهذا الفعل، ولكن، قبلا، يخطر ببالي أن احادثكم عن طعم الشاي، طعم مختلف، لم اعرف بالضبط- إن شئتم الحق- إن كت استسيغه أم لا، رغم انني اشربه كل يوم كبغل. اذا ما افترضنا أن القوم هنا يحضرون نوع حقيقي من الشاي، كيني أو سيلاني، فيبدو أنني المستهلك المصري المثالي، الذي تحدث عنه “بهظ بيه” في فيلم الكيف. افكر في كل يوم، وانا اطلب الـ”ارابيش تي” أن اسأل عن بلد منشئه، ولكنني كنت انسى، أو اتناسى.
اعيد اللاب توب إلي المنزل ثم آخذ وقتي للمشي، كان الأمر يشبه التحدي: لابد وان امشي شارع الكارل ماركس لنهايته.
كنت قد تمشيت بطول الطريق الطويل الذي يقود من كوتي كافيه إلى حيث الهيرمان بلاتز، الميدان الذي ينطلق منه شارع كارل ماركس، وهو غير طريق كارل ماركس الذي كتبت عنه قبل ذلك. كنت اتأمل من يقبلون على، ومن اتخطاهم، بفضول لم يقتله التعود، ميزت مع الوقت اختلاف الحجاب التركي عن الحجاب العربي، أو هكذا ما تخيلت، رأيت نساء شقروات وسمراوات شهيات، ونساء اوغلن في السن، ومرأة قصت شعرها كرجل، وكانت ملامحها كرجل، ولولا ثديين بارزين لحسبتها رجلا، رأيت حتي سيدة تشبه تماما نبيل الدسوقي، الممثل القديم، ولم اعرف إن كان التعاطف شعورًا مناسبًا تجاهها أم أن هذا شيء طبيعي لا يفسد الحياة. رأيت رجالا متوسطي العمر، وبعضهم يزتدي ملابس تعود في هندامها الي سنى السبعينات، وذكرني هذا بمدرس قديم في مدرستي الثانوية، تاه في تلافيف العمر اللي الدرجة التي جعلته ما يزال يرتدي الشارلستون الواسع في سنين التسعينات. شابات في مقتبل العمر، وفي مقتبل الحياة، يرتدين الهوت شورت كاشفات عن جمال فتىّ مازال يحتفظ بفضوله.
عبرت بالهيرمان بلاتز، ثم دخلت الشارع الطويل، وطوفان البشر ما يزال مستمرًا؛ كنت مولعًا بالمشي منذ حداثتي، كمولد من مواليد وسط المدينة التي احيانا ما تقودك لكي تكون اكسل خلق الله أو لتكون مجنونًا بالمشي مثلي، حين اكون في الاسكندرية لي عادة محببة: ان انزل من محطة سيدي جابر، لامشي في شارع ابي قير بطوله، حتي حديقة الشلالات، لأكمل في شارع فؤاد، حتي انحرف يمينا صاعدا الي محطة الرمل، ثم امشي بطول الكورنيش راجعا الي فندقي المفضل في كامب شيزار، في مرة اصيب احد السكندريين بالارتياع لخطتي وقادني من يدي مجبرًا الي حيث الترام.
في مرة كتبت رواية كاملة عن فعل المشي، وكان اسمها، ولا عجب، القدم. وعندما يبلغني بعض القراء بحبهم لها اسعد جدا، كانت القدم تجربة موغلة في التجريب كعادتي، واستعارت السياق المتشظى لعقولنا اثناء المشي كبناء، فاحيانا نفكر في ذكريات متداخلة، واحيانا يقطع هذا التيار انتباه وقتي لحادث في الطريق، او تأمل لواجهة محل أو لبشر يعبرون الطريق.
كان السرد مترادفة باستلهام لتشظى الحكاية عند القرآن، حين يذكر ذات الحكاية في مواضع متفرقة، وإن كان وفيا لجذور الحكي الاوروبية مع ذلك، وبينما انا امشي في الكارل ماركس، لاحظت مثل هذا التداخل من ميراث شرقي وغربي معًا، في سياق اخر هو المصدر التي نعب منه لنصنع جداولنا الصغيرة التي تخصنا: الحياة.
كانت التجربة اكثر ايغالا من اليوم الثاني والعشرون مثلا التي اعتمدت اللعب علي تكنيك مشابه: كيف نتذكر الاشياء وكيف ننتقل بعقولنا من تفصيلة الي اخرى بلا ترتيب، ولكن ان كانت الحكاية في اليوم الثاني ذات موضوع بعينه، وانا العب في تفاصيله وكرونولجية سرده، فقد كانت القدم هي التشظي الكامل، حول حكاية صغيرة صلبة كنواة في داخل النص.
كنت افكر انه، بما انني عنيد كبغل وسأتمم الشارع الطويل لاخره، فسيلزمني ان انحرف يسارًا في اي نقطة اختارها، قبل آن يتوجب علي آن انحرف ليسار آخر، قد يكون بطول احدى القنوات التي تفصل ما بين الجزر الصغيرة البديعة التي هي برلين، حتي اصل لنقطة توازي مكان منزلي. املك حاسة جغرافية اثق بها، واتركها لتأخد قدماي، ك،احد من مواليد وسط المدينة الذي دربوا علي فنون الابحار في الشوارع، وتوخي اقرب النقاط التي يمكنهم الوصول عبرها الي الهدف، أو لتجنب منزل أو محل او ناصية بعينها مثلا.
في المرة الاولي التي وصلت فيها ادنبرة قبل سنين بعيدة، اتذكر انني قد مشيت بلا هدى غير قياساتي المنطقية (في زمن لم تكن فيه الهواتف الذكية أو برنامج الجوجل مابز شائعًآ)، لمدة ٤ ساعات متواصلة لاصل لذات النقطة التي بدأت منها، غير بعيد ابدا عن مدرسة الجورج هارييت التاريخية، قريبا من مكان سكني آنذاك.
ساعتها عبرت بشارع البرنسيس آن دون ان اعرف اسمه، وهو ذات الشارع الذي بدأ فيه فيلم ترايسبوتينج الشهير، وحيث يتفرع منه شارع يوجد به بار بديع اسمه الرويال اوك، وهو نفس البار الذي عبر به بلال فضل مثلي، حين زار ادنبره، واظن ان ذلك تم بغير ترتيب بعينه، مثلما فعلت بالضبط.
علي العموم، اكملت الطريق حتي آخره، حتي تعديته ووصلت الي بداية طريق سريع يقود الي المطار وهامبورج، فقفلت راجعًا، ودخلت الي الطريق الذي توجد علي ناصيته محطة قطار نويكولن، لامشي في منطقة جميلة، مليئة بالاشجار والهدوء، لاخذ قهوة سريعة في مكان لطيف، قبل أن اكمل رحلتي عبر الزونين شتراسه.
كان الشارع بديعًا لدرجة لا تصدق في الربيع، باشجاره الوارفة وجمال ابنيته، ويمكنك ان تراقب ساحرًآ اختلاط لافتات المحلات العربية بحقيقة كونك في اوروبا، ولتفكر ساخرًا أنها منطقة محسوبة حتي الان علي الطبقة الوسطى- رغم ارتفاع اسعارها في السنين الاخيرة- وهي اكثر جمالا وسحرًا ونضافة من حالة مناطق النخبة في مصر الآن مثل المعادي أو الزمالك، وذات روح مدينية حقيقية اكثر من تلك “المجتمعات العمرانية المغلقة علي نفسها في اطراف القاهرة، خاصة بتلك الشوارع الجميلة الصغيرة التي تتفرع منه. رأيت حافي الشوارب وبعض المنقبات والمحجبات، مع بعض الالمانيات من الجيل الثاني اللاواتي كن يحملن هذا المزيج القاتل: الجمال الشرقي والبشرة الغربية، الدلال الذي اعرفه في الجنوب مترابطًا مع حسن الذوق الشمالي. اخبرني كافكا لاحقًا أن هناك رواية جميلة تحمل اسم “شارع زونين” وقامت احدى صديقاته بترجمتها، كنت فضوليًا لاعرف إن كانت الرواية تتناول الجالية العربية والتركية والكردية هناك، ولكن كافكا اخبرني أن الموضوع تاريخي وليس معاصرًا.
قرب المساء كنت انتظر صديقتي الالمانية امام محطة المترو، وكلمة المساء مخاتلة تمامًا، لأن الغروب في برلين الآن يكون في حوالي التاسعة والنصف مساءً تقريبًا. جائت برشاقتها واناقتها المعتادة، مضينا إلي حيث المعرض، واحد من حلقات معرض اشمل في طول العاصمة الالمانية وعرضها مخصص للمصممين، دخلنا إلي بناية كلاسيكية انيقة، وبدأنا في استعراض العديد من اللوحات.
سألت بينزي- فرانشيسكا- مديرة الجاليري التي لفت نظرها ولع مشترك ما بيني وبين الالمانية بلوحة ما، عن اسم الفنان، اجابتني بانه رسام وكاتب ومصور الماني يدعى توماس جرويتز، ثم مضت باحترافية لتسرد عن لوحات اخرى موجودة في المكان، كان القاسم المشترك بينها جنسية الفنانين الفلندية. قلت لها غير فاهم “اذن هو مهرجان للفنانين الاجانب؟” قالت لا، هذا الجزء هنا- واشارت الي صالات متسعة عبرناها من قبل- هو مخصص للمهرجان، هنا بقية الجاليري، وهذا معرض مقتنيات خاص، يمتلكه رجل اعمال فنلندي ثرى، ويخصص اغلبه لعرض اعمال الفنانين من بلاده.
كان رجل الاعمال الفنلندي، تيمو ميتينن، قد ابتاع هذا البيت بكامله قبل اربع سنوات، هذا البيت، ٣ شارع ماربورجر، هو واحد من مبان نادرة ظلت موجودة من قبل الحربين العالميتين، انشئ هذا المنزل في العام ١٨٩٦- تقريبا هو من نفس عمر بيت عائلتي الكبير- وكانت تمتلكه سيدة يهودية تركته للنرويج ابان الحرب العالمية الثانية، ثم رجعت لتستقر به حتى وفاتها، ثم ليبتاعه الثري الفنلندي الشقة الواسعة الفسيحة التي تقيم بها إلي صالون دالمان، بنفس اسم السيدة الاخير ، مسلما اياه للمهندس كارل فيلي، الذي اسعدني الحظ بوجوده في المعرض. تقودني اليه فرانزي وتقول له ان الاستاذ روائي مصري مهتم بسماع حكاية ترميم المنزل. منحني من وقته بكرم شديد، وظل يشرح لنا- انا والصديقة الالمانية- خطوات ترميم المكان، وكيف استعانوا بنفس المكونات الاصلية من منازل اخرى للحفاظ علي السمت التاريخي، ريما الاستثناء هو الحمامات، طبعا.
اللطيف في الامر أن الثري يجىء هنا للاستقرار اسبوع او اسبوعين كل صيف، بقية الشقة التي هي جاليري تعمل فقط في يوم السبت من كل اسبوع، وهناك باب يغلق ما بين الجزء الذي يقيم به الثري وما الجاليري، بل ويؤجر المكان كشقة للعطل الصيفية ايضًا، الف يورو كاملة في الاسبوع، واذا سألتني، فالمكان يستحق. ليس فقط لنظافته واناقته، بل لكمية الاعمال الفنية المتناثرة في كل ركن من الشقة.
نشكر المهندس ثم نمضي لنشرب شيئًا قبل آن نعود إلى المنزل، انظر في ساعتي، هي الحادية والنصف مساءً. افكر في ان اصدقائي في القاهرة، لو عرفوا انني ابدأ في النعاس في حوالي الحادية عشرة والنصف مساءً لفكروا جديا في عرضي علي طبيب أو ما شابه، ولكنها صباحات الفراولة المبكرة.
…………………………………….
نشرت في اخبار الادب بتاريخ ٢٧ يونيو ٢٠١٤