رائعة بهاء طاهر
بالأمس حلمت بك
(1983- 2008)
....................................................................
أذهب إلى العمل في الصباح، وأعود في المساء للبيت.
يحدث هذا خمسة أيام في الأسبوع، يحدث هذا في مدينة أجنبية في الشمال. حين أنزل في الصباح، كثيرًا ما أجد على محطة الأتوبيس فتاة شقراء في خدها طابع الحسن، بمجرد أن تراني قادمًا من بعيد تحول وجهها للناحية الأخرى. لا تنظر في وجهي أبدًا مهما طال وقوفنا.
وعندما أعود إلى البيت في المساء، أفتح التليفزيون وأغلقه وأفتح الراديو وأغلقه وأتجوّل قليلاً في الشقة الخالية. أعدل أوضاع الصور على الحائط والكتب في الأرفف، أغسل صحونًا، أكلم نفسي في المرآة قليلاً. يتقدم الليل.
وفي معظم الليالي يكلمني في التليفون صديقي كمال الذي يسكن في مدينة أخرى. يسألني: هل هناك أخبار؟ أقول: ليست هناك أخبار. فيشكو أحواله قليلاً وأشكو أحوالي قليلاً، وأخيرًا يتنهد ويقول: ربما أطلبك غدًا.
بعد فترة أنام، غالبًا ما يحدث هذا وأنا أقرأ.
في هذا الأسبوع أهداني فتحي، زميلي في العمل، كتابًا عن الصوفية. كنّا قلّة من العرب نعمل في مؤسسة عربية في هذه المدينة، ولكن رئيس المؤسسة ومعظم العاملين فيها كانوا من الأجانب. في هذه الظروف أحب فتحي الصوفية. ولما كنت عائدًا إلى البيت في المساء، بدأت أقرأ الكتاب في الأتوبيس. قرأت قليلاً إلى أن قال الكاتب: إن الروح تغادر الجسد في بعض الأحيان، وتقوم ببعض الجولات. يحدث ذلك بالليل في أثناء النوم وإن لم يكُن شرطًا. تلتقي الروح أحيانًا بأرواح شريرة وأحيانًا بأرواح طيبة، يحدث اتصال.
شعرت بالخوف وأغلقت الكتاب.
سألني جاري في الأتوبيس: ما هذه اللغة؟ وعرفت أنه غريب مثلي لأن أهل هذا البلد لا يكلمون أحدًا. وعندما رددت عليه، قال: لغة طريفة. معظم الحروف تكتب تحت الأسطر. قلت له: إنني لا أفهم. فأمسك الكتاب وفتحه وأشار إلى الراء والواو والزاي وإلى الميم والعين والحاء في أواخر الكلمات. أشرت بانتصار إلى الألف والباء والدال والطاء. قال: ولكن عندما تنظر إلى الصفحة تلاحظ أن معظم الحروف تحت السطر. سألته عن معنى ذلك، فقلب كفيه.
عندما وصلت إلى البيت، طلبني كمال في التليفون مبكرًا وسألني عن الأخبار. قلت له عن الجولات التي تقوم بها الروح وإن معظم الحروف تكتب تحت السطر. سكت قليلاً ثم سألني: الجو بارد عندكم؟ قلت: نعم. فقال: عندنا يسقط الثلج. ثم سألني فجأة: كيف تتجول الروح؟ أين تذهب؟ قلت: لا أعرف، وفي الغالب لن أقرأ الكتاب. قال: هل يمكن إذن أن ترسله لي بالبريد؟ فوعدته أن أفعل ذلك.
في الصباح ذهبت إلى العمل. كنت سريعًا ونشيطًا لأقاوم البرد. ولكن في محطة الأتوبيس كانت الشقراء هناك، وحولت وجهها. دهشت من نفسي لأنني أهتم بذلك ، وقلت ملعون أبوها.
كان كتاب الأرواح معي لكي أرسله بالبريد. ولما ركبت الأوتوبيس قلت لنفسي إنه ربما كانت المسألة عادية، وربما يجب أن أقرأ صفحة أو صفحتين لأعرف كيف تتجول الروح، وماذا تفعل. ولكنني قاومت ذلك. وبينما كنت في الأتوبيس بدأ الثلج فجأة. سقط في البداية مثل قصاصات عشوائية متطايرة من الورق الأبيض، ثم أصبح غزيرًا وكثيفًا وغلف العالم خارج الأتوبيس بستارة متحركة من نمنمة بيضاء بلا نهاية. برغم ذلك نزلت في محطة مكتب البريد. وضعت الكتاب تحت معطفي حتى لا يبتلّ وجريت حتى المكتب، ولكن في خطوات محسوبة لكي لا تنزلق قدمي في الثلج الناعم. وقبل أن أدخل المكتب توقفت لأنفض الثلج عن شعري وعن معطفي. اصطدم بي شخص من الخلف. التفتّ، وكانت هي فتاة المحطة. التقت نظراتنا لثوان وتمتمنا في نفس الوقت بالاعتذار، ثم تخطتني واندفعت إلى المكتب. وقفت في طابور قصير أمام شباك تسجيل الرسائل الذي لم يفتح بعد، وعندما فتح الشباك رأيتها تجلس خلفه بعد أن خلعت جاكتتها الصوفية. كان شعرها الأصفر مقصوصًا حتى رقبتها ومفروقًا في الوسط تتدلى منه خصلة مصففة بعرض الجبين، وكان ذلك وطابع الحسن في خدها يعطيان وجهها المستدير الجميل شيئًا من الطفولة. وجاء دوري فسلمتها الكتاب. وتطلعت لثوانٍ بدهشة إلى غلافه بزخرفته المذهّبة ثم تجمدت ملامحها مرة أخرى على عادة أهل البلد حين يعملون. وضعت الكتاب على ميزان وقالت لي عن الثمن. لم تنظر في وجهي.
كان الثلج ما زال غزيرًا عندما خرجت. فرَش الأرصفة بالفعل وكسَا أسقف السيارات الملونة التي كانت تسير ببطء بغشاء موحد رقيق. لم تكن معي مظلتي فوقفت أحتمي من الثلج في مدخل مكتب البريد. بدأت أقلق لأنني تأخرت عن موعد العمل، ولكن لم يكن هناك ما أستطيع عمله في هذا الجو. جاء عبر الطريق رجل يعدو ووقف إلى جانبي وهو يلهث وراح ينفض الثلج عن ثيابه، وحين انتهى وضع يديه في جيبي معطفه، وأخذ يزفر الهواء دخانًا من فمه وأنفه. كانت السيارات تمر أمامنا بطيئة ترسم إطاراتها شريطًا أسود منقوشًا وسط الثلج في أسفلت الطريق، فاندفع الرجل ورفع إبهامه لعدة سيارات لكن أحدًا لم ينظر إليه. رجع إلى المدخل وقد تكوم عليه ثلج جديد ثم نظر إليّ بشيء من الغضب، وقال: أنت أجنبي، أليس كذلك؟ هززت رأسي، فقال: عندكم أوغاد بهذا الشكل؟ لا يتوقفون حتى مع هذا الثلج؟ قلت: عندنا شمس. سألني: وما الذي جاء بك إلى هنا؟ أشرت بإصبعي إلى السماء، فضحك.
في المكتب قال لي رئيسي الأجنبي وهو يلوح بيديه (شوية.. شوية). وكان يعتقد أن هذا يعني بالعربية أنني جئت متأخرًا. قلت إن هناك ظروفًا تحدث. ولكنه كان سعيدًا لأنه تكلم بالعربية ولأنني فهمت. سألني عن صحتي، هل هي جيدة؟ فقلت: نعم. وعندما قابلت فتحي سألني إن كنت قد قرأت في الكتاب، قلت: لا. هز رأسه في حزن وقال: خسارة، روحك شفافة. ثم دفع سبابته في صدري وقال: يمكن أن ينبت بستان في صدرك. قلت له: إن صدري مثقل بما فيه الكفاية. فقال: في هذه التربة ينبت البستان. دفعت سبابتي في صدره وقلت: يكفي بستان واحد في المكتب. وانصرفت عنه.
في المساء عدت إلى البيت.
كان الثلج على الرصيفين عاليًا يمتدّ بساطًا ناعمًا ولامعًا على جانبي الطريق الأسود المغسول، وكان يصنع من أغصان الأشجار العارية من الأوراق ثعابين بيضاء متعرجة، وينقط أوراق الأشجار القليلة التي تحتفظ بخضرتها بزهور منيرة. كان هناك الدفء الذي يعقب الثلج وسكون. في البيت لم أفتح التليفزيون. نظرت من النافذة وكان الثلج في كل مكان، والسيارات المحاذية للرصيف قببًا بيضاء بلا معالم. كان صمت وحزن، فجلست أتأمل حالي.
عندما طلبني كمال في التليفون قلت له: إن الثلج قد وصل. فقال لي إن هناك ثلجًا يغمر روحه. سألته عن السبب، فقال إنه اكتشف أنه مرت عليه عشر سنين وهو يعمل في بنوك هذه البلدة، وقد تزوج واحدةً من البلد طيبة وجميلة، وحصل على الجنسية فيها والناس تحسده لذلك، ولكنه تعيس جدّا. سألته مرّةً أخرى عن السبب، فقال: أليس عمل البنوك نوعًا من الربا؟ هناك شيء قلق في ضميري. قلت له ألاّ يهتم وأنني أرسلت له الكتاب في البريد، وإذا كانت روحه شفافة فسينبت له بستان في صدره. ضحك وقال: حرارتي مرتفعة لأنني تعرضت للبرد وأكلت زبدة بالثوم، وأظن أن روحي الآن كثيفة. قلت له: خذ حبة أسبرين ونم.
في الصباح لم أذهب إلى العمل.
كان ذلك يوم السبت، لكنني صحوت في نفس الموعد كأيام العمل وأخذت وأنا في الفراش أرتّب في ذهني الأشياء التي سأفعلها. سأشتري خبزًا وأكلاً يكفيني بقية أيام الأسبوع. سآخذ ثيابي للمغسلة. في المساء سأذهب إلى السينما. قبل ذلك سأكلم (كمال) في التليفون لأسأل عن صحته، ولأقول له: إنني لن أكون في البيت هذا المساء. وعندما استقر رأيي على ذلك نهضت من الفراش.
نظرت من النافذة وكان الثلج كما هو، لكنه فقد بريقه. ووسط الرصيف كان هناك ممر موحل منقوش بآثار الأقدام يشق الثلج المتصلب، وتحت الرصيف كانت أكوام أخرى من ثلج موحل كسحها الكناسون في الليل من وسط الطريق، وقدرت من طريقة لبس المارة القليلين ومشيتهم برؤوس محنية وأيديهم في جيوب معاطفهم أن البرد شديد.
تدثرت جيدًا قبل أن أنزل، ولكنني كنت أعرف أنه لا علاج لأهم شيء: الأنف والأذنين. أحيانًا أرفع الكوفية حتى أنفي لكنني أشعر باختناق وأشعر أيضًا بالبرد في رقبتي. في الظروف العادية يفيد المشي السريع أو الجري، ولكن هذا مستحيل مع وجود الثلج على الأرصفة. بالرغم من ذلك كان لا بد من النزول، ففوضت أمري إلى الله. ومن قبيل الاحتياط لبست جوربين ثقيلين. قررت أن أبدأ بالمغسلة فحملت ثيابي في كيس ونزلت.
كانت تلك المغسلة محلاّ للخدمة الذاتية، وفيها حوالى عشر غسالات. وفي المحل موظفة واحدة تراقب سير الأمور وتبيع الصابون في أكواب لمن ليس لديه. وعندما دخلت كانت كل الغسالات مشغولة، وهناك سيدة عجوز من أهل البلد تجلس منتظرة على كرسي وإلى جوارها كيس ثيابها. جلست أيضًا على مقعد خالٍ أنتظر، ولكن تيارًا خبيثًا كان يتسرب من الفتحة الرفيعة بين ضلفتي الباب الزجاجي، فقمت وأخذت أتجول بين الغسالات. رحت أنظر إلى عيونها الزجاجية الدائرية محاولاً أن أفهم من طريقة خض الثياب ودرجة نظافتها أيها أوشكت أن تفرغ. من مكاني سمعت السيدة العجوز تقول بصوت حاد: سآخذ أول غسالة تنتهي. لم أنظر إليها وواصلت تجولي بحثًا عن الدفء.
دخلت لفحة من الهواء البارد ودخل معها رجلان إفريقيان يحمل أحدهما كيسًا مملوءًا بالثياب والآخر كيسًا فارغًا. كانا يتكلمان لغتهما ويضحكان. توجها إلى إحدى الغسالات وكانت قد توقفت عن العمل بالفعل فأدار أحدهما زرار التجفيف ووقفا ينتظران.
مرة أخرى قالت السيدة العجوز بصوتها الحاد المرتفع: سآخذ أول غسالة تنتهي. كانت نحيلة طويلة الرقبة، لها عينان ملونتان خاملتان، حدقتاهما رماديتان في جوف كل منهما دائرة كستنائية. وكان وجهها المعروق يلمع كأنه مدهون بالزيت.
التفت إليها الإفريقي الذي يحمل الكيس الملآن وقال لها بلهجة رقيقة: حضرت هنا مع صديقي من قبلك يا مدام. واتفقت مع الآنسة أن آخذ غسالة عندما ينتهي هو. قال هذا وأشار للفتاة التي كانت تجلس إلى منضدة صغيرة، فهزت رأسها تؤمن على ما قال.
وقفت السيدة وتحركت نحو الفتاة وقد اتسعت عيناها واحتقن وجهها، وقالت: ما معنى هذا؟ أنتظر كل هذا الوقت ثم يأتي من يأخذ دوري، وزنجي أيضًا؟
احمرّت عينا الإفريقي وتقدم منها خطوة وهو يقول بصوت خفيض:
- ماذا تقصدين بذلك؟
تراجعت خطوة وقالت: في هذا البلد نحن نحترم النظام، لسنا كالبلاد التي...
قاطعها وهو لا يزال يقترب منها: لا يعنيني نظامك ولا بلدك، ماذا قلت؟
تراجعت خطوة أخرى وهي تقول: ماذا قلت؟ ألست بالفعل زنجيّا؟
قال وقد أصبح وجهه في وجهها: بلى، وأنا فخور بذلك، فقولي لي ماذا تقصدين؟ قالت لك الآنسة إنني جئت قبلك، فما دخل زنجيتي بذلك؟ قولي ماذا تقصدين؟
جلست مكانها فجأة وقالت بصوت يكاد لا يسمع: لا شيء.
فجأة مال الإفريقي بجذعه إلى الخلف وأخذ يقهقه وهو يقول: إذن فأنت لا ينقصك الأدب وحده، ولكن الشجاعة أيضًا. الأدب والشجاعة...
جذبه صديقه من يده وهو لا يزال يقهقه، وأخذا مرّةً أخرى يتكلمان ويضحكان، فانفجرت العجوز مكلمة لا أحد.
- وعلى العموم، فأنا لا أحب أن أستعمل هذه الغسالة!
قال الإفريقي الذي كان يجمع ثيابه من الغسالة ويضعها في كيسه متظاهرًا أنه يبكي: يا للأسف... سأحزن جدّا لذلك.
نظرت السيدة للفتاة التي تجلس خلف المنضدة وقالت لها: أرأيت؟
قالت الفتاة وهي تتطلع للسقف: لا شأن لي بذلك.
التفتت العجوز تبحث عن شخص آخر تكلمه، لكنها لم تجد سواي فأدارت وجهها نحو الباب الزجاجي وهي تتمتم وتهز رأسها: ماذا جرى لهذا البلد؟ ماذا جرى لهذا البلد؟
بعد أن انتهيت من غسل ثيابي، خرجت متجهًا إلى المتجر لأشتري أشياء الأسبوع. كان وجهي ملتهبًا عندما خرجت من المغسلة، ومضت مدة قبل أن أشعر بالبرد وأضطر إلى ربط الكوفية حول أنفي.
وفي المتجر، بينما كنت أجمع علب الصلصة والشاي والسكر، قابلت فتاة مكتب البريد. كانت تدفع أمامها عربةً فيها باقة ورد وعلب صابون وخضراوات. ولما التقينا تطلعت إليّ وعلى فمها ابتسامة مترددة، فأدرت وجهي.
في البيت طلبت (كمال) في التليفون. سألته عن صحته فقال إن الحرارة هبطت ولكنه ما زال يشعر بدوار. سألته إن كان الكتاب قد وصله فقال إنه تسلمه الآن وسيعيده إليّ بعد أن يقرأه. قلت له: إنني لا أحتاج إلى الكتاب ولا إلى أي أرواح طيبة أو شريرة، ويكفي أشرار البشر. حكيت له ما دار في المغسلة، وكنت منفعلاً بعض الشيء، لكنه رد بهدوء وقال: ما أهمية ذلك؟ أنا أعيش هنا من سنين وأعرف كيف ينظر أهل البلد إلى الأجانب، لكنني لا أهتم بذلك أبدًا. أعتبر أنني أعيش في صحراء وأن شقتي خيمة. خارج العمل لا أتعامل مع أحد أبدًا ولا أعُدّ أن هناك بشرًا. هذا هو الحل المثالى معهم، وليست هذه هي المشكلة.. سألته: إذن فما المشكلة؟ فقال: نحن. المشكلة في داخلنا، لكني لا أعرفها. أبحث عنها طول الوقت، لكني لا أعرفها. هل تعرف في تفسير الأحلام؟ قلت: أجرّب. قال: بالأمس حلمت أنني قابلت معاوية بن أبي سفيان، وأنني كنت أتوسط عنده للصلح مع سيدنا الحسين، فغضب معاوية، وقال: ضعوه في السجن مع طه حسين. لكنني استطعت أن أهرب وركبت (تاكسي) فوجدت نفسي في ميدان العتبة. قلت لكمال: إن الخلاف كان مع يزيد وليس مع معاوية. فقال لي بشيء من الغضب: أهو حلم أم حصة تاريخ؟ ماذا تفهم منه؟ فكرت، لكنني لم أفهم شيئًا. قلت له: ماذا كنت تفعل قبل الحلم؟ قال: كنت أتمرن على الآلة الكاتبة الإفرنجية.
قلت: هل يلزم هذا لعملك؟ قال: لا، ولكنه شيء مفيد. قلت له: إنني لا أستطيع أن أفسر الحلم. فقال: لا يهم، هل عندك أخبار؟ قلت: لا.
في المساء، ذهبت إلى السينما. كان الفيلم لاترافياتا. وقفت في المدخل أنتظر خروج الحفلة وأحتمي بدفء الزحام. كنت أتفرج على صور الفيلم. أرى كيف تصوَّر المخرج غادة الكاميليا. وكانت كما أحلم بها، نحيلة، جميلة، ذات عينين سوداوين واسعتين. سمعت صوتًا من خلفي: هل تسمح؟ التفتّ وكانت هي مرة أخرى بطابع الحسن في خدها. كانت تمسك سيجارة وتقرّبها من فمها، وقالت: هل تسمح بأن تشعل لي السيجارة؟ كانت تلبس بلوزة بيضاء من الصوف الثقيل عالية الرقبة وبنطلونًا. وبدا وجهها الخالى من المساحيق متوردًا جدًّا ومرتبكًا. كانت طفلة أكثر من أيّ وقت، وبدا لي غريبًا أنها تمسك سيجارة. ابتسمت لها وأنا أخرج الولاعة، فقالت: يبدو أننا نلتقي في كل مكان. قلت: المدينة صغيرة. قالت: اسمي آن ماري. قلت لها عن اسمي. ابتسمت وهي تحرك السيجارة بين أصابعها بسرعة. وقالت: قررت أن أواجهك. قلت لها بدهشة: هل نحن في حرب؟ فقالت: لا، لا تهتم. هل ستدخل الفيلم؟ قلت: نعم. قالت: تحب لاترافياتا؟: قلت: اعتدت أن أسمعها في أوبرا القاهرة. سألت: في القاهرة أوبرا؟ قلت: كان. استمرت تحرك السيجارة بين أصابعها في عصبية، ثم قالت: هل لديك مانع أن نتكلم قليلاً بعد الفيلم؟ قلت: سأكون هنا.
بعد الفيلم كانت موسيقى فيردي تملؤني وذلك الحزن الرقيق الذي عرفته من أول مرة قرأت فيها غادة الكاميليا، والذي يعاودني كلما شاهدت قصتها. وكانت مع آن ماري إحدى صديقاتها عندما خرجت من الفيلم. عرّفتني بها فتطلعت إليّ بفضول، ثم صافحتني وانصرفت. سرنا في الطريق البارد الذي كاد يصبح خاليًا بعد أن تفرق الخارجون من الفيلم. وكانت غادة الكاميليا لا تزال تملؤني.
قالت: تبدو حزينًا.
قلت: نعم.
فقالت: وأنا أيضًا. تذكرت بيتًا من الشعر يقوله هاملت عن الممثل الذي يبكي على مأساة بطلته: من تكون له، ومن يكون لها، حتى يبكي عليها؟ ثم راحت تهز رأسها وتقول: من تكون غادة الكاميليا لنا، ومن نكون لها، حتى نحزن عليها كل هذا الحزن؟!
قلت: أكثر حقيقية من الناس الحقيقيين.
وإلبني البرد فسألتها: هل تقصدين مكانًا محددًا؟
قالت: لا.
فجلسنا في أقرب مقهى.
كنا نجلس متقابلين إلى منضدة صغيرة وأمامنا كوبا الشاي الساخن، فقلت لها وأنا أبتسم: ها أنت ذي تواجهينني، فما المسألة؟
ابتسمت هي أيضًا وقالت: كان الأمر يحتاج إلى شيء من الشجاعة، هذا كل شيء. لم أتعود أن أتكلم إلى الأجانب. ثم أضافت بسرعة: أقصد الأشخاص الذين لا أعرفهم.
ضحكت ضحكة صغيرة، وقلت: أنا لست خجلاً لأني أجنبي.
فانحنت على كوب الشاي وقد احمرّ وجهها وقالت: بالطبع.. بالطبع.. ولماذا تخجل؟ ثم رفعت رأسها ونظرت إليّ وازداد وجهها احمرارًا وهي تقول: أرجوك ألا تسيء فهمي. كان أبي قسًّا بروتستانتيًّا، وقد علمنا أن نحب المسيح وأن نحب كل الناس في المسيح.. أنا لست كالآخرين.
قلت: هذا واضح. ولكن ألا تهتمين قليلاً لأن هؤلاء الزبائن يراقبونك وأنت تجلسين مع رجل أجنبي، ورجل ملون أيضًا؟
قالت وهي لا تزال تثبت عينيها الزرقاوين في وجهي:
- مطلقًا..
ثم أضافت بصوت خافت: وهذا ما يحيرني.
- ما هو؟
- شيء يحدث. لا أستطيع أن أصفه. ربما تستطيع أن تساعدني.
سكت وبدأت أرشف الشاي منتظرًا أن تواصل الحديث، ولكنها توقفت عن الكلام أيضًا. وبدأت تشرب الشاي في صمت وهي تثبت نظرتها في المنضدة التي تفصل بيننا.
ثم قالت فجأة بصوت خفيض وكأنها تبذل جهدًا للكلام: أرجوك إن شئت أن تحدثني عن نفسك. من أنت؟ من أين؟ أنا كما ترى من هذا البلد. أعمل في مكتب البريد. مات أبي وأعيش مع أمي. أحبّ السينما وأحبّ الموسيقى والقراءة. فمن أنت؟ ماذا تعمل هنا؟
قلت لها من أنا وماذا أعمل هنا.
قالت: وذلك الكتاب الذي أرسلته من عندي بالبريد. ذلك الكتاب ذو الغلاف المزخرف، ما هو؟
- كتاب عن الصوفية. صعب أن أشرح لك. أناس يعتقدون أن القلب هو الذي يفهم، لا العقل. يمرنون أرواحهم لكي تصفو قلوبهم.
- مثل الرهبان؟
- ليس تمامًا. ولكني في الواقع لا أستطيع أن أشرح. لم أقرأ كتبهم ولا أفهمهم كثيرًا.
- وأنت ما أفكارك؟
سكتّ.
استأنفت هي الكلام، وقالت: في وقت من الأوقات تمنيت أن أعتنق الكاثوليكية وأن أصبح راهبة. أحببت أيضًا القديس فرانسوا الأسيسي الذي كان يحب الفقراء والمرضى. في الواقع أني أحتفظ بصورته في غرفتي برغم أن أمي لا تحب ذلك.
ثم رجعتْ للخلف فجأة وقالت: هذا العالم يمرضني. لا فائدة، حاول ناس كثيرون ولكن لا فائدة. نفس الغباء في كل العصور. نفس الكراهية ونفس الكذب ونفس التعاسة. فكرت أيضًا في أن أذهب إلى إفريقيا، ربما أساعد إنسانًا واحدًا، فكرت..
توقفت فجأة عن الكلام.
طفرت حبات من العرق في جبينها، فمسحتها بيدها ووضعت يدها على عينها وقالت وهي مغمضة العينين: معذرةً. أشعر أني ضايقتك. رأيت وجهك يتغير عندما سألتك عما هي أفكارك، فأرجو أن تسامحني، لا أريد أن أتطفل عليك.
قلت: لا أهمية لذلك. في الواقع كانت عندي أفكار فيما مضى، لكني الآن نسيتها. في بلدي، لم يكن أحد يحتاج إليها ولا إليّ، فقررت أن أنساها. نسيت أشياء كثيرة. ولكنك قلت إنني يمكن أن أساعدك، كيف يمكن أن أساعدك؟ وقلت لي إنّ شيئًا عنّي يحيرك، ما هو؟ رفعت يدها من على عينها وظلت تنظر إليّ فترة ورموشها تختلج، ثم قالت بلهجة عادية: هذا الشيء هو أني أراك كثيرًا جدّا. في كل يوم تقريباً مرّةً أو مرتين. قلت لها: وما الغريب في ذلك؟ ما الغريب إذا كنا نسكن في نفس الحيّ ونركب نفس الأوتوبيس في نفس الموعد؟
قالت باللهجة العادية ذاتها: لا شيء. غير أنني أراك أيضًا عندما لا أراك. أشعر قبل أن أقابلك بأنك موجود، وعندما أرفع عينيّ أجدك هناك. أحيانًا أتخيل هذا فحسب ولا تكون هناك، ولكني أكاد ألمسك.
قلت وأنا أحاول أن أبتسم: ربما كنت تحبينني؟
فقالت دون أن تبتسم: لا.
ثم حولت عينيها وقالت: سامحني.. في الواقع إني أكرهك.
ثم نظرت إليّ. كان وجهها محتقنًا، وعيناها محمرتين وقد غادر ملامحها كل جمال.
تطلعت إلى عينيها.. وكانت بالفعل تكرهني.
في الأسبوع التالي أيضًا، ذهبت إلى العمل وعدت إلى البيت.
هبط ثلج جديد واشتد البرد.
ذهبت مرّةً إلى فتحي في مكتبه وقلت له: هذه الحياة تحيرني، فأرجوك أن تعلّمني شيئًا. قال: كيف أعلّمك وأنا لا أعلم؟ افعل مثلي. دع روحك تتفتح. يومًا ستكتشف أنت وسأكتشف أنا خلف هذه الصحراء تلك الأزهار الموعودة التي لا حدّ لجمالها.
قلت له: هذا الكلام يخيفني ولا يعزيني. أريد شيئًا محددًا. كيف وصلت أنت إلى هذا التوازن والسلام؟ قال: ألغيت إرادتي وسلمتها لصاحب الأمر. ولم يكن ممكنًا أن نواصل الحديث.
كلمني كمال في التليفون عدة مرات. لم يذكر شيئًا عن الكتاب، لكنه قال لي ذات مرّة إنه قرر أن يستقيل من البنك. وفي هذه الفترة كثرت الأحلام عند كمال. كان هناك شيء يتكرر بكثرة في أحلامه: أنه يتعلم عزف الكمان. في أحد الأحلام ضاع منه القوس الذي يعزف به واضطر إلى أن يستخدم مسطرة ليواصل العزف. وفي حلم آخر كانت هناك لجنة ستمتحنه، ولكن زجاجة الدواء الذي يساعد على العزف انكسرت، وكانت جميع الصيدليات مغلقة فأراد أن يعتذر للجنة، ولكنه لم يجد الحذاء فدفعوه إلى المسرح دون حذاء، وهكذا.
وفي نهاية الأسبوع دعتني آن ماري إلى بيتها لتردّ لي دعوة الشاي كما قالت.
كنا قد التقينا في الصباح عدة مرات على محطة الأتوبيس وتبادلنا الحديث. طلبت مني أن أغفر لها صراحتها في ذلك اليوم. طلبت أن أنظر للمسألة على أنها تعاني من أزمة نفسية لا علاقة لها بي. والواقع أنها كانت تحب واحدًا من مواطنيها، ولكنه تركها منذ شهور. سافر إلى الخارج بعد أن كانا قد اتفقا على الزواج، ومن هناك بعث إليها اعتذارًا. قالت إنه كان يمكن ألا يعدها بالزواج، وإنها كانت ستحبه وتبقي معه برغم ذلك. ولكن أن يعد وعدًا لم يرغمه عليه أحد ثم ينكثه فهذا في الواقع هو ما يمرضها. وهي تكاد تكون سعيدة لأنها تخلصت من شخص بهذه الأخلاق في الوقت المناسب. ثم تكلمت عني. قالت إنها تحاول أن تنظر للمسألة بمنتهى الموضوعية. كأنها لا تتكلم عني أو عنها ولكن عن بشر آخرين، وترجو أن أسامحها. هل تكرهني لأنها رأتني في هذه الظروف؟ هل أذكّرها بذلك الشخص الآخر الذي أصبَحت الآن تكرهه؟ ولماذا؟ هل لأن فيّ شيئًا يشبهه؟ ما هو؟ هل لأنه سافر للخارج مثلاً؟ هي تعرف أن المسألة معقدة جدّا وستفهم تمامًا إذا رفضْت أن أساعدها، بل وستعتذر لي وتشكرني لأني وافقت على أن أستمع إليها. أما إن شئت أن أساعدها، فسيكون هذا كرمًا بالغًا مني، وستقدر لي هذا الجميل.
في نهاية الأسبوع التقينا على محطة الأتوبيس. كانت سحب داكنة تغطى السماء وتجعل النهار معتمًا، وكان الثلج راكدًا على الأرصفة وشرفات البيوت. وجاءت آن ماري في الموعد ترتدي كالعادة بنطلونًا وجاكتة بيضاء من الصوف تضع يديها في جيبيها، وتربط كوفية حول رقبتها. لم أرها أبدًا تلبس معطفًا أو فستانًا. وبدت وهي تتقدم مني بخطواتها المترددة نحيلة وضئيلة، وشعرت نحوها بإشفاق غريب.
قادتني إلى بيتها. كانت تسكن عمارة قديمة ذات شرفات من حديد مقوس مشغول. كثيرًا ما مررت أمامها في الصيف، ووقفت أتأمل شرفاتها الرقيقة وهي موشاة بزرع أخضر وزهور حمراء كبيرة. الآن كانت الشرفات عارية، وقد تكومت نقط من الثلج على الأجزاء المحدبة من قضبان الحديد المقوس المتوازية.
لم نكد نقول شيئًا حتى وصلنا إلى شقتها، ولكنها ونحن نصعد السلم غمغمت باعتذار لأنه ليس هناك مصعد وهي تسكن في الدور الثالث. فتحت الباب بمفتاحها، وفي مدخل الشقة كانت هناك ستارة بيضاء، عبرناها فدخلنا إلى صالة فيها مناضد صغيرة تعلوها دمي وتماثيل خشبية صغيرة على مفارش بيضاء مطرزة. كانت المفارش ناصعة البياض والمناضد الصغيرة والتماثيل التي تعلوها موضوعة في أبعاد متناسقة تمامًا وسط زهور عفية ومعتنى بها. كانت زهور قرنفل كبيرة بيضاء وحمراء ووردية. وعلى جانبي الصالة كان هناك دولابان خشبيان بضلف زجاجية لها ستائر من الدانتيلا، ويزدحمان بالكتب. ووسط الدولابين بالضبط مائدة خشبية مستطيلة تجلس إليها سيدة ذات شعر أبيض معقوص تلبس نظارة كبيرة العدسات وتقرأ مجلة. قالت آن ماري: هذه أمي. ثم تقدمَت منها وقبلتْها في جبينها وقالت بصوت عال: هذا هو... هزّت رأسها وابتسمَت، وقالت: صباح الخير يا سيدي. فقلت: صباح الخير. قالت آن ماري: ارفع صوتك إنها لا تسمعك جيدًا. جلست على كرسي بجوارها وظللت ساكنًا بينما كانت هي تحني رأسها وتتطلع إليّ مبتسمةً بعينيها الزرقاوين الصافيتين اللتين ورثتهما آن ماري. تطلعت إليّ طويلاً من خلف العدستين الكبيرتين المنزلقتين على أنفها، ثم قالت: من إفريقيا؟ هززت رأسي، فأشارت إلى قناعين سوداوين مرشوقين في الحائط يتوسطهما صليب خشبي وقالت: أحب النحت الإفريقي. ضمت أصابعها البيضاء المتغضنة وأخذت تهز قبضتها وهي تقول: فيه القوة. ثم فتحت راحتها وحركت يدها حركة متموجة، وقالت: وفيه أيضًا رشاقة ونعومة، ثم سألت: من أين في إفريقيا؟ قلت بصوت مرتفع: أنا من مصر. رفعت حاجبيها مندهشة قليلاً، وقالت: مصر؟ تمنيت دائمًا أن أزورها، ذهب زوجي إلى مصر سنة.... في سنة.. لا أذكر. لم نكن قد تزوجنا بعد، ولكني ما زلت محتفظة بالصور. اعتمدت بيدها على المائدة، وهمت بالنهوض، غير أنها توقفت لحظة لتقول: ولكني أذكر أن زوجي قال لي: إنهم في مصر يجيدون السحر. قلت بدهشة: السحر؟! فهزت رأسها. قلت وأنا أحاول أن أضحك: ربما كان ذلك أيام سيدنا موسى. فقالت وهي لا تزال تعتمد بيديها على المائدة: شاهد زوجي أشياء. فقلت: ربما. نهضَت من مكانها بصعوبة، وفي هذه اللحظة عادت آن ماري تحمل ثلاثة أكواب من الشاب على صينية، وقالت بصوت مرتفع: يكفي هذا يا ماما. فقالت أمها بنوع من الاحتجاج: ولكني أريد أن يرى هذا السيد الصور. وسارت ببطء محنية الظهر إلى أحد الدواليب وفتحته. قالت آن ماري باعتذار وهي تضع أكواب الشاي على المائدة: إنها لا تخرج كثيرًا، وعندما ترى أحدًا لا تكف عن الكلام. فقلت: لا يضايقني هذا. وكانت أمها الآن تكلم نفسها، وتقول: أين ذهب؟ أين يمكن أن يكون قد ذهب؟ كان دائمًا هنا.
حملت آن ماري كوب الشاي الموضوع في حامل معدني وقالت: تعال. لنذهب إلى غرفتي. فحملت كوبي وتبعتها.
كانت غرفتها صغيرة ومرتبة، أثاثها حديث وبسيط على عكس الصالة، وتشغل الحائط أرفف عليها كتب كثيرة. وكانت تتوسط أحد الأرفف زهرية طويلة من الكريستال فيها زهرة واحدة بيضاء كبيرة. وعلى الحائط كانت صورة القديس فرانسوا برأسه الحليق في الوسط. وكان اللون الأبيض في كل مكان، المفرش وغطاء السرير وستائر النافذة الدانتيلا. وحين فتحت آن ماري ستارة النافذة ظهرت في الخارج شجرة أرز تكوم الثلج على غصونها العريضة الخضراء التي تشبه كفوفا مبسوطة، ومن حولها أشجار تتشابك غصونها العارية المطلية بالجليد. جلست آن ماري على كرسي صغير بجانب النافذة، ووضعت راحتيها بين ركبتيها المضمومتين، وأخذت تتطلع للخارج.
قلت لها، وكنت لا أزال واقفًا عند باب الغرفة وكوب الشاي في يدي: المنظر جميل من النافذة. تطلعت إليّ مبتسمةً، وقالت: شكرًا، لم لا تجلس؟ وأشارت إلى مقعدٍ مستديرٍ بدون مسند أمام مرآة صغيرة. جلست تكاد ركبتي تصطدم بركبتها، ورحنا نتطلع من النافذة ونحن نرشف الشاي.
قالت دون أن تنظر في وجهي: بالأمس حلمت بك.
قلت: أنا آسف. ثم ضحكت.
قالت وهي تسدد إليّ نظرةً ثابتة: لماذا أنت آسف؟ ولماذا تضحك؟
- ما الذي يمكن أن أقوله عندما تخبرينني بهذه اللهجة الحزينة أنك بالأمس حلمت بي؟
هزت رأسها وقالت: أول أمس أيضًا حلمت بك. حلمت أن صقرًا كبيرًا يضرب نافذتي بجناحيه ويتطلع إليّ بغضبٍ وهو ينقر الزجاج محاولاً أن ينفذ منه، ثم جئت أنت فاحتضنك الصقر بجناحيه. صحوت من النوم وكنت أبكي.
لم أضحك ونكست رأسي.
قالت بهدوء: ماذا تفعل لكي يحدث هذا؟
رفعت رأسي بدهشة وأنا أكرر السؤال: ماذا أفعل لكي يحدث هذا؟
- نعم.
- أنت تعنين هذا السؤال؟ تعتقدين أنني يمكن أن أفعل شيئًا يجعلك تحلمين بي؟
ضحكت آن ماري بعصبية ومدت يدها إليّ فأخذت كوب الشاي الفارغ، ثم قامت وخرجت.
خارج النافذة حط غراب على شجرة الأرز.
أخذ يطير متخبطًا بين الغصون وهو يبحث عن غصن لا يغمره الثلج، وحين وجده فرد جناحي حداده الأبدي وراح ينفضهما، ثم انكمش.
رجعت آن ماري، وأغلقت باب الغرفة. وقفت بجانبي ثم قالت: فيم تفكر؟
- لو قلت لك، ستضحكين.
- إذن أرجوك قل. أتمنى أن أضحك.
- يحزنني أن هذا الغراب على تلك الشجرة تعيس. ويحزنني أن يكره الناس في العالم كله الغراب، مع أنني لم أسمع أنه آذي إنسانًا.
- تحزن للغراب، وتحزن لغادة الكاميليا؟! ألا تهتم بأمرنا نحن البشر من لحم ودم؟!
- كففتُ عن ذلك منذ زمن.
- أما أنا فيحزنني أن تنهزم في هذا العالم الرقة والحساسية، وأن ينتصر الشر. يحزنني أن تموت غادة الكاميليا لأنها أحبت وضحّت، ولكن يحزنني أيضًا أن أعلم أن في هذه الدنيا جوعى فقراء لا يجدون طعامًا ومرضى فقراء لا يجدون دواء، أو إذا وجدوا الدواء فإن الموت يخطفهم دون مسوِّغ. يحزنني الموت بصفةٍ خاصة.
- وكل ذلك كان يحزنني ذات يوم، وغيره كثير.
- ومتى فقدت اهتمامك بهذا كله؟
- لا أذكر بالضبط. ربما منذ جئت إلى هنا. ربما قبل ذلك بقليل، وعندها قررت أن آتي هنا.
- وإذن فأنت الآن بم تبشّر؟ بالفناء، بالعدم؟
- ولا حتى بهذا.
ظلت تتطلع فترة من النافذة في صمت، ثم قالت بلهجةٍ مختلفةٍ وهي تشير إلى شجرة الأرز:
- أظن أن هذه الشجرة في بلدكم.
فقلت: لا، ولكن في ناحيتنا.
قالت: بعد إذنك. يتعبني نور النهار الكابي الذي يشبه الليل. أفضّل الكهرباء.
ثم أسدلت الستار فأصبحت الغرفة شبه معتمة، لكنها ظلت تقف بجانبي ووجهها إلى النافذة، ثم قالت بصوت خافت:
- هل أنت واثق بأنك لا تستطيع مساعدتي؟
مددت يدي، وأمسكت يدها القريبة مني. كانت باردة كالثلج، فأخذتها بين راحتي. انحنت وركعت على ركبتيها بحيث أصبحت تواجهني، وقالت بصوت خافت: من أنت؟ وما معنى هذه الأحلام؟ ولماذا تلازمني؟
قلت: من أنت؟ ولماذا ظهرت في حياتي؟ وماذا تريدين مني؟
اقتربت مني وهي تزحف على ركبتيها، ثم قبلتني في جبيني. كانت شفتها باردة كالثلج، فأمسكتها من كتفيها وقلت: ليتني أستطيع أن أساعدك. ليتني أستطيع أن أساعد نفسي.
ولكنها فجأة وبحركةٍ سريعةٍ جدّا وهي لا تزال راكعة أمامي، خلعت بلوزتها الصوفية وخلعت حمالة صدرها ودفعت نفسها في صدري وهي تحيطني بذراعين متشنجتين، وقالت: هيّا، إن كان هذا هو ما تريد، فهيّا. ها هو ذا السرير.
أبعدتُ ذراعيها عني بقوة، وخرج صوتي مختنقًا وأنا أقول: لا، ليس هذا هو ما أريد، ربما تكونين جميلة. أنت بالفعل جميلة، ولكني لم أركِ أبدًا أكثر من طفلة. ثم قمت، والتقطت بلوزتها الساقطة على الأرض وأعطيتها لها.
تناولتها من يدي وقامت فجلسَت على طرف السرير، ثم كوّمتها وأخفَت فيها وجهها وأخذت تبكي بعنف، وجسمها كله يرتعش وهي تردد: إذن قل لي.. قل لي أرجوك ماذا تريد؟ ماذا تريد؟
- ما أريده مستحيل.
- ما هو؟
- أن يكون العالم غير ما هو. والناس غير ما هم. قلت لك ليست عندي أفكار، ولكن عندي أحلاما مستحيلة.
- وما شأني أنا بذلك؟ لماذا أتعذب أنا؟
- وكيف أفهم أنا؟ ما الذي أستطيعه؟ قولي لي وسأفعله. أتحبين أن أترك هذا الحي؟ هذه البلدة؟
- هل سيساعدني ذلك؟
- وكيف أعرف؟ إن كنت لا أفهم كيف أساعد نفسي، فمن أين لي أن أفهم كيف أساعدك؟
مدت ذراعيها تبحث عن أكمام بلوزتها، ثم لبستْها ببطء وظلت لفترة تجلس على طرف السرير صامتة متهدلة الكتفين، ثم قالت بصوت خفيض: الآن فهمت كل شيء. نعم الآن أرى كل شيء، ولكن ما أشدّ هذا الحزن.
- ماذا فهمت؟
قالت بنفس الصوت الخفيض: هذا سرّي.
ثم مدت يدها وهي لا تزال جالسة وضغطت زرًّا بجانب السرير، فأضاء الغرفة نور كالمفاجأة.
تطلعت إليّ وقالت: أرجوك أن تسامحني.
ثم حاولت أن تبتسم وهي تقول: في كل مرة أقابلك فيها، أضطر إلى أن أعتذر لك، ولكن أعِدك أن هذا لن يحدث بعد الآن.
كانت عيناها محتقنتين ولكن وجهها كان شاحبًا جدّا.
وعندما خرجنا من الغرفة كانت أمها تجلس في مكانها إلى المائدة وهي تقلب في ألبوم سميك الأوراق، ولما رأتني قالت بلهفة: تعال يا سيّدي، وجدت الصور.
توجهت نحوها. كانت صورًا قديمة. تلك الصور المائية التي يبدو فيها الداكن بنيّا والفاتح رماديّا. كانت لمعبد الكرنك والدير البحري والأهرامات، ولكنها أشارت إلى واحدة فيها رجل يجلس على سنام جمل يبرك على الأرض أمام الهرم. كان الرجل مستدير الوجه يلبس سترة داكنة، وياقة بيضاء. وكان يبتسم. وأمامه رجل يقف ممسكا بمقود الجمل، ويلبس جلبابًا ويبدو ذراعه النحيل من كم جلبابه الواسع. تطلعت إليه وإلى شاربه الذي يعلو فمه الواسع، إلى وجهه المقطب الحزين. كان يشبه أبي.
قلت للعجوز: هل آخذ هذه الصورة؟
رفعت رأسها إليّ وقالت وهي تثبت نظرتها في وجهي دون أن تبتسم:
- أنا أفهمك. أفهمك تمامًا.
ثم أغلقت الألبوم فجأة وقالت: معذرةً. لا يمكن أن تأخذ هذه الصورة.
وكانت آن ماري تقف هناك، شاردةً، لا تتابع حديثنا، تعتمد بيدها إلى المائدة.
في الأسبوع الثالث ذاب الثلج، ولكن بقيت بعض أكوام منه كالرمل بحذاء الرصيف. وظلت الغيوم في السماء، وظلّ نور النهار ضعيفًا.
وفي هذا الأسبوع، قال لي فتحي بقلق إنني أزداد نحولاً يومًا بعد يوم، وإنني يجب أن أرى طبيبًا. قلت له إنه يستطيع أن يساعدني أفضل من أي طبيب لو شرح لي كيف أفهم هذه الدنيا. قال لي: طبيبك أنت ولكن لا تقاوم. قلت له: ليس هذا هو الكلام الذي يساعدني .. فهز رأسه في حزن.
استدعاني رئيسي في العمل أيضًا وقال لي الشيء نفسه. قال إن صحتي (بسيطة تمام)، وإنه يمانع في إعطاء الإجازات هذه الأيام بسبب ضغط العمل، ولكنه لن يرفض إذا طلبْت لأنه لا يريد أن يفرط في. شكرته وقلت له إنني لا أحتاج إلى إجازة.
اتصل بي كمال مرة في منتصف الأسبوع وقال إنه يطلبني كثيرًا ولا يجدني، فأين أذهب في المساء؟ قلت: أخرج وأمشي. قال: في هذا البرد؟! قلت: نعم.
لم تظهر آن ماري على محطة الأتوبيس في أي صباح.
ذهبت مرة إلى مكتب البريد قبل أن أتوجه إلى العمل، ولكنها لم تكن هناك أيضًا.
وحلمت بها ذات ليلة، وكانت في الحلم طويلة الشعر تجري على شاطئ بحر وهي خائفة وكأن شيئًا يطاردها. وعندما استيقظت كان العرق يغمرني، وكنت أشعر بشيء من الخوف.
قرب نهاية الأسبوع اتصل بي كمال في التليفون وكان منفعلاً. قال إنه فعلها. إنه فعلها أخيرًا واستراح. قال إنه كان يعتقد أن كل ما يشكو منه: الصداع، الأرق، الكوابيس، نوبات البكاء كلها ترجع إلى موجات الكهرباء، ولكنه كان مخطئًا. سألته: أي كهرباء؟ فقال: ألا تعرف أنه في هذا البلد توجد أعاصير كهربائية في أيام معينة تؤثر على المخ؟ قلت له: إنني لم أسمع بذلك. فقال: هذه حقيقة. ألا ترى أن كل الناس يتصرفون تصرفات غريبة؟ قلت له: إنني مندهش لأنني أراهم مع ذلك أذكياء في تدبير أمورهم، ناجحين في أعمالهم، أثرياء وصحتهم جيدة. فهل تصيب هذه الكهرباء أجزاء معينة من المخ وتترك أجزاءً أخرى؟ هل تصيب أناسًا وتترك آخرين؟ قال لي كمال وهو لا يزال منفعلاً: أنت تنظر إلى الأمور من السطح. كل هذه الأشياء لعب من الكرتون. البيوت العالية والمصانع الهائلة والطائرات السريعة والمقابر ذات التماثيل والأزهار، كل هذه لعب من الكرتون لا تخدع سوى الأطفال. انظر إلى الداخل ولن تجد سوى خرائب. انظر لمن يكلمون أنفسهم في الطرقات، لمن يجلسون في المقاهي يحدقون بنظرات كعيون الأسماك الميتة. انظر لهذه الوحدة والجنون والكراهية. ما الذي يرغمنا على ذلك؟ هذا الكون رحب ورائع، لكننا ندفن أنفسنا في جلودنا، تعمى عيوننا عن النعيم الحقيقي والفرح الحقيقي. فلماذا لا أفتح عيني؟ لماذا لا أفعل مثله؟ لماذا لا أقرأ الكتاب؟
سألته ماذا سيفعل الآن، فقال إنه استقال من البنك وإنه ينوي أن يعود إلى مصر، وينصحني أن أعود معه. نبني بيتًا في مكان ما في الصحراء. خلفنا الخلاء وأمامنا البحر وفوقنا السماء. نعيش بعيدًا عن التكالب وعن الزحام وعن شجار الأطفال الدنيويين الذين لم يعرفوا نضج العقل المجرب ولا براءة العمر البكر. نعيش ما بقي من عمرنا فرحة حقيقية في ذلك النعيم السماوي.
شكرته وقلت له إنني أتمنى له السعادة التي يريدها وإنني سأفكر.
لم أنم جيدًا في تلك الليلة، وفكرت كثيرًا في آن ماري.
في الصباح، نزلت مبكرًا قبل موعد العمل وتوجهت إلى بيتها. كان الصبح قد بدأ لكن الشوارع كانت دامسة وأنوار الطريق لا تزال مضاءة.
رتبت كيف سأعتذر لذهابي في هذا الموعد المبكر: بحثت في مكتب البريد ولم أستطيع الاهتداء إلى رقم التليفون في الدليل فجئت لمجرد أن أطمئن عليها. ولم أكن أعرف إن كان هذا السلوك يعد خارجًا أو مقبولاً في نظر أهل البلدة.
ضربت الجرس مرّة. لم يردّ أحد.
هل يحتمل أن تكون قد خرجت في مثل هذا الوقت المبكر؟ سافرت مع أمها بعيدًا؟ ما الذي يمكن أن يكون قد حدث؟
خرج رجل من شقة مجاورة يحمل في يده حقيبة. تطلع إليّ بفضول، ثم أدار المفتاح في باب الشقة وتوجه إلى السلم، لكنه لما رآني أضغط الجرس مرة أخرى استدار وعاد إليّ، قال: أعتقد أن أحدًا لن يفتح لك. منذ ماتت الآنسة والمدام مريضة.
- الآنسة؟ من؟ كيف؟
قال الرجل: ألا تعرف؟ ربما كان يجب ألا أقول لك، ولكن مادمت ستقابل المدام فربما يحسن.....
قلت مرَّة أخرى. آن ماري؟ كيف؟
قال في حزن: الآنسة أنهت حياتها. من شرفة البيت.. في قلب الليل. كنّا......
ولكن في تلك اللحظة فُتح الباب. فتحته السيدة العجوز بثياب النوم، شعرها الأبيض مهوش حول رأسها، وعلى كتفيها المحنيتين شال أسود.
ولما رأتني صرخت صرخة واحدة ورجعت للخلف.
قالت: هل جئت الآن من أجلي أنا يا سيد؟ هل جاء دوري أيضًا؟
ثم أمسكت مقبض الباب وتهاوت على الأرض فرمى الرجل حقيبته وأسرع إليها، وعدوت أنا. عدوت على السلم، وعدوت في الشارع، وعدوت في المدينة.
لم أذهب للبيت، لم أذهب للعمل، لم أذهب لمكان.
ولكني في المساء كنت في الفراش.
هل كنت نائمًا أم كنت مستيقظًا عندما خفق في الغرفة ذلك الجناح؟ وهل كان صقرًا أم حلمًا ذلك الذي رأيت؟ مددت يدي. كنت أسمع الحفيف، ومددت يدي. انبثقت أنوار وألوان لم أر مثل جمالها وحفيف الجناحين من حولي، ومددت يدي. كنت أبكي دون صوت ولا دموع، ولكني مددت يدي.