في ليلة من إحدى الليالي، قالت لي جدتي العجوز أن أحضر لها رطلا من اللحم بقيمة قرش صاغ.
حاولت أن أستوعب ما تقول، ولكنها اعتدلت فوق سريرها وأكملت بحسم:
"خليهم 4 رطل لحمة بأربعين قرش علشان سي إبراهيم، وجيب شوية تفاح على عنب على رمَّان وشكَّل براحتك قول بخمستاشر قرش، بصل وثوم وفلفل وخيار وخضار، قول بخمسة صاغ، وشوية جاز وبُن وسجاير كوتاريللي رفيَّع، قول سبعة صاغ، ورطلين سمن ورز وقوطة ودقيق وعيش بتلاتين صاغ، يبقى الإجمالي سبعة وتسعين قرش ويتبقى معاك تلات قروش.. تجيبهم وما تخنصرش.. فاهم؟".
كنت أقيم مع الجدة قبل وفاتها، وكانت تقيم معنا خالتي التي لم تتزوج بعد. جاءت الخالة ساعتها وأكدت لها أن حفيدها الطيب سوف ينزل حالا لإحضار الطلبات وأنه لن يغيب. رضا سي إبراهيم (جدِّي رحمه اللـه) هو الشيء الأهم بالطبع. شدتني من ذراعي وخرجت بي من الغرفة، ووراءنا الجدة التي جلست بهمَّة منتصبة الظهر، ومليئة بالحماس والنشاط.
"شوية وح تنسى.. انزل إنت بقى شوية".
"أروح فين؟".
"روح مطرح ما تروح يا أخي، لو سمعت صوتك ح تفضل تنادي عليك".
نزلت لأ تمشَّى بغير هدى، وصادفت صديقين أو ثلاثة، وفكرنا في أن نذهب للعب الكرة، نادينا على صديق ثالث، وفكرنا في رابع يمتلك كرة: جوافة. محمود جوافة، الذي تأكد اسم شهرته الذي يقاومه حين مر بائع الجوافة بعربته تحت باب البيت، وصدح بالنداء:
"أيوة يا جوافة"، لتبرز أمه من باب البلكونة هاتفة بحنق:
"عايزين إيه م الوله اللـه يقطعكوا..".
لم نجد جوافة، قال لنا أخوه الصغير إنه في مشوار. هكذا قتل موضوع لعب الكرة تماما. تسلَّينا بالبقاء قليلا على ناصية الشارع، وعندما رجعت للبيت، كانت جدتي قد ماتت.
بدا الأمر وكأنه تلبية لأمنية مؤكدة، فقد اتصل بها صديق لي سائلا عني، فقالت له أن يدعو لها، فسألها الصديق ببراءة عن مضمون الدعاء الذي سيكون مستجابا بعون اللـه، قالت:
"ادْعيلي ربنا ياخدني بقى".
بالفعل حدث ذلك، وعانى الصديق بعدها بقليل من أعراض الإسكيزوفرينيا.
هكذا وارى التراب جسد الجدة التي كانت تريد رطل اللحم، وعندما وقفت في العزاء لم أضحك على المقرئ، مثلما يحدث لي عادة، كل ما ملك تفكيري ساعتها، فيما أتذكر، أن الجدة العجوز قد أحكمت حسبة الجنيه فعلا، وأنها قد رحلت إلى لقاء ربها ظانة أني قد "خنصرت" الثلاثة قروش.
وبعد قليل من الحزن والصراخ، صارحتني خالتي سمية بأنها تريد الزواج من المهندس محمود الذي يقبع في محل لقطع غيار السيارات غير بعيد عنا، والذي أتي لدفع تكاليف "الدفنة" و"الخارجة" بشهامة لا يتورع عن إبرازها بوضوح لتلقي المديح، وبملامح قديس مضحٍ.
قالت لي الخالة إن الأسطى قال لها إنه لا يصح طبعا أن يقيم معهما شاب. كنت يتيما تقريبا: ماتت والدتي منذ أمد بعيد، وأبي كان يعيش في مدينة أخرى بعيدا. قال لها إنه يمكنني أن أذهب للمعيشة مع أبي. قالت لي إنها رفضت هذا تماما.
"أنت ابن بطني يا أحمد".
وهكذا قالتها مثل محسنة توفيق في ليالي الحلمية، وكنت أنا شاكرا، لأن فكرة الإقامة مع أبي لم تكن شيئا مبهرًا، كنت ابنًا ماتت أمه بعد شهور قليلة من ولادته، وبما أن كل الذكور الذين يتزوجون إناث هذه العائلة - فيما يبدو - يقيمون معهن، فقد اضطر أبي لمغادرة البيت بعد موت السيدة التي كانت أمي. كانت لي جدة للأب أيامها، ولكنها لم تستطع أن تراعيني، وفضلت خالتي وجدتي لأمي - كما فضل أبي كما تستطيع التخمين - أن فرع الأم هو الأوْلى برعايتي. لم أكن ابن بطنها إذا ما تكلمت عن اللحم والدم، ولكنني كنت فعلا ابن بطنها إذا ما فكرت في كل المعاني الأخرى.
قالت لي إنها اتصلت بالأب وأخبرته باحتمالية أن آتيَ له، الأب الذي لم يمانع ولم يتحمس، قال لها إنني يمكنني أن آتيَ وأقيم مع زوجته اللحيمة وأخواتي الاثنين. بالطبع لم أذهب.
مرت الأربعون يومًا وتزوجت خالتي بالباشمهندس، الذي كان سببا في كراهيتي للفنان صباح فخري وللأستاذ السياسي وحيد عبد المجيد، فقد كان يشبههما تماما، بنفس الأنف العجيب والشعر الخفيف المسرَّح للجانب، في محاولة متوسلة لقهر الصلع الذي تفشَّى. زاد على هذا بعض آثار الجديري التي أصابته قديمًا وجعلت وجهه محفرًا في غير موضع.
كانت الخالة مشغولة في فترة تاريخية امتدت لسنتين في طبخ الطواجن التي ترسلها لمكتب الباشمهندس، وكان هو مشغولا بمحاولة التزاوج - علي حد علمي وتخيلي - وبأن يجعل حياتي جحيمًا، ولم يبخل عليّ أبدًا بعباراته الحكيمة التي تبلورت حول بضعة مفاهيم اساسية، كما يمكنك أن تتفكر:
"الواد ده مش ح ينفع يطلع مهندس".
"الكسل اللي أنت فيه ده ح يودِّيك ف داهية".
"أنت حاطط كتب التسالي دي جوا كتاب الدراسات الاجتماعية وعامل نفسك بتذاكر وبتستغفلنا؟".
"خليك في مجلة سمير وميكي دي اللي ح تبوظلك دماغك".
"هو مين الواد أشرف ده؟ وأخته الكبيرة البيضا دي في كلية إيه؟".
"ما تجيب لي علبة روسمان".
حدث جديا أن فكرت في ترك المنزل، وحدث فعليا أن هاتفت أبي فحادثتني حبال صوتية لا أعرفها ولا تعرفني، وتصادف أن تجدني الخالة في شوارع منزوية هاربا، ولكن سرد كل هذا يبدو وكأنه قصة مأساوية مليودرامية وجان فالجان ستايل، لذا فسأرحمك مما يمكنني أن أسوِّد صفحات كثيرة به، وسأقول لك إن بعد السنتين، لم يخيِّب الباشمهندس أملي وكان نذلا، عندما ترك الخالة بسبب عقمها.
كانت تلك الأيام البعيدة هي السبب الذي جعلني مدينا لها للأبد، فقد كانت حسرة عمرها هي أسعد أخبار مراهقتي.
عندما برز من الفراغ أمام البائع، وطلب منه علبة سجائر من وراء خوذته السوداء اللامعة، بذلك الصوت الهادئ، لم يتمالك البائع نفسه ونظر له بدهشة، قبل أن يمد يده ليحضر له ما طلبه.
يعطيه النقود، ويتحرك ماشيا في الشارع، تجاه ما حسبه البائع دراجته النارية القابعة غير بعيد عن المتجر، ولا شك.
ولكن عبد اللـه، مرتدي الخوذة، كان يمشي في هدوء متقدما في الشارع، وهو لا يلوي على شيء.
هذه بالضبط نفس الفكرة التي انتابت كل من رآه في هذا اليوم، بلا شك هو يمضي لحيث الموتوسيكل، فيما عدا بعض من الناس، الذين أدركوا ما يحدث بحكم الظروف فحسب: العم إدريس البوَّاب، الذي بحكم معيشته في نفس العمارة، كان يعرف أن عبد اللـه لا يملك أي موتوسيكل، وقف مراقبا إياه وهو يمشي في الشارع واضعا يديه في جيوبه مصفرِّا، وماضيا في طريقه إلى آخر الشارع قبل أن ينحرف يمينا خارجا عن مدى بصره. يمكنك أن تضيف على هذا سيدة فضولية اهتمت بأن تراقب ذا الخوذة وهو يوقف تاكسيًا في أحد الشوارع، وهو لا يزال مرتديا خوذته، بعدما استمر في المشي لمسافة لا بأس بها وعبر بموتوسيكل مركون بجواره بالفعل.
ويمكنك إضافة سائق التاكسي نفسه، الذي وجد الشاب ذا الخوذة يشير إليه ويقول:
"المعادي؟".
وركب الشاب معه إلى حيث المعادي دون أن ينزع خوذته، حتى عندما أراد التدخين، فقد وضع السيجارة في فمه عبر الفتحة الكبيرة في مقدمتها، ساندا إياها على "حز" الفتحة، فانتصبت إلى أعلى بحكم انخفاض فم عبد اللـه عن الفتحة قليلا، وهي تصدر دخانا كثيفا.
كان خط سير عبد اللـه اعتباطيا للغاية، كان يتمشَّى قليلا فحسب، قبل أن تقفز إلى دماغه فكرة أن يزور صديقًا بعيدًا في المعادي، وعندما ذهب هناك لم يجده، فتمشَّى قليلا في الشوارع الهادئة، وداخله شيء من هدوء النفس، صحيح أنه لم يجعله ينزع الخوذة ليواجه العالم القاسي، ولكنه كان كافيا لجعله يسلم على المارة من حوله أحيانا بلطف، وبنبرة منتعشة فاجأته هو نفسه كما فاجأت المارة عادة.
وعندما رجع، كان العم إدريس قد قام بالواجب، فقد كانت هناك عربة ميني فان صغيرة ترقد بجوار البيت، وعندما اقترب عبد اللـه ليدخل البيت كان هناك ثلاثة من الرجال الأشداء يقفزون عليه، مكبلين إياه ومجرجرينه إلى حيث العربة. كان هذا قرار الأب رغم اعتراض الأم، فقد بلغ إدمان الفتى وعاداته الغريبة حدًا لا يمكن السكوت عليه.
وفي المصحة، قال لي عبد اللـه عن الضرب والسحل اللذين تعرض لهما - والذي اعتبره الاب من ضلالات الفتي - وكيف كان يعامل معاملة الكلاب.
هكذا لم يكن غريبًا في يوم، أن وجدت محمولي يدق بعد الواحدة بقليل، وعندما نظرت للشاشة وجدت اسم عبد اللـه.
"ألـ.."
"أنا هربان! أنا هربان! أنا هررررررررررررر (صوت خبطات متتابعة عجيبة) باااااااااااااااان".
كان عبد اللـه يكلمني من أمام المنزل، وكان يضرب براحته اليمنى الكبيرة على رأسه الأصلع، ويعوي في الطريق.
"اللـه يخرب بيتك استنى…".
وضعت بلوفرًا فوق البيجاما، خرجت إلى الصالة حيث الخالة، نظرت لي متحفزة وهي تقول:
"هو ده الواد الشمام ده تاني!".
"ماعلهش يا خالتي ده غلبان…".
انطلق صوتها في شراسة وبنبرة أوبرالية:
"لااا! باقولك إيه! ده شمَّام ومنحرف! ده يموِّتنا علشان يجيب الزفت اللي بياخده! إنت مجنون ولا إيه!".
ومن الخارج كان عبد اللـه لا يزال يصدح:
"أنا هربااااااااااااااااااااااااااان".
"يا خالتي بس هو ما لوش مكان دلوقت، تلاقيه هربان م المصحة!".
"وكمان هربان م المصحة! وإحنا ما لنا! أهله فين!".
"طيب طيب.. سيبك، أنا نازله".
تركتها ونزلت للشارع، بينما هي تقول من ورائي:
"وإنت إيه يلمَّك ع الأشكال دي؟ إوعَ تكون بتشم ياض إنت كمان…".
كانت ليلة ليلاء، كان هائجًا ومتعبًا في ذات الوقت، وكنت بالبيجاما والبلوفر، ولم تكن خالتي على استعداد لأن يبيت الليلة. اقتسمنا السجائر وكمنَّا في المدخل، فكرت بعدها أن أغيرِّ ملابسي ونمصي في طريقنا لأي مكان، ولكنه فجأة أمسك بذراعي وقد استحالت أصابعه إلى مخالب، وهتف بي:
"ما تسبنيش يا أحمد.. ما تسبنيش…".
"وأنت عامل إيه؟".
بدا لي السؤال غبيا فعلا وهو يجلس أمامي، في الشقة التي استأجرها حديثا بنقود أمه، ليجهز سطرا ليستنشقه. لم يكن سكوته عن سؤالي من باب الأدب والرفق، لأنني أظن أنه لم يسمعني من الأصل. سحب السطر بنشوة كبيرة، وتراجع مسندا ظهره إلى ظهر كرسيه وقد ابتدأت جفونه في الاضطراب. راقبته قليلا، وأنا أشرب من علبة البيرة الصفيحية في يدي، يفتح عينيه ويحك أنفه بظهر يده، قائلا في مرح:
"أخبار القصص السكس إيه يا ماو؟".
كان يعرف أنني أكتب القصص الجنسية، وبدا الأمر وكأنه إضافة لعادة عجيبة تملكتنا قديما: حين كنا نراجع معلومات بعضنا عن نجمات البورنو اللواتي شكلن جزءًا كبيرًا من أيامنا في خوالي الأيام. بدأ الموضوع حين وجدت صفحة الويكيبيديا المخصصة لنجمات البورنو، وقرأت فيها عن تلك الفتاة التي كنا نحبها أيامها. وجدت نفسي أتصل بعبد اللـه بعدها بساعة:
"أحاَّ يا عبد اللـه.. فاكر البت بتاعة الأفلام السكس اللي اسمها كلوي جونز!".
"آه".
"دي ماتت من أربع سنين!".
"آه".
"وكان عندها صرع من وهي 11 سنة! أحاَّ! إحنا كنا بنضرب عليها عشرة وهي بتشيل ف الأفلام وهي عندها صرع أساسا!"
"الدنيا وحشة يا ماو".
هكذا لم يقدر الاكتئاب الذي تملكني لمدة يوم كامل بسبب هذه الحقيقة، كانت الشائعات كثيرة عن موتها بفشل في وظائف الكبد، ولكن يقال -على عهدة دينيس ريتشاردز التي لا تقل جمالا عن نجمات البورنو- إن زوجها السابق شارلي شين هو من قتلها. لم يقدر عبد اللـه هذا التبحر الذي كنت فيه في تاريخ أفلام البورنو، وزمن الفن الجميل في السبعينيات، حيث كانت الأفلام الجنسية تصور سينمائيا قبل ابتذال أفلام الفيديو، كما عبرت شخصية بيرت رينولدز في فيلم بوجي نايتس بقرف. كانت الشخصية لمخرج أفلام جنسية يشعر بالعار لهذا السقوط الفني المريع.
كنت أفكر في هذا وأنا اشعر بأنني "يهودي يكره نفسه" على رأي جولدا مائير عن ناعوم تشومسكي، كان زمننا نحن الجميل هو زمن أفلام الفيديو، وليس أفلام السبعينيات التي قرأت عنها كمراجع أو شاهدت أفلام منها كنوادر، مثل فيلم دييب ثرووت التاريخي الذي مثلته ليندا لافلس "تحت التهديد" مثلما قالت بعد ذلك، قبل أن تتحول لمناضلة ضد أفلام البورنو.
لا يعرف عبد اللـه كل هذا، ولكنني كنت أقدر له عندما أسأله:
"فاكر البت ديفون؟".
"مش دي البت الشقرا أم بزاز كبيرة اللي كانت بتبص ف عين اللي بينيكها وتسبِّل؟".
ويستمر الحوار حول سيلفيا ساينت التشيكية الشقراء، وآريا جيوفاني فتاة البنت هاوس معبودة الجماهير، الأمريكية التي تبدو كالإيطاليات، وإيشا كارييرا الإنتاج الألماني الياباني المشترك، وبريانا بانكس الإنتاج البافاري الأمريكي المشترك، ولاني باربي الكندية التي أشيع أنها تضاجع أخاها، وجينا جايمسون، ملكة البورنو ونجمة أيام الفن الأصيل، إيطالية الأصل التي تبدو كالأيرلنديات، التي تحولت إلى كاتبة يتصدر كتابها "كيف تمارسين الجنس كنجمة بورنو" سوق المبيعات حسب النيويورك تايمز، وظهرت في العديد من من البرامج التليفزيونية والإذاعية، ابنة ضابط البوليس التي كانت ممثلة أفلام إباحية ثم نجمة إعلام، وبالطبع يتذكر لها الجيل فيلم شرطة المطافئ وسلسلة أفلام الجنس التفاعلي. المشهد المشهور في "برايفت بارتس" حينما يجعلها هارلد ستيرن تبلغ الذروة عن طريق الجلوس فوق بيك آب ضخم، بالطبع، مشهد السحاق مع جانين ليندمولدر، فاتنة ذات الأيام التسعينية، الأمريكية التي تبدو كهندية حمراء مهجَّنة مع جريجية، أو كشبيهة لليزا ماري بريسلي. ألهبت جانين مشاعر الجيل العاطفية لعقد كامل بعدما بدأت في أفلام سينمائية عادية في إيطاليا، لتتحول لأفلام البورنو في دور الأنثى العنيفة المتطلبة، والذي بدا حقيقيًا عندما ضربت زوجها الموسيقي في الواقع. ظهرت في "برايفت بارتس" أيضًا كتقدير لأحد أعلام سوق يدر على أمريكا 100 مليار دولار سنويا.
سافانا الأمريكية التي تبدو كأمريكية، والتي يقال إنها انتحرت بإطلاق النار على نفسها بعد حادث سير خلَّف أنفًا مكسورًا، صني ليون الهندية الكندية التي تبدو كهندية، ولكن من كوكب آخر، فخر الجيل، سيدة الاعمال والتي تشعر بالعار لتاريخها كنجمة بورنو.
وهكذا أيضا كان يتذكر ليا دا ميا، نجمة البورنو التشيكية التي كانت عضو فريق السباحة الأولمبي في بلدها، والتي ماتت، كشأن عدد كبير من نجمات البورنو، بورم في المخ وهي صغيرة.
"بس اللـه يرحمها كانت بتشيل من ورا بكفاءة".
يقولها عبد اللـه وهو يلف سيجارة حشيش "علشان يعلِّي" بعدما أخذ أربعة من سطور الكوكايين.
قبل أن تموت ليا، صنعت أختها موقعا إلكترونيا صارحت فيه المحبين بحقيقة مرض أختها، وعن احتياجها لتبرعات تكفي لتغطية ثمن العملية الباهظة الثمن، فقد كابرت أختها واستمرت في العمل كما يليق بالمحترفات حتى وهي في أوائل المرض، ولكنها بالفعل لا تستطيع العمل في لحظتها. الأمر المثير بالنسية لي أنني وجدت رسائل مليئة بالحب على هذا الموقع، من أناس مثلي ومثل عبد اللـه، قضوا بعض من الليالي والأيام ينظرون لجسد التشيكية المدهش، وقضوا أوطارهم وراء تلك الفكرة البعيدة أن يحوزوها في أسرتَّهم يوما ما. ترك لها أحدهم رسالة يبلغها أنه قد تبرع لها بمبلغ بسيط، وأنه شاكر جدا "لكل هذه المتعة التي منحته إياها".
العديد منهن متن ميتات تراجيدية، وهو الأمر المغري لأحدهم، من أولاد الوسخة، أن يقول إن بنات إبليس لاقين ما يستحقن، وابن الوسخة هذا جدير بمصير أحد نجوم البورنو من الأقزام: يقال إن غريرًا قد التهمه في كهف.
"بص، هو المهم إنك عارف تجيب فلوس من لسعة الدماغ دي".
يبدو لي مفارقا أن يتكلم عبد اللـه عن لسعة الدماغ، بينما هو متهدل هكذا في كرسيه.
تناولت "الجوينت" منه، وأخذت نفسين بعمق.
دخلت إلى حيث قادني علاء، وفوجئت أنه، وبجوار كمبيوتره المعتاد، كان قد رص أربعة كمبيوترات أخرى على طاولة كبيرة بطول الغرفة أمامي.
"هو ده علشان إيه يا لول؟".
وجدت نفسي أتساءل.
نظر إليَّ نظرة من يعرف أن الأمر سخيف، وانطلق كالعادة ليبرر الموضوع:
"فاكر حوار تحميل الطوابع؟".
"علي قناة اليو تيوب؟".
"آه" صمتّ للحظة ثم أكمل:
"آهو أنا جايب الأربعة دول يحملوا معايا..".
"هي نقلة طوب؟".
"لا يا عم دي فعلا بتساعد".
"طب ما أنت ممكن تظبَّط حاجة في الجهاز ده (أشرت لجهازه) بحيث يعمل الشغل كله.. بدل الصرف".
"يا عم مش صرف، كل واحد كلفني… هممممم.. كل كيسة 500 وكل شاشة 300، يعني 800 في 4 يبقى.. همممم… 3200 جنيه.. مش فلوس يعني!".
استرجعت ذكرى بعيدة، حين اقترضت منه ألفين من الجنيهات، وتكاسلت شهرا، فجعلها فضيحة لدي القاصي والداني، ولكنني لم أتوقف عند هذه الصغائر، فقلت:
"ما هو ممكن أقل من الفلوس دي، وكمان تبقى أسهل في جهاز واحد..".
"يا عم أنا اتجننت خلاص".
قالها لي بحسم، نظرت له، تابع:
"تشرب إيه؟".
"بيبسي!".
خرج إلى حيث الثلاجة، رجع بعلبة البيبسي، وجلس أمامي، ليلعب في وجنته مقشِّرا بشرة وهمية عنها.
كان اللول صديقي منذ سنوات بعيدة، كان مخرجًا في إحدى القنوات الخاصة، ولكن حدث ما حدث، واضطر للاستقالة، وبعد الاستقالة اضطر لبيع الشقة الواسعة التي ابتاعها في أحد الكومباوندات الفاخرة خارج المدينة، ولم يكن يسكن بها، ثم اضطر لبيع عربته أخيرًا. وها هو الآن يستمتع بشقته الصغيرة التي نجلس فيها، في اول شارع فيصل.
"بص، الفيلم ده لو اتعمل ح يكسر الدنيا".
هكذا قال بعدما أتم فرك وجنته، كنت أعلم عما يتحدث بالضبط: كانت فكرة قديمة في دماغه، عن شاب رومانسي يحب فتاة ما، ولكن الفتاة تصاب بمرض عضال، فيحدث الفراق لأنها لا يمكن أن تسمح لنفسها بأن يتعلق به وهي تموت.
"غادة الكاميليا يعني!".
هكذا قلت عندما قال لي الفكرة في أول مرة. نظر لي للحظة ثم قال:
"بالضبط.. بس من غير الأب".
"ماشي".
"هو الجو ده اللي بياكل معانا في مصر، إنت عارف".
والآن، يحادثني اللول عن ذات الفيلم، قضى وقتًا لا يستهان به في محاولة إنتاجه ولكن لا أمل حتى الآن.
"ربك كريم".
"لا بجد بقى.. السيناريو اللي كتبته حلو فعلا، وإنت عارف أنا ح اعمله إزاي!".
هو فعلا موهوب فيما أظن، وفيما ظن أساتذته في المعهد، ولكنهم، وفيما يبدو، قد منحوه هذا التدليل الزائد مبكرًا. قال لي مرة، بينما نحن نجلس على القهوة:
"أنت بقى تعرف ويليام شكسبير كان يقصد إيه في روميو وجولييت؟".
"إيه يا لول؟".
"إن جوز عيال هِبل ممكن يوقعوا الكبار ف بعض".
بالفعل، إن راجعت المسرحية، ستجد أن الموضوع كان اعتباطيا للغاية، يكاد روميو الصغير أن يقع في غرام بنت صغيرة أخرى قبل أن يقابل جولييت.
تابع بحماس:
"طب الملك لير؟".
"الحب وحش!".
"الديكتاتور لازم يفضل ديكتاتور، لو بطل ح يطلع دين أمه".
هكذا كان اللول يبهرني دائما بتفسيراته المختلفة، ومن أجل ذلك كنت دائما أحادثه لنجلس ونتحدث، خطر هذا في بالي، فسألته وأنا أجرع من البيبسي:
"طب بالمناسبة يا لول، أنت دايما بتقرا القصص بطريقة تانية، اشمعني غادة الكاميليا اللي غادة الكاميليا؟ طب تطلع هي ولية لبوة فعلا وبتبيعه، أو مثلا هو مش بيحبها بس عايز فلوسها؟".
نظر لي لثانية ثم قال:
"يا عم الناس هنا حمير، مش ح يفهموا اللي أنت بتقوله ده خالص".
"طيب".
"المهم أنا عايز أعمل برنامج الرقص الشرقي ده ونرفعه ع اليو تيوب، ح تيجي التصوير ولا لأ؟".
"طبعا.. بس قولي الترافيك عامل إيه؟".
"حلو، بعتولي النهاردة إيميل صحيح من جوجل، ما تبصلي عليه كده".
يذهب اللول إلى حيث الكمبيوتر بحماسة، يفتح لي الصفحة، ويتركها أمامي لأترجم له ما يريده سيد العالم الجديد منه
……………………………………………………..
حفل توقيع الرواية يوم السبت الموافق ١ فبراير ٢٠١٤، في جناح دار العين للنشر بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، سراي ٤.