ما حدث في مساء
الثلاثين من فبراير لا يمكن وصفه بالانقلاب العسكري إذا ما اخذنا في الاعتبار
السيناريو الذي حدث في مساء الحادي عشر من فبراير، أو ببساطة يمكننا وصفه
بالانقلاب العسكري إذا ما استرجعنا كلمات الجنرال سليمان، الذي قال حرفيا قبل ايام
معدودة من الحادي عشر من فبراير: "القادم هو انقلاب عسكري، وقد يكون للأحسن
أو للأسوأ".
كان ما حدث في الحادي
عشر من فبراير للأسوأ من وجهة نظر الجنرال، لذلك سماه بالانقلاب العسكري، وبالطبع،
فللثوريين الاصلاء، ما يحدث في الثلاثين من يونيو هو للأسوأ، لذلك تم وصفه
بالانقلاب العسكري، رغم انهم قد وصفوا ما حدث في الحادي عشر من فبراير
بـ"الثورة".
اظن ان الفارق الاكيد
في ما نادت به الحركتين الكبيرتين، فقد كانت ثورة يناير في مديح الاختلاف، بينما
كانت الثلاثين من يونيو في مديح الوحدة. ثورة أولى تغنت بالديموقراطية، وحقوق
الانسان، وحرية التنظيم السياسي من اي نوع، وحاسمة تماما في رفض "الدولة
القديمة" ومؤسساتها لا سيما الامنية والعسكرية منها، بينما حملت الثلاثين من
يونيو مطالب استعادة تلك الدولة وتقويتها من "الخطر الاسلامي" (وكأن هذه
الدولة قد انتهت فعلا)، وداخلها اضمرت كراهية عميقة لديموقراطية "الزيت
والسكر" التي اتت بالاخوان المسلمين، ومدح غير محدود لمؤسسات الدولة الأمنية
والعسكرية التي لم يتم هيكلتها ابدا، بل ان الدعوات تصاعدت بضرورة رجوع جهاز أمن
الدولة القديم بشراسته المعتادة (وكأنه قد حل فعلا)، وضرورة رفع الانفاق العسكري
حتى. يجب ان نذكر هنا انى انا شخصيا، وملايين غيري كثيرون، قد دعموا تمرد ووقعوا
على استمارتها، وانضمت انا إلى مسيرة "الثوريين الانقياء"، كما تندر بعض
اصدقائنا، لأنها واضحة في رفض الدولة القديمة والاخوان معًا، ولكن التندر في حد
ذاته، ومبدأ أن الأمور بخواتيمها، يعني انه بالفعل المنتصر هو الدولة القديمة.
تبدو خريطة يوليو
افضل من يناير في تقديم الدستور على اية انتخابات، ولكن مع مادة تشرعن مذهبية
الدولة ومواد اخرى تؤكد مكاسب المؤسسة العسكرية وسلطات واسعة لرئيس جمهوريتها، ومع
مجتمع منهك وخاف من اعداء داخليين وخارجيين، فالنتيجة قد لا تكون جيدة فعلا.
هناك نوع غير قليل من
الارتباك هنا، ولفكه يجب أن نقول أن انهيار الاخوان السياسي كان في سلطويتهم
الداخلية التي لا تفرقهم ابدا عن المؤسسة العسكرية واغلب النخب الاجتماعية من
ثقافية وسياسية، وتراجعهم عن برنامج طموح لتحديث الدولة، بل وسعوا لاحتواء ذات الدولة
داخل عباءتهم، ورضخوا للعسكريين ومنحوهم سلطات اكبر في بداية لهزيمة محققة نالوها
في الثلاثين من يونيو. وبعد اعلانهم الدستوري في نوفمبر الماضي، والذي يرسخ لحكم
منفرد من الجماعة ومندوبها في قصر الاتحادية الرئاسي، انضم الثوار اليساريين
الديموقراطيين والليبراليين للحرب ضدهم بشراسة اكبر.
والأزمة الحقيقية في
مصر الآن بدأت منذ ثورة يناير في الحقيقة، فقد كان جزء من الثوريين، لا سيما
الفاعلين في الاعلام واكبر الداعين ليناير، من مؤيدي "السلطوية الصالحة"،
لذلك لم يكن انضمامهم لجوقة مناصري نظام مبارك المهاجمة للإخوان بالشيء المفاجئ
والعجيب لأي مدقق، كما انهم متصالحين لدرجة بعيدة مع خريطة المصالح الاقتصادية
لمناصري مبارك. تلك المصالح الاقتصادية التي باتت مهددة تماما بصعود
"عصابة" جديدة مهما كان انتمائها الايدولوجي.
المشكلة الثانية هي
ان نخبة شباب ثورة الثلاثين من يونيو، واقصد حركة تمرد، تبدو كحركة ناصرية لمدى
بعيد، واستلهام النموذج الناصري، بكل ما فيه من قمع للحريات الفردية والسياسية
ولكن بشكل ضمني هذه المرة، يشكل تهديدا اكيدًا لنخبة ثورة يناير التي آمنت بعكس
النموذج الناصري في هذه النقطة تحديدا.
المشكلة الثالثة،
والتي تكمل حالة التناقضات المريعة هاهنا، أن سلوك العسكريين في المدى البعيد يبدو
وكأنه لا يتجه إلى نموذج عبد الناصر بقدر ما يتجه إلى انموذج البشير، يتجه لمحاربة
السلفيين كجماعة ولكنه يتبنى افكارهم في اعلانه الدستوري. يبدو المستقبل وكأن
الجنرالات سيعمدون للحكم بالنسر ذو الرأسين، ليس فقط كاستعارة ادبية، بل بتصاعد
حالة الغزل بينهم وبين الروس والصينيين. هكذا قد يدخل العسكريين في صدام قوي مع
بقايا نظام مبارك امريكيي الهوى ليبراليي التوجه الاقتصادي، وهو الشيء الذي قد
يثلج قلب حركة تمرد، ولكن الحقيقة ان نذر الحرب بدأت بينهم وبين العسكر مبكرا حالا
في القاهرة حول الاعلان الدستوري وتشكيل الحكومة، من المرجح ان يسكت العسكر عليهم
قليلا لاستخدامهم في معركتهم مع السلفيين كجماعة، كما اسلفت.
المشكلة الرابعة ان
الدولة القديمة قد بدأت في حرب شرسة تجاه الليبراليين واليساريين في وسائل
الاعلام، حرب تكمن قذارتها في كونها تنحو لاتهام كل مطلب لاعادة تشكيل الدولة
باعتباره مطلبا اخوانيا، وان من يروج لهذا، أو يعترض على صيغة الاعلان الدستوري
وتشكيلة الحكومة، وضبط العلاقة بين المؤسسة العسكرية والدولة، من غير الناصريين
على انهم "خلايا نائمة"، وهو مصطلح امنى فاشي بامتياز، ومن ينجح في تخطي
الاتهام بكونه من فلول نظام مبارك، أو من خلايا الاخوان النائمة، أو من عملاء السي
آي ايه، قد يوجه بكونه مريضًا نفسيا أو متهتكا اخلاقيا.
الخوف الأكبر على مصر
الآن أن تتحول لدولة قومية دينية، سواء مرورا بالسيناريو الجزائري أو لا، فقد دخلت
مصر بالفعل في نفق "الحرب على الارهاب" المظلم التي عرفته في تسعينيات
القرن الماضي في ظل فاشية اعنف، وقد يستخدمه الجنرالات وعتاة العلمانيين في ايقاف
اي عملية انتخابية ديموقراطية كما حاولوا في 2011.
والدولة التي اقنعت
شريحة واسعة تماما من المصريين أن كل ما عرفته ثورة يناير من عنف إلى الثلاثين من
يونيو هو من فعل الاخوان المسلمين وليس غيرهم، فمن السهل بعد خمسة اعوام، أو عشرة،
أو خمس وعشرين، أن يأتي الاخوان المسلمين أو ورثتهم ليقولوا أن كل ما حدث في
الثلاثين من يونيو وما بعده من احداث عنف وتعطيل للمرافق العامة ومذبحة الحرس
الجمهوري هو من تخطيط الجيش والمخابرات.
فشل ثورة يناير، وفشل
الآملين في يونيو، أن الخناقة قد اصبحت على قائد العربة، التي اصابها مزيد من
العطب والتشوه، لا على تغيير العربة ذاتها.
وعلى الناحية الأخرى،
فنظريا هناك باب للأمل، فالثورة الفرنسية مرت بجمهورية القناصل، ثم وصلت
للأمبراطورية ذاتها وليس فقط الملكية، فالرهان على ان ما يحدث هو تطور طبيعي
للمجتمع المصري قبل استنفاذ آخر دعاوي الدولة القديمة في الحكم شيء منطقي ووارد
جدا.
وعمليا، الأمل هاهنا
يأتي من اجيال قادمة، واجيال حالية شاركت في الحركتين. فبوجهة نظر ما، فما حصل في
يناير هو اكبر عملية عبور قصري للطبقة المتوسطة العليا والوسطى إلى الطبقة العليا،
اجيال اليانج بروفشنالز وغيرهم، الذين رغم كون مصالحهم مرتبطة بالنظام، ولكنهم
كانوا اول من ثاروا ضده ليأسهم من اي نمو تحت عصابة متحكمة في كل شئ. والحرب التى
حدثت ما بين يناير ويونيو، هي ببساطة هذا التحالف العجيب بين الطبقة العليا
والدنيا ضد المتوسطين: الأولي عصابة تدافع عن ممتلكاتها، والثانية تعرف ان هؤلاء
المتوسطين سوف يبيعونهم دونما رحمة، بعدما هزوا استقرارهم لسنتين ونصف.
الأمل في ان هؤلاء
المتوسطين، بصرف النظر عن كونهم علمانيين او دينيين او بين بين، سوف يكملون مسيرة
اختراقهم للمجتمع، ومن في مواجهتهم دولة سماها الثوار دوما "دولة
العواجيز". ودور المنظرين من الليبراليين
واليساريين الديموقراطيين هو صياغة برنامج واحد لمقاومة الفاشية اي كان نوعها أواسمها،
وبداية الطريق هي تغيير بناء الدولة المصرية اجمالا.
قال لي قريب عشريني، دافع
عن مبارك في موقعة الجمل، وانحاز دوما للجيش، "إذا ما ابعدوا الشباب هذه
المرة فلا ثورة هنا".
والأيام القادمة كفيلة بنفي ذلك أو بتأكيده.
..............................................................
مقال كُتب من
اسبوعين.
No comments:
Post a Comment