في يوم من الأيام،
ذهبت إلى قهوة الحرية، قريبا جدًا من المكان الذي ولدت وعشت فيه في وسط مدينة
القاهرة، ووجدتها مغلقة.
كان هذا منذ سنة او
أكثر، وعلى الفيس بوك، كتب بعض الناس ان السبب في ذلك هي حكومة الاخوان المسلمين،
والهدف هو اغلاق آخر قهوة تقدم البيرة المثلجة في القاهرة، هذا التقليد الذي كان
منتشرا في كل انحاء القاهرة، مصحوبا باعلانات البيرة في الصحف وعلى واجهات البيوت،
قبل ان تطاردها حكومة ثورة 52 "العلمانية"، وتنهيها تماما اتساع مساحة
المحافظة والتدين، التي جاءت من قرويين لم يعتادوا على شوارع المدينة المليونية،
ولم يألفوا طرائقها، بل كانت لهم مصدر كل شر.
كانت هذه هي القهوة
التي كنت اجلس فيها مع حب حياتي الضائع، ومع نسوة اخريات، وعبرها عرفت كثيرا من
الاصدقاء الاجانب، وهي ذات القهوة التي كان جدي يجلس فيها، كما يقولون، مع إيزاك
"زكي" مراد، صديقه اليهودي العزيز
ووالد المغنية المصرية الشهيرة، ذات الصوت العذب، ليلى مراد. لم تكن الصورة
بهية جدًا ايضًا ايامها، فقد كان الشعب المصري يكتتب لشراء احذية للحفاة المنتشرين
في شوارع العاصمة، حتى لو اتسمت بطابع اوروبي عتيد، في جزءها الإسماعيلي، ولربما
كان بعضهم يعبر بميدان الأزهار-اسم ميدان باب اللوق حينها- لينظر لداخل الحرية
باستغراب ما، وربما بشوق.
هي ذات القهوة التي
تعود أن يجلس فيها صديقي العزيز واخي الاكبر-كما يحلو له أن يصف نفسه- بهاء طاهر،
ايام ما كان يعمل في الاذاعة المصرية قريبا من قهوة الحرية، في تلك الايام البعيدة
حين كان شابا، وقبل أن يهرب من نظام السادات إلى اوروبا، وكان يحلو لي أن اتخيل أن
جدي، النبيل المصري العجوز، قد شارك نفس المساحة المكانية والزمانية مع شاب ناصري
متحمس، كبر ليكون اديبا كبيرًا، وليصادق حفيد شارد لذات الرجل الستيني ايامها،
وشاءت الصدف أن يضرب بذات الولع: الأدب.
المهم، بعد قليل من
الوقت، فتحت الحرية ابوابها، وظهر انه الموضوع كان في التجديدات وضبط التراخيص،
وهنا تذكرت ان الحرية قد اغلقت ابوابها لفترة قبل ذلك ايضًا، في ايام حسني مبارك،
وكان لنفس السبب. وبعد ان فتحت ابوابها في المرة الأولى، كنت مستاءً لأنهم غيروا
المناضد القديمة من الرخام البلجيكي البديع (رغم تهالكه) ليضعوا مناضد رخيصة عليها
اعلانات لبيرة ستلا (البيرة الوطنية)، ولكنني اعترفت لنفسي بأن الكراسي الآن افضل.
لمحت لوحة عليها نجمة واحدة، وراء صاحب القهوة الربعة ذو العينين الحادتين: لقد
دخلت الحرية التصنيف السياحي.
وعندما جلست لأخذ
مشروبي من النادل ميلاد، الذي يتميز بقفا خنزيري، متضخم وبديع، نظرت ثانية لثقب
الرصاصة في اعلى احدى النوافذ، حين طارد الجيش الناس في الشوارع واطلق النيران
الحية هنا وهناك، وقلت لنفسي: سنغلبهم. لم اكن اقصد الجيش وحده، كنت اقصد الدولة
القديمة التي كانت تضع لنفسها قناع الاخوان هذه المرة. كنت اقول لنفسي سنغلب
الإخوان، لن يستطيعوا أن يغلقوا الحرية.
وبالفعل، منح الاخوان
ترخيصا للكباريهات-وليس فقط مقهى البيرة- بثلاث سنوات، واقيمت-للمرة الأولى منذ 52
على حد علمي- جنازة لعميدة الطائفة اليهودية، اضافة لاجراءات اخرى عديدة: لم يكن
الأمر للطافة عميقة يبديها الإخوان، بل بفعل ضغط كل فئات المجتمع عليهم، هذا الضغط
الذي انفجر في يوم الثلاثين من يونيو.
ولكن، وفي يوم أن
رسمت الطائرات المصرية المقاتلة قلوبا في السماء للمتظاهرين في ميدان التحرير، كنت
بجوار صديق عزيز لي، وبدت منه ملحوظة عن أن اليوم يبدو أكثر حرارة من ذي قبل،
قاطعنا عجوز عابر وقال "الجو زي الفل!". بدا، وبشكل عبثي تماما، أن اي
مساحة من الإختلاف قد لا تكون مقبولة بعد اليوم. الفاشية بالنسبة لي هي أن تكون في
حجرة مع خمسة من الافراد، وتقول رأيا سياسيا يخصك، فتجد اربعة منهم يهاجمونك بعنف
لإسكاتك، بينما يمكن أن يسكت الخامس، فتكتفي بأن تصمت في المرة القادمة أنت ايضًا.
في ايام الإخوان، ولو كنت في نفس الحجرة، فستجد أن الاربعة قد لا يتفقون معك
تماما، ولكنهم يسمعونك، وقد يصمت الخامس أيضًا.
هذه ليست، مجددا،
للطافة يبديها الإخوان، ففهمهم للديموقراطية لا يختلف كثيرًا جدًا عن حسني مبارك،
ولكن لأن المجتمع، كما ارادت ثورة يناير، كان يحتفي بالاختلاف، ببساطة لأن هناك
توازنات صنعها واقع مصر قبل 30 يونيو، الذي جاء هذه المرة في مديح الدولة القديمة،
في مديح الشرطة والجيش واجهزة المخابرات، في مديح الوحدة.
ومنذ ايام قليلة، ظهر
الجنرال السيسي، مرتديا بيونوشيه، بهذا الكاب والنظارة السوداء والزي العسكري،
وأمر الناس أن ينزلوا ليأمروه بـ"القضاء على الإرهاب". انت لم تقرأ
العبارة بشكل خاطئ، ففي مصر ، التي يبدو احيانا انها تمتلك منطقًا يخصها وحدها،
يمكن أن تقع مثل هذه الاشكالات المنطقية.
وبالفعل، لبى
"الشعب" الأمر، أو دعنا نستخدم لغة السيسي ونقول "الرجاء"،
ونزل باعداد غفيرة إلى الميادين، فيما نعرف انه كارت اخضر ليس للقضاء على الارهاب،
بل، وبشكل اكثر صراحة أو قسوة: القضاء على الإخوان. وفي ذات الليلة، فض الجيش
اعتصام القائد ابراهيم والارقام في الجرائد تتحدث عن ثمانية من القتلى، وجرت
اشتباكات في رابعة العدوية ادت لموت ما يقارب من الثمانية وثلاثين إلى مثة وعشرين
مدنيًا.
مناخ ارهابي مهدت له
عبارات واسلوب في التفكير لا يفرق عن جورج دبليو بوش، وحملة لتشويه من يقفون-او
سيقفون- بعيدًا عن الدولة: هم إما "خلايا نائمة" للإخوان (وهو تعبير
فاشي بديع)، أو عملاء للسي آي إيه، أو متهتكين، أو-وبشكل اكثر طرافة-قد يكونوا
عملاء لأجهزة الأمن المصرية ذاته. لي عمة متحمسة، من مؤيدي شفيق، تخانقت مع صديقة
عزيزة عليها عبر اسلاك التليفون لأنها ابدت شيء من الرحمة، أو من الموضوعية، ثم
جاء الاتهام الصارخ "انتِ اخوانية!".
في مصر قوتين
مهيمنتين، الاسلام السياسي والقومية، يبدو أن الاسلام السياسي قد فقد بريق كثير
حتى الآن، ولكن الخوف كل الخوف أن يستفيد من خطاب المظلومية، واعتراف جزء كبير من
المثقفين بانهم في صف "الفاشية العسكرية"، ليعودوا اقوى مما كان، وكما
كانت اجهزة الأمن "بالغة الذكاء" في تحميل الفاتورة كاملة للإخوان في كل
شيء منذ الخامس والعشرين من يناير، فقد نجد من يحمل الفاتورة كاملة للجيش
والمخابرات فيما بعد الثلاثين من يونيو، والاكثر طرافة، والمثير للشك في قوى
الدولة العقلية، أن تجد تسريبات من بعض المحسوبين عليها تؤيد تدخل الجيش لصنع
الثلاثين من يونيو. المواطن البسيط سينظر لرجوع المرافق العامة المعطلة من بنزين
وانقطاع متكرر للكهرباء للعمل بشكل منتظم، وسيفهمها بدوره. المؤامرة حقيقة في أرض
المؤامرات.
أما القومية، فهي
تبرز الآن في الخطاب شبه الناصري لثلاثين يونيو، وتشبيه السيسي بجمال عبد الناصر،
وهي تواجه تحديًا في العبور بالدولة المصرية من الفشل، أو، وبشكل يثير القلق، قد
تتجه للحكم بمبادئ الإسلام السياسي وليس بجماعاته، لتحصين نفسها بالنسر ذو الرأسين:
المادة الأولى في اعلان 30 يونيو الدستوري يقرر المادة 213 التي نزلت انا وغيري
للأعتراض عليها تحديدًا: حكم أهل السنة والجماعة. دولة البشير.
في مساء الثلاثين من
يونيو، عبر بقهوة "غزال" في وسط بلد المدينة العجوز، رجل مستهجن، نظر
لما حوله وقال بصوت عال "هما فرحانين على ايه؟! تقولش كسبنا كاس
العالم؟!". وعلى الناحية الأخرى، بعد الثلاثين بقليل وجدت مبادرتين لـ"
استكمال ثورة يناير" احداها برعاية أهداف سويف، في بريدي الاليكتروني.
وفي مثل هذه الأجواء،
التي يبدو أنها ستلازمنا لفترة طويلة، قد تجد اناسا آخرين، من فئة ثالثة، يكتفون
بالجلوس على قهوة الحرية، ليجرعوا البيرة، ويقولون تلك الكلمة الشهيرة، التي كانت
لازمة أنيس، بطل رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل": طظ.
........
...................................................................................
نشر هذا المقال في الرابع من اغسطس، 2013، بجريدة النهار
اللبنانية تحت عنوان "ثرثرة فوق النيل", يمكنك رؤية المقال هنا