كنت أتوقف بالتاكسي أمام جامع معروف، في آخر شارع الهرم، لتقديم واجب العزاء في والدة صديق عزيز، ولكنني فوجئت بضابط جيش يشير لنا بعدم التوقف أمام باب الجامع..
لم أفهم ولكن السائق استجاب، وأنزلني علي بعد خطوات قليلة من باب الجامع، وصمت الضابط وكأن هذه الخطوات هي التي ستصنع الفارق في حماية الجامع مثلا. استقبلني صديقي محييا، وسألته عن ضابط الجيش المتحمس، وعما إذا كانوا يتحسبون من هجمات إرهابية علي المساجد أم ماذا؟!
اعتذر لي الصديق، وبينما ندخل إلي صحن الجامع، أشار إلي فردين من البوليس الحربي يقفان أمام مدخل العزاء كالتماثيل الفرعونية وقال أن زوج أخته لواء بالقوات الجوية، وسيأتي مندوب من رئاسة الجمهورية ومن القوات الجوية وهذه هي “التشريفة” المخصصة لهما. لست مغرما بمراسم العزاء ولا بأفراد الجيش، ولكنني لم ألحظ مثل هذا في أي عزاء حضرته، ولو حتى من عائلة تنتمي للعسكريين من قبل.
عبرت ما بين التمثالين الفرعونيين واتخذث مكاني في العزاء وسلمت بأدب علي اللواء حين جاء محييا.
في ميدان التحرير، خلال الثمانية عشرة يوما الأولى ، لفت انتباهي ثلة من الناس تحمل صورة عبد الناصر، وتجلس في مربع صغير بالقرب من مطعم الوجبات السريعة الأمريكي الشهير. لفت هذا نظر أصدقاء آخرين، سواء من الليبراليين أو اليساريين، لم نآبه كثيرًا وبالطبع كان الحق في التعبير من أولوياتنا- وأظن أنه ما يزال- فلم نعلق كثيرًا غير ببعض المزاح الخفيف: لقد كانت هذه ثورة ضد ميراث الدولة العسكرية، وبعض من الناصريين المتحمسين يرفعون صورة بطريركها.
وعندما سمعت شعار “ارفع راسك فوق، انت مصري” رددته، ولكن جزء ما في عقلي لم يستطع أن يصمت عن مقارنته بشعار “ارفع رأسك يا اخي”، وعندما انفجرت ماسورة أغاني الستينيات الوطنية في الأيام القليلة التي أعقبت خلع مبارك، اتسع التوجس كثيرًا. وتابعت بعد ذلك قاموس المصطلحات المستخدمة، من “فلول” و”ثورة مضادة”، وحلول من قبل “المجلس الاستشاري” ومبدأ أن الجيش سيرجع إلي ثكناته بعد ستة أشهر، وحتي تقريب الإخوان المسلمين والاعتماد عليهم، حتي لفظ “خرفان” المستخدم في نقد الإخوان اكتشفت أنه استخدم علي غلاف مجلة مصرية في ٥٢، في كاريكاتور يمثل اللواء محمد نجيب- قائد الحركة المباركة أيامها- وهو يمسك بسيف كبير وأعداء الثورة راقدين علي بطونهم أمامه والمواطن البسيط يهيب به لكي يذبح “الخرفان”.
وقبل سنة ونصف، وفي فيديو على اليوتيوب يحمل عنوان “حقيقة ما يحدث”، تسمع مونولوج رشدي أباظة، الثائر الحق في أحد الأفلام المصرية متحدثا عن حريق القاهرة، تكتشف أن كل ما يقوله من ستين عاما هو ذاته ما يقال من النخبة المصرية وإعلامها بالحرف.
عندما تلتقط ذلك مبكرًا تصير في تأهب لاستقبال سيناريو ٥٤، وهذا بالفعل ما يحدث.
كنت أفهم أن صفوة النخبة المصرية تعترض علي مبارك من أجل النموذج الناصري بحذافيره، ليس من أجل بناء دولة ديموقراطية حرة، بل من أجل دولة قومية شمولية. هم لا تسؤهم الدولة، بل يسؤهم “تراخي قبضة الدولة.
بالطبع سيقولون أنه لا أحد يريد “الإجراءات الاستثنائية”٫ وأن الجميع مع “الحرية” و”الديموقراطية”، والنكتة أنه توجد أغنية تحمل اسم “ناصر يا حرية”، ولكن يمكنك القول، في نهاية المونولوج كنقطة تنوير مثالية، أن “الضرورات تبيح المحظورات”. الحقيقة أن مصر عاشت هذه “الظروف الاستثنائية” طول ٦٠ عامًا، واستعارة منهج التيار الديني هو مفارقة حقيقية لما يقولون أنهم يعارضونه. لهذا لم يكن هذا التوجه مفاجأة لي، مشكلتي هي أن الموضوع صار يتسع، حتي رأينا من يهتفون بسقوط حكم العسكر يرفعون صور البطريرك مرة آخري.
قلت في مقال منشور لي في موقع الموقف العربي الروسية، تحت اسم “حتي لا تحكمنا الجثث” في أكتوبر ٢٠١٢ عن النخبة
" ظنت هذه العفاريت، و "تلامذتها" من الأجيال الأحدث، إن هذه هي “ثورتها” وهي المدافعة عنها، بينما غاب عنها أن تجربة عبد الناصر-إن تأملناها جيدًا- كانت التطبيق الحقيقي لايدولوجية الإخوان التاريخية الممتدة في مجتمع يوحده تنظيم واحد ولكنه هذه المرة كان “الاتحاد القومي”-وهل كان هذا الاختيار الأولي للاسم اعتباطيا؟!- ثم “الاتحاد الاشتراكي”، أي أن الفروق في العمق الايدولوجي لكل منهما ليست بالكبيرة فعلا. لم تدرك هذه الأشباح العلمانية أو الدينية أن سقوط تجربة ناصر هو سقوط لطريقة تفكير كبرى في العقلية المصرية والعالمية تفترض التوحد القسري تحت “قيادة مستنيرة” من أجل “مجتمع أفضل” أو مثلا التوحد القسري تحت “إمامة مُلهمة” من أجل “دولة الخلافة”. هذا السقوط أعقبه انسلاخ وصل لذروته في يوم الحادي عشر من فبراير، لحظة سقوط الزعيم التي فشلت في منعها كلمات هزلية لعمر سليمان عن “أعراف وأخلاق المواطن المصري”. لقد تطورت الجماعة الثورية الفاعلة في الشعب عن تصور قديم مهترئ ومتهافت، لقد ودعت -ولو إلى حين- فكرة الظاهر بيبرس والمهدي المنتظر.”
وبالطبع فقد مضي هذا الحين، والآن فان أحاديث عديدة في القاهرة تتحدث عن السيسي باعتباره هذا البيبرس، وهو من ناحيته لم يأل جهدا، ففي الرابعة فجرًا تقريبا، وأنا أكسر حظر التجاول كعادتي في شوارع المدنية الفارغة، شاهدت جنود الجيش وهم يلصقون بوسترات فوق دباباتهم الرابضة في الشوارع ومطالع الكباري، تمثل السيسي بجوار عبد الناصر، وآخرى تمثله ضاحكا في بروفيل يقبع وراءه بروفيل آخر لأسد يزأر في محاكاة لبوستر فيلم “قلب الأسد” الذي يعرض في سينمات القاهرة المنهكة من حظر هو فرضه.
هل كان لهذه الدائرة المفرغة أن تنكسر؟ حسنًا: وضع المجتمع المصري تحت حكم الإخوان كان مبشرًا تماما، ولكنه لم يكن مثاليًا، مبشرًا لأنه وللمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث تقريبا تستلم سلطة يمينية الحكم وهي في موقف المعارضة: هي مكروهة من الأغلبية فعلا، وحتي من لا يكرهها تلك الكراهية الايدولوجية فهو بالتأكيد يتوجس منها. وساهمت هي بإعلانها الدستوري في حسم موقف الكثيرين ضدها، هذه الموجة العاتية من الكراهية أو الخوف أو التوجس جعلت المجتمع كله في موقف “المقاومة”، فمثلا-،بعيدا عن نظريات المؤامرة الأمنية التي يتيه بها البعض عشقًا- لفت نظر الجميع كمية الحرية في مسلسلات رمضان الماضي، سواء من ناحية الألفاظ المستخدمة أو المواضيع أوالأزياء، استضاف منتدى علمانيون الصديق حامد عبد الصمد ليقول كلمات جريئة عن رأيه في الدين الإسلامي، ضبط الشرطة متلبسة بسحل مواطن واحد وضربه بالعصيان كان فضيحة قومية.
لم يرتق المجتمع المصري كله فجأة، ولكن السبب في تأييد ذلك هي تلك الكراهية والخوف والتوجس العميق من الإخوان، وهذا ساعد بدوره علي وضع الإخوان في مقعد لا يختلف عن مقعد مبارك، وكان الأمل أنه باستمرار هذه المقاومة، فسوف تحفر نهرًا عميقًا في المجتمع، نهرًا عبده الاعتياد وإعادة التفكير في كل “الثوابت والرموز”، وهذا هو هدف ثورة يناير نفسها
وبالتالي، عندما يتولي الحكم سلطة يمينية آخرى، ترضي عنها الأغلبية، ليس من العجيب أن يبدأ المجتمع في الردة، بل ويدين ما يتعارض مع هذه المحافظة: فمثلا بدافع نقطة الضعف الحقيقية في عقلية ٣٠ يونيو، فالدولة هاهنا هي “الإسلام الصحيح” و”الوسطي” وأن الإخوان كانوا شططا دخيلا علي هذا الإسلام- برجاء ألا ننسى أن الأزهر بالفعل أكثر ظلامية من الإخوان إذا ما حسبنا الخطاب والفتاوي الرسمية- فبالتالي فإن العلمانيين والملحدين هم شطط آخر مقابل. وتصير مسلسلات رمضان “ابتذال” و”قباحة” و”تجاوز”. كنت أقول هذا لصديقي الشاعر المصري مينا ناجي، وكنت أستشهد ببعض “الخبراء الاستراتيجيين” الذي قال أن “أبناءه” من المصريين لا يمكن أن يكونوا ملحدين، بل انهم كانوا في تمرد الشباب، أو يهزلون، تقريبا..
وبينما أنا أتصفح الجرائد في يوم، وجدت في جريدة الوطن المصرية خبرًا عن إلقاء القبض علي طالب بمدينة الاسماعيلية بتهمة “الترويج للإلحاد” وهي تهمة لم نسمع عنها من قبل، والأطرف أن الإخوان لم يكونوا ليجرؤوا- في فترة حكمهم الأولى علي الأقل- أن يوجههوها لأحد
مثال تطبيقي بديع، حدث بعد كلامي مع مينا، فقد كان الناس يفرحون بنقد باسم يوسف لمرسي وللإخوان بكل التلميحات الجنسية وغير الجنسية الممكنة، ولكنه، وبعد ثلاثين يونيو يصير ذلك مثله مثل مسلسلات رمضان، ورغم أن الرجل انتقد السيسي بشكل هامس، ولم يسخر منه بل من مريديه-وهو في حد ذاته تراجع- فإن سيوف الانتقاد انهالت عليه بلا رحمة، بل وأصدر رجل الأعمال المصري محمد الأمين-مالك قنوات سي بي سي المنتجة للبرنامج- بيانا يحتوي أكثر التراكيب إثارة للسخرية : “ثوابت المشاعر الوطنية”. هكذا فلم تختف ثوابت لطالما اغتالت الناس سواء فعليا أو شخصيا، بل انضم إليها ثابت آخر سوف يحار المترجم حين ينقله إلى لغة أجنبية.
وعلي مستوى آخر، فحتي في الموسيقى هناك ما يشبه الردة، لحن “تسلم الأيادي” مثلا-إذا ما اتفقنا علي كلمة لحن من البداية- هو يمثل عودة إلي ما يسميه الموسيقيون المصريون “الرتم الفلاحي”، هذه الأهازيج التي كانت تصدح في مصر في الستينات والخمسينات. عمرو دياب في ألبومه الجديد، وكليبه الجديد، لم يفعل شيئًا سوى إعادة تدوير بداية الألفينات، والمثير للعجب أن كلا المثالين لهما شعبية واسعة.
وعلي صعيد آخر، كنا ننقد الجزيرة لأنها حولت القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني علمانية إلي “انتفاضة الأقصى”، والآن أرى أبواق السلطة التي تساندها النخبة تصف نصر أكتوبر بوصفه “نصرًآ إسلاميًا”. وهذا قليل من كثير يضيق عنه البيان.
هل هذا يعني أن ما حدث في الثالث من يوليو كان خاطئًا؟! الحقيقة أن خلع مرسي من الحكم كان مطلب قطاع عريض من الشعب وأنا منهم، ولكن الخطأ الكبير في استئثار الجيش بالسلطة عبر زي مموه ذي سلطات واسعة عوضا عن رئيس شرفي، ومنع الثورة من مقعد رئيس الوزراء بعد تأخر تكتيكي خبيث لجمع مساندة الثوريين، خلافا لتفاهم نشرته المصري اليوم قبل خلع مرسي بأيام معدودة٫الإعلان الصريح للفاشية عبر التفويض وما تبعه. هو ليس خطأ كبيرًا فحسب بل هو، إن شئت الدقة، أشبه بثورة مضادة متكاملة.
كسر اللعبة الديموقراطية وآلياتها له أخطار عميقة علي البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية، وإن كسرتها بلا تطوير حقيقي في البنية الدستورية والقانونية- وما يقال عن الدستور المصري الجديد والقوانين المصرية الجديدة لا تسر-فأنت تسير بهذا المجتمع إلى الأسوأ، مهما حاولت أبواق الدعاية وأقنعتنا بغير ذلك في الأيام والسنين القادمة. والحديث عن “ام الدنيا اللي ح تبقي آد الدنيا”، دون أن نفهم ما هيه “قد الدنيا” ولا وحدة قياسها.
كنت أشكو هذا لصديق بينما نحن جالسين في منطقة شعبية صاخبة، سمعني وأنا أسأله ما الحل في الفترة القادمة، ليرد علي باستهانة “اهي هي كده.. يتضربوا، ينزلوا، يكمنوا، يعلو.. علشان يتضربوا تاني وينزلوا تاني و ويكمنوا تاني”.
لا أعلم لم تذكرت سخرية موسي ديان من أن “يمكننا هزيمة المصريين ثلاث مرات بنفس الخطة”، لأقول لنفسي ساخرا هي المرة بعد القادمة إذن
نشر علي موقع قل. يمكنك رؤية المقال الاصلي هنا
No comments:
Post a Comment