لم أكن أعرف محمد ربيع، ولكن مقال نائل، والذي اعتبره من أجمل ما قرأت له، كان وافيًا:
مثل رواياتك يا ربيع، لا أحد يصدق موتك، لا أحد يفهمه
نائل الطوخي
عندما مات محمد ربيع منذ أيام لم يصدق أحد، كثيرون أنكروا بعنف باستخدام تبرير رأوه قويا: "كان لسة معايا من شوية." ولكن هذا ما حدث، يمكن أحيانا لشخص ما أن يكون مع شخص آخر ثم يموت. عادي يعني. مات محمد ابن الثمانية والعشرين عاما ميتة عبثية، تسرب غاز في الشقة التي يقيم فيها، فجأة سقط وأخذ الغاز يتسرب في جسده شيئا فشيئا. استيقظ خالد، زميله في الشقة، وشاهده ملقى على الأرض، اتصل بابن عم ربيع، ونزل إلى الشارع راكضا، انزلقت قدمه على السلم فأصابه ارتجاج في المخ وفقد الوعي، أي عبث صاحب موتك يا ربيع!
نبوءات كثيرة سبقت موت الروائي المصري الشاب محمد ربيع، نبوءات بالسلب أو الإيجاب. قبل موته بيومين هاتف جميع أصدقائه لإخبارهم أن جمال الغيطاني كتب عن الروائي الشاب الطاهر شرقاوي في افتتاحية أخبار الأدب. قال لهم ببهجة: "احنا جايين ف الطريق يا ولاد". مما كان يعني أن جيله سيظهر أخيرا على وش الدنيا. على العموم، ربما يظهر جيله فعلا على وش الدنيا، ولكن من دونه هو هذه المرة، من دون صاحب البشارة. ليس هذا فقط، قبل موته بأيام كان ربيع حاضرا لتأبين الروائي الشاب الذي رحل منذ عام محمد حسين بكر. انتهى التأبين وسار عائدا مع القاصة سهى زكي، أرملة بكر، سألها: "كدا الواحد يموت وهو مستريح؟". فقالت له ضاحكة: "ابقى موت انت بس واحنا نشوف."
عرفت ربيع على قهوة التكعيبة. كنت قد قرأت له حوارا قديما في أخبار الأدب. عرفت منه أنه يطبع رواياته على طابعة، يصورها على آلة تصوير خمسين نسخة ويوزعها على أصدقائه، وبهذا يعتبرها قد نشرت. عرفت أكثر من الحوار: أنه يكتب من اليسار لليمين، ومن أسفل الصفحة لأعلاها. وأنه برر هذا في الحوار بأن الجميع يفكرون في الكتابة من "تحت لفوق" ولا أحد تجرأ على فعلها. فعلها محمد ربيع إذن. ياللبضان. قلت متأففا من سذاجة الطموح. ثورية بلا عمق، هكذا قلت أيضا، تساءلت بعدها: لماذا يجب على الثورية أن تكون ذات عمق؟
بعدها بسنوات التقيته شخصيا على قهوة التكعيبة. أهداني نسخا من "رواياته" (ينبغي دوما استخدام القوسين لدى الحديث عن "روايات" محمد ربيع). قرأتها. نقول بالمصرية: اتفشخت ضحك. إنه العبث المجرد. كل الشخوص تنيك بعضها، كلها لديها نفس الهوس الجنسي المحموم، والذي يصبح مريضا في مشاهد كثيرة، رغبة شديدة في أن يُضرب المرء، في أن تتم بعبصته، الجميع متحالفون مع بعضهم البعض، كل النساء هن شراميط وكل الرجال هم معرصون، والجميع يمارس دوره ليس ببهجة فحسب، إنما ما هو أكثر غرائبية، بوقار واحترام حقيقيين، بإخلاص شديد وحكم تتناثر على طول الرواية عن جماليات التعريص. يدور نصف رواية "مؤامرة على السيدة صنع الله" في صالة البيت، والأشخاص يتوافدون على مسرح الأحداث ليمارسوا حفلات جنس جماعي سادومازوشي، كأنك بالضبط في مسلسل تليفزيوني مكسيكي. ولكن هنا ما هو أكثر: إنه الكابوس، أكثر الأفعال غرابة ولا معقولية مصاحبا بمنطق داخلي للشخصيات، منطق يتم إلقاؤه بصرامة رهيبة وكأنه حكمة مقدسة، ويتغير من لحظة لأخرى، ولا تستطيع أبدا القبض عليه، فقط لأجل خلق المفارقة بين عبثية الموقف ووقار تبريره، بين الشرمطة وصرامة أخلاقياتها، والمفارقة تنجم باتحاد الاثنين سويا، اتحاد الخطابين في سبيكة واحدة. لم تكن الميتة العبثية لربيع إذن مصادفة، هكذا أقول الآن.
يصعب كثيرا الحديث عن الموتى دون أن يلجأ المرء إلى الكيتش السهل، ومن باب استخدام الكيتش الذي لا بديل له أقول أنه كان إنسانا طيبا. قلت له أن من يراه في الواقع لا يصدق أنه كتب هذه الروايات، فقال له بحزن: لما تشوفني تفتكرني غلبان. صح؟ ثم ضحك وتناسى ملاحظتي التي اعتبرها مسيئة. عاش محمد في القاهرة كثيرا، هو القادم من مدينة ملوي بالمنيا، ورغم ذلك، لم ينطق الجيم والقاف القاهريتين أبدا، كانت جيمه وقافه الصعيديتان محببتين، ولم تستثر، كما هي العادة، إحساس الاستعلاء لدى القاهريين. لم تكن فيهما الجهامة الصعيدية، التي تحسها لدى الأبنودي مثلا، وإنما كانتا مشبعتين بخفة ظل، كانتا قاهريتين أكثر من القاهريين، بوصف اللهجة القاهرية، في التقسيم المصري العنصري السائد، هي تلك المرحة المنفتحة على الحياة والصعيدية هي المنغلقة الجهمة، كسر ربيع هذه القاعدة بعنف يشبه عنف كتابته.
الكشف الأكثر خطورة بكثير في علاقتي بربيع كان رواية "ناس أسمهان عزيز السريين"، والتي قرأها صنع الله إبراهيم، واعترف ببساطة أن ربيع حقق فيها ما كان هو يحلم بتحقيقه طوال عمره. الموضوع الأساسي للرواية هو "جماعة الإخوان المؤمنين"، وتصورهم للسنة النبوية. تدور الرواية حول الحياة الجنسية لابنة مرشد الجماعة، كيف تحلم بالرجال وكيف تعجز عن تحقيق متعة كاملة، بشكل قد يصفه المتحذلقون فنيا، وأنا منهم، بالبساطة والسطحية. بدون الكثير من الحيل والألاعيب، تشكل الرواية وثيقة – حول الأشكال الحديثة للحكم الديني في مصر– أكثر مما تشكل أدبا رفيعا. كأن سائق ميكروباص يشرح أمامك آرائه بخصوص النسوان والشرمطة والمشايخ، وأنت لا تتوقف عن الضحك من ذهنه الحاضر أبداً. الكتابة هنا أبسط من أي شيء آخر، ولكن يظل الشيء الذي يرفع هذه الرواية لمرتبة الأدب الرفيع هو طاقة السخرية الهائلة بداخلها. تقرأ عن المباريات التي كان يدخلها مرشد الجماعة في تأليف أكبر قدر من الأحاديث، وانهيار ابنته، أسمهان عزيز، أمام احتياجاتها الجنسية وأمام مطالبة أبيها بحفظ الأحاديث كلها، والأحاديث لا تنتهي أبدا، إلى أن تصل أسمهان للحكم الدرامي الحزين، وإنما الفكاهي أيضا لأقصى حد، في المقارنة بين القرآن والسنة: "يا ريت كان الأمر واقفا على القرآن فقط ولكن المصيبة الكبيرة فى هذا العدد الضخم من الأحاديث. القرآن جميل وزى العسل فى الحفظ والتسميع وأجمل وأهم ما فيه أنه معروف له أخر، شفت له بعينيا نهاية".
كنت أنت جميلا وزي العسل يا ربيع، وشفنا لك بعينينا نهايتك.
- عن موقع أوكسجين.
.................................................................
مجتزء من "عموم الليالي التي" للراحل محمد ربيع:
"من وأنا صغير ، لست صغيرا جدا ، ذلك الصغر الذى قد تكون فيه مشاكلى غير مهمة ويكون توقع رحيلها بعد حين لن يطول ، أمرا واردا جدا ، ولكنه ذلك الصغر الذى يكون فيه قد مر وقتا كافيا لكى أُدرك ماذا تعنى كلمة مشكلة . وهذه المشكلة تتبعنى وتتعبنى وايضا تقلقنى وتفسد أوقات فراغى الىّ ، تحيل ساعة فرارى من البشر الى نفسى لساعة فرار اليها.
أنها مشكلة استعصت ،انتشرت بى، توغلت ، فحدث اقتحام لم أملك له دفعا.لقد تجاوزت كونها مشكلة ، ففيما يبدو أنها تمكنت منى تماما.
هذا.. وبعد ، هل أستسلم وأخفض يدى بالسلاح وأكف عن الدفاع عنى ، تاركا لها زمامى , مسلما لها قيادى لتسحبنى من حبل روحى الى حيث يكون هلاكى . أأدعها ببساطة تجرجرنى ورائها وتفقدنى توازنى وأنا اقف امامها عاجزا ، مدلدل الأذنين ، مرخى الذراعين ، لاينقصنى الا أن افتح ساقاى فتخترقنى. يا سلام وما نفعى حين ذاك ، وأين جدواى وضرورتى فى هذه الدنيا وكيف اواجهنى بعد ذلك ، بل وكيف أقف أمام اولئك الناس أعظهم وأتلقى أعترافاتهم وأنقل لهم الثقة وأعطيهم إيمانا وشجاعة يحتاجونها لمواجهة الشياطين، وكيف ياخذون عنى الصبر الازم للوقوف فى وجه هذه الايام السوداء. أن ما اطلقه فيهم ، احتاجه أنا قبلهم لصراعى القديم ، المستمر مع مشكلتى ، فأنا لن اهرب منها ، لن اتراجع أمامها لأعطيها فرصة أن تزنقنى فى الحائط وتجهز علىّ لن اعطيها ظهرى واجعلها تهزمنى : والمسيح الحى ما هاسيبها تغلبنى، ياأنا يا هى
عندما قلت هذه الجملة علا صوتى دون رغبة منى وبلا وعى تقريبا ، فانتبهت الى ثورتى ، تداركت اعصابى وافلاتها ، زفرت متنهدا كضربة اخيرة قاضية على غضبتى المفاجئة وعدت لحوارى مع نفسى:
اننى لو كباقى الناس ، بمعنى أن أوجد بينهم دون أن أثير بوجودى قلقا وتحفظات وأحدث ربكة ولو أننى استطيع التحرك بحرية وسلاسة كما يفعلون ، لو أننى اقدر على فعل ما يفعلون دون أن القى مليون مستنكر ومليون منتقد وكذا مليون آخرين يصطادون فى الماء العكر، لو يحدث ذلك ويتاح لى لحاربت هذه المشكلة بمعننة وروقان بال وجبت أمها الأرض:- حافظ على الفاظك يا ابرام ، حد يسمعك تبقى حكاية-
فقط لو أنك تصمت وتدعنى فى حالى ، الايكفينى من هم بالخارج حولى ، فتقفز لى انت من الداخل ، ياسيد يا محترم أننى لست بحاجة لأثنين ابرام ، فلاتعش لى فى دورالضميراليقظ الذى ينبه صاحبه الى اخطائه ويحاول انقاذه ، لست فى حاجة اليك الأن ولا بعد الأن.
ـ يا ابرام هتعوذنى ، انت داخل حرب مع مشكلتك اللى مغلباك دى وانت لوحدك مش قدها
ـ بل أننى قادر عليها وقدها وقدود ثم أن الرب راعى فلايعوزنى شئ
ـ ماشى يا ابرام وخد بالك لولا أنى ضميرك يعنى أنا مؤمن بالرب اكتر منك ولولا أن عقلى كبير وما باحبش اغلط فى حد كنت قلتلك ابقى خللى الرب ينفعك،ع العموم براحتك واوعى بقى من وشى فى الساعة الضيقة دى لاحسن المشرحة مش ناقصة جثث.
- غور يا شيخ.
علا صوتى مرة أخرى بضيق وزهق بالغين وأن كان اخشى ما اخشاه من علوه أن يسمعنى مدحت فيبدأ معى حوارا لن ينتهى بسهولة ، ولفت نظرى فى الجملة التى قلتها لضميرى عانيا بها أن يذهب بعيدا عنى , أننى قلت :غور يا شيخ ، فأحلت صوتى للداخل وبدأت اتساءل: لماذا لم اقل له :غور يا قسيس، رغم أن استبدال كلمة شيخ بكلمة قسيس مع الاحتفاظ بالمقطع الأول الجميل سيكون انسب واكثر ملائمة لجو الكنيسة التى اوجد بها ، وكلمة شيخ هذه مستهجنة وغير مستحبة ولا داعى اطلاقا لذكرها هنا ، فهل لأن تغيير الكلمات سيؤدى الى أن تصبح الجملة غير جذابة ، بل انها غير جميلة بالمرة ، أن وقعها ثقيل على الأُذن ، ليست محببة للسمع وخفيفة الدم مثل غور ياشيخ وايضا لأننى لم اسمعها من أحد قبلا واعتقد أننى لن اسمعها فى قادم الأيام ، وايضا لأننى تربيت وأنا اسمعها كذلك وحدث مرارا أن قالتها لى ـ الله يقدس روحها ـ أمى وكانت تخرج من بين شفتيها كما السكر : غور يا شيخ جاتك ستين نيلة ، أو فى مناسبة أخرى ليست سعيدة طبعا : غور يا شيخ انا عارفة فرحان لى بروحك كده ليه . وقد قالها لى أبى هو الأخر كثيرا عندما كنت اعارضه ولا اوافقه على أن أسلك الطريق الذى أوصلنى الى أن أكون ابونا ابرام ، وكان فى قول أبى لها حتمية تؤكد أنه لا يصلح ولا يصح أن تقال بغير ذلك من الالفاظ قال ـ الله يقدس روحه ـ : غور يا شيخ قطر يزهملك . ومع أنه قدس الله روحه افسدها بهذا اللفظ الأخير البشع الآتى من الزهملة والتى يراد بها فى سياق المعنى أن يقول لى أنه يود لو أن القطار شندلنى ، فما كان سيسوئه لو قالها هكذا : غور يا شيخ قطر يشندلك"