منذ وقت ليس بالكثير كتبت عن شغفي بكتابة عظيمة مثل كتابة محمد ناجي هنا.
وعندما قرأت خبر إصابته بالمرض اللعين أقسم أن عينيّ قد غمرتهما الدموع، وهذه سطور ليس للمجاملة وللمحاباة، بل هذه سطور من القلب، وأملاها الاحترام لكاتب كبير وعظيم، منسي في غمار الحياة ومنسي في أطرافها، حيث تتفرغ دولتنا الزهراء لمصادرة مترو وصرف 5 ملايين من الجنيهات على فريقنا الوطني لكرة القدم بعد هزيمته، وتستمر خطيئة نسيان كاتب مثل محمد ناجي.
تستمر مثل هذه الخطيئة وبعض من نقادنا يتفرغون للكتابة عن أدب الأخ العقيد، وابحث عن صورة لمحمد ناجي على الشبكة العنكبوتية فأجد صور رئيس الوزراء السوري.. حتى على النت تلتهمنا السلطة..
وحتى جريدة ناجي نفسها-العالم اليوم-التي بناها بعرقه وعمله ونأى بنفسه عن استغلالها لتلميع اسمه وصورته (والاثنان من شيم العنقاء في هذا الزمن) لم تبذل قرشًا واحد في سبيل شفائه..
أنقل هذا المقال عن موقع العلمانيين العرب، بقلم د. أحمد الخميسي.
"الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء . بيدكم وحدكم إنقاذ حياة أحد أهم الروائيين المصريين وهو محمد ناجي الذي تعرفه الأوساط الثقافية كلها بإنجازاته الأدبية المرموقة . بيدكم وحدكم أن تتخذوا قرارا بعلاج مفتوح لمحمد ناجي الذي يعاني من سرطان في الكبد لا علاج له سوى عملية زراعة كبد . وحين تفعلون ذلك فإنكم تنقذونٍ كرامة الكاتب المصري الذي اخترع الكتابة للعالم وعكف عليها بصبر ودأب منذ سبعة آلاف سنة حتى يومنا . يلزم قرار بعلاج مفتوح وليس قرارا بعلاج على نفقة الدولة لأن مخصصات الأخير لاتزيد عن مائة ألف جنيه لاتكفي لإجراء العملية العاجلة التي يحتاجها محمد ناجي حتى في الصين .
وقد لا تتسع هذه الرسالة لعشرات بل المئات من تواقيع كبار كتاب مصر ومثقفيها ، لكن هذه الأسماء موجودة وسترد إليكم في خطاب منفصل يؤكد لكم ما يعرفه الجميع عن إنجازات محمد ناجي اإلأدبية والقلق الشديد على صحة وحياة الكاتب المبدع . وقد انتزع منا هذا المرض من قبل زملاء أعزاء شاهدناهم يرحلون ونحن في قبضة العجز منهم يوسف أبوريه ، وفتحي عامر ، ونعمات البحيري، ولم يستطع اتحاد الكتاب أونقابة الصحفيين تقديم العون بسبب التكلفة الباهظة للعلاج . وأقول للزملاء من الكتاب إن علينا جميعا أن نبذل قصارى جهدنا لإنقاذ حياة الروائي الذي أثرى الأدب العربي برواياته الساحرة " خافية قمر " ، و " العايقة بنت الزين " و" لحن الصباح " و" رجل أبله وامرأة تافهة " و " الأفندي " وقبل وبعد كل ذلك رائعته " مقامات عربية " التي لم تنل بعد حقها من الدراسة والتامل والإعجاب . إنني أدعو أدباءنا الكبار : بهاء طاهر ، وإدوار الخراط ، وجمال الغيطاني ، ومحمد البساطي ، ومحمد المخزنجي ، وخيري شلبي ، وغيرهم من الأسماء إلي تأكيد توقيعهم على الخطاب الموجه لرئيس الوزراء د. أحمد نظيف ، وإلي الدفاع عن حياة محمد ناجي ، وحمايته وإنقاذه . فقد شبعنا من النظر إلي الموت وهو ينتزع أرواح المبدعين ، لا لشيء إلا لأنهم ليس لديهم ما يكفي من أوراق البنكنوت التي نعلم كيف يراكمها البعض ومن أين وباي طرق ، أو لأنهم لايحظون بالذيوع الإعلامي الذي نعرف كيف يسري ولماذا وأين يعم . وأدعو الكاتب محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب المصري إلي إنقاذ ماء وجه الاتحاد بالتحرك السريع لمناشدة رئيس الوزراء د. نظيف استصدار القرار المطلوب . أدعو صناديق الثقافة العربية ورعاة الثقافة في كل قطر عربي إلي التدخل السريع، وأدعو رعاة الثقافة المصرية من رجال الأعمال الكبار إلي التدخل ، فلم يعد ممكنا أكثر من ذلك أن يرحل عنا زملاؤنا لمجرد أن جيوبهم ليست منتفخة بالأوراق النقدية ، وأن عقولهم ونفوسهم كلها كانت منشغلة بغرس الأحلام في الروح الإنسانية . عندما كلمت محمد ناجي لأطمئن عليه قال لي بصوت تغلب فيه العزيمة الداء : الحياة نفس ونظرة ، إن لم يكونا بطعم الكرامة فلا معنى لها . وأضاف : كنت أكتب حتى قبل ساعتين من إجراء عملية حرق الورم في الكبد ، وهي عملية تمنع فقط لفترة مؤقتة انتشار الورم خارج الكبد إلي البدن كله . الحلول المطروحة أن يتبرع أحد بجزء من كبده ، فأعيش به عامين تقريبا من المعاناة دون جدوى ، وليس في خطتي أن أفتح باب التبرعات وما شابه ، كما أن أي قرار آخر غير العلاج المفتوح لن يؤدي لشيء . والتقط ناجي أنفاسه وعاد ليقول : لكن صدقني حين أقول لك إنني أشعر أنني جزء من حالة عامة ، ولا أريد لحبي للحياة وتعلقي بها أن يرخصني .. أبدا . قالها بذلك الهدوء الجميل الذي عرف به ، وبتلك الثقة التي لا يسمع لها ضجيج ، وبذلك الأمل الذي عاش ويعيش به . أنقذوا حياة محمد ناجي الشاعر والروائي والإنسان . هذا ممكن ، هذا ضروري ، وبدون ذلك سيكون علينا أن نقر بقوة وسطوة الأوراق النقدية الميتة وهي تلتهم الحياة والإبداع من حولنا"
الفصل الأول: تبجح الكاتب إزاء شخصيته (دراسة مقارنة في الفشل الروائي)
....
استفاق من نومه مع نور طفيف عبر ببراءة الغرفة المتشحة بسكونها. كان راقدا على ظهره، وبالتالي لمع في مقابلته سقف خشبي بزهو ما. من السهل التخيل أن الصحو في ساعات الصبح الأولى، في نهار شتوي بلا عدوانية، هو طقس مدهون برومانسية نبيلة، ليست زاعقة ولا مبالغ فيها كأحد أثرياء الصدفة. هذا بالطبع إن كنا مدهونين بذات الرومانسية النبيلة، والتي ترشح بهدوء مستقر داخل رئاتنا الغالية، مستودع النيكوتين والقنب وروائح النساء التي نود كونها طيبة مهدهدة. ربما من سوء حظنا، أو هو من سعادته حقيقة، أن بطلنا الذي لا نعرف اسمه لوهلة من الزمن، لا ينتمي إلى تلك الفصيلة اللطيفة التي تميزنا عن نوعنا، ربما هو لم يعرف الرومانسية إطلاقا، بذلك المعنى المجازي والمخادع الذي ينتمي إليه البرجوازيين أو مدعيّ الفنون. في الحقيقة-وهذه كلمة ثقيلة الوطأة-كان بطلنا مجهول الهوية.
لا نقصد هنا إنه مجهول الهوية بالنسبة لنا، فهذا طبيعي مادمنا نقرأ المتن هاهنا بتتابع منضبط، منتظرين بعظمة، فوق كراسينا المريحة أو غير المريحة، أن يعبر اسمه بلباقة كاتب يعرف ما يريد، ومادام هنا اسم فستكون هناك شخصية، ومادامت هناك شخصية فستكون لها تفاصيل، ومادامت هناك تفاصيل فستكون هي متنًا بذاتها، أو في امتزاجها بموقف هلامي خرافي يحمل تلك الشخصية في سراديبه وتلافيفه، وقد يحمّلها ما لا طاقة لها به، وبالطبع هذا هو لوننا المفُضل من الحكايات، ولنا في كافكا أسوة حسنة.
حسنًا، ومادام كاتبنا، الذي نعرف اسمه جيدًا من صفحة الغلاف، لا يتوانى في الكشف عن نرجسيته المفرطة، فسيعرف تحديدًا ما نحب وما نشتهي، وسيقدم لنا الحقيقة التالية: لقد كان بطلنا مجهول الهوية لنفسه أيضا. نعم، فذلك الشاب الذي استيقظ من نومه في تلك الغرفة الساكنة لم يكن يعرف تحديدًا من هو. وبما أننا لم نفقد ذلك الشعور المميز بهويتنا الشخصية جدًا والخاصة جدًا من قبل، فيما أتخيل، فلا يمكننا وصف ما شعر به بطلنا بالضبط. فقط يمكننا التخييل، الاحتمال، قليل من النصب الإبداعي ككاتب هو التجلي الثاني لبوذا، فيستطيع وبكل أناقة أن يخترع ما شاء من أحاسيس ومشاعر بصرامة العلم، أو حتى بفكهة الكوميديا، ونحن سنتبعه بالطبع كأصدقاء مخلصون لا يعضون ولا يغتابون صديقًا نبيلاً ككاتبنا النرجسي الذي يود فهم أنه محبوب.
ومادمنا اتفقنا، فلابد أن نتخيل أن الشاب التعس قد استرخى قليلاً في مرحلة هي اقرب للوسن، ولكن بالعكس؛ أي أن سحب النوم الثقيلة، المترهلة كفيل اعتاد حياة حدائق الحيوان الأوروبية، كانت تنسحب بهدوء من المشهد، تاركة الوعي، ذلك المُسمى اللعين، ينساب ببطء وبمشقة-ولكن بتصميم- ليملأ الفراغات الداعية. بالضبط كشعاع النور الذي عبر الغرفة، ولكن،وبالتأكيد، ليس بمثل براءته. يتسرب الوعي ببطء، فتبدأ عيني الشاب في الترقرق، متحولة عن الزجاجية التي كستها في الثوان القليلة الفائتة. هو ترقرق عجيب حقًا، لأنه ولسوء حظ الشاب بقى في مرحلة التبلد المبتذل، ذلك التبلد الذي يمزق أحشائه يدنا البطيئة التي تبحث عن السجائر، أو سعلتنا الخفيفة، أو حركة غير مقصودة من شريك فراش. مرة ثانية لا يمكننا معرفة ما جال في خاطر الشاب بالضبط، ولكن يمكننا القول أنه قد مد يده، وسعل، ونظر بجواره بشكل عبثي فلم يجد شريك فراش، رفع رأسه بمشقة مصطنعة فوق وسادته ونفث دخان سيجارته بدعة.
بالطبع، وفيما يتخيل الكاتب، فأنه لا يوجد بشري يسأل نفسه "من أنا" في صحوته، إلا لو كنا نتحدث عن نوع آخر من البشر استبدل منطقًا بآخر، فيما اتفق على تعريفه بالجنون، وعلى حد علم الكاتب فأنه لا يتحدث عن هذه النوعية هاهنا، لا يتحدث عنها بالضبط لمزيد من الدقة التي تشعره بأنه إنسان أفضل. لم يسأل الشاب نفسه من أنا، فقد كان مشغولاً بسيجارته الصباحية، خازنة العديد من التذكارات الرومانسية هي الأخرى، وبوعيه العنين الذي يملأ الفراغات بتهور أحمق. أحمق ونرجسي.
قد يبرز لنا هاهنا واحد من القراء المحترفين، من هؤلاء الذين يذهبون لنوادي الكتب بإخلاص مثير للإعجاب وللشكوك في آن، ليرمي لنا بحذق استفسارًا متعالمًا عن السؤال المبتذل العظيم، الذي غذته أفلام الإثارة الرخيصة وسمنته: أين أنا. هنا يشمر الكاتب عن ذراعيه- والحق أن هذه أسلوبية لا تقل ابتذالاً عن سؤال القارئ، فضلاً عن عدم لزوميتها منذ اختراع أقلام الحبر الجاف- ويقول ببساطة خبيثة أن بطلنا كان يعرف هذا المكان جيدًا.
نعم. يالها من خدعة. يالها من تفصيلة أنيقة ومبتكرة. الشاب لا يعرف، أو سيعرف أنه لا يعرف، من هو، ولكنه يعرف المكان بالضبط. يالنا من قراء محظوظين ويالهم من نقاد تعساء معدومي القامة. فعلاً، فالشاب حين سيقوم من سريره بتباطؤ، مدفوعًا برغبة مشروعة في التبول، سيأخذ يساره بعد الخروج من الغرفة، ليدلف في تثاقل حيث يوجد المرحاض، ليتم واجبه الصباحي الذي امتد للتغوط كما يمكننا الحدس. يقوم من فوق عرشه. ينظر في المرآة.
معلومة أخرى، كما يعرف هذه الشقة ككف يده، فهو يعرف هذا الوجه المنعكس في المرآة أيضًا، هو ذات الوجه الذي صاحبه سنّي حياته، يغسله بلا إتقان ويجففه بلا اهتمام ليخرج مكملاً في اتجاه اليسار حيث يوجد مطبخ متواضع سنعلم انه قد يصير مرتعًا للصراصير بعد قليل. يضع براد الشاي الأسود فوق العين اللاهبة، بعدما كان حذرًا ألا يقسو على الصنبور لكيلا يغرق المكان بالمياه. يمد يده حيث توجد أقداح فخارية ذات ألوان فاقعة، يختار الأحمر فيها بلا تردد، ليوجه ذات اليد حيث يوجد دولاب معلق ضئيل يستخرج منه النسكافيه ومسحوق اللبن المجفف، ليضع منهما في ميكانيكية فرشة لقعر القدح. كانت كل حركاته بسيطة، عفوية، غير مترددة كضيف أو متصنعة كزوج حديث. كان، وبفعل شرعية تلك الحركات، مالكًا لبيت. دارت برأسه، طوال هذه الأثناء، تلك النوعية من الأفكار التي تسلينا في لحظات الصباح الأولى، من قبيل النوم جميل، ولقد صحوت مبكرًا قليلاً، وبعض من التأفف من ثقل الجسد، وسؤال لاه عن انتعاظ ذكره، يتبعه سرور حقيقي منبسط لأنه يُذكر نفسه بما قراءه في يوم عن الانتعاظ الصباحي وكيف هو دليل حاسم لا يقبل الشك على حسن أداء ودماثة خلق عضوه التناسلي، وليس بسر علينا كيف ينظر الرجال إلى ذكورهم بالطبع. ولسنا بحاجة للتأكيد على أن موضوع الإفطار قد استغل حيزًا لا يستهان به من تفكير الشاب، وهي التفصيلة التي تراوح مكانها دائمًا بسبب مفارقة الطموح والكسل: شطيرة جبن رومي أم صحن من البيض المقلي بالزبد؟
باختصار، وعندما حسم بطلنا أمره وجلس ليمضغ صنيعته من البيض المقلي والنسكافيه ذو اللبن المجفف وسكر قليل، لم يكن هو ذلك البطل المعذب الذي يعرف كاتبنا أننا نود أن نراه، وسيلقي لنا بعطاء إتباعنا طريقه الهادي بعد قليل من الوقت. نحن مازلنا أصدقاء مخلصين، نقبل ما يلقى لنا من معيته السنية بشكر وعرفان، ولا نتساءل حتى هذه اللحظة عن أسبابه المخبئة وهدفه الأكيد. نحن مازلنا أصدقاء، نحن وهو، ولكن لا اعتقد أن كلينا مغفل ليحلم بدوام تلك العلاقة البريئة غير الهامة كتحية عابرة. هناك احتمال للملل، فيلقى بالكتاب في ركن مهمل حتى يتفضل القدر بسواقة القارئ المسكين لدورة أخرى من العذاب، هو أو ضحية أخرى من الأصدقاء أو الزوار أو الأحباب أو الأعداء غير المعلنين- والأخيرين يستحقون ما يلاقون. هناك الانشغال، وهو لا يفرق كثيرًا عن أخيه السابق. هناك إكمال الكتاب واعتباره "لطيفًا"، وهو مصير أبشع من الكوابيس بالنسبة للآلهة ومُعز بتواضع بالنسبة لبعض البشر. هناك، وبالطبع هذا هو أسمى الأماني، تلك الحالة من الإعجاب، سواء بكراهية مبالغ فيها أو بعشق مبالغ فيه، تلك الحالة من الاهتمام، من التحقق، من السطوع على العالم كشمس، وهو ما سيطرب قلب الكاتب النرجسي طبعًا. ولكن، وكما نعلم جميعًا، فإن هذه العلاقة أيضًا هي ابعد ما تكون عن الصداقة.
نحن لسنا أصدقاء لمحمد علاء الدين، وهو ليس بصديقنا، وكلانا يعلم ذلك. ولكن عليه إرضائنا، وهو ما لا يضعه على قائمة أولوياته، وعلينا التغزل في موهبته، وهو الشيء الذي لا نقره.
في تلك الدوامة المقلقة ما بيننا وبين الكاتب تقف هذه الشخصية، بطلنا، ذلك الذي تعاقدنا معا أنه موجود، وأنه يلوك اللقمة الأخيرة من بيضه المقلي بعدما أنهى مبكرًا قدح النسكافيه، هو لم ينهيهما معا كما نشتهي، فالكاتب أدرك أنه إن رسم صورة بالغة الكمال للتخييل فستفقد كثيرًا جدًا من وهم براءتها. يمكننا بمزيد من الأسى أدراك كيف تقف علاقتنا بالكاتب نيرًا في عنق ثورنا المحبوب، بطلنا التعس، في مسألة كتزامن أكل البيض وشرب النسكافيه، فيمكننا التأمل فيما هو أعظم من ذلك، فيما هو ابعد، في هذا النحت المتقن لجبلة تشبهنا كل الشبه، ولكنها تتحمل بطيب خاطر كل خطايانا وألاعيب ساديتنا ووحشيتنا بمعزل عن أقسام الشرطة ودفاتر الأخلاق ومواثيق حقوق الإنسان. هي شخصية لا تدري من أمرها شيئًا حقيقة وبشكل مبهج.
قرر الكاتب الذي يحمل اسمًا أن تدرك شخصيته التي لا تحمل تلك البركة بعد أن تُدرك مأزقها حين تفكر في جدول اليوم. فعلاً؛ أي لحظة هي أصلح من هذه؟! يتخيل الكاتب أن في اللحظة التي نفكر فيها في موضوع قضاء اليوم فإن هويتنا الشخصية جدًا والخاصة جدًا ستبرز بلا شك، كيف يمكنك قضاء اليوم وأنت لا تعرف من أنت؟
لذا، فعندما بدأ بطلنا التعس في التفكير لم ينتابه الذعر فجأة، كما يعن لبعض القراء الساديين، لقد قفزت لرأسه فكرة أن يذهب للتمشية، بما أننا في صباح جميل، في يوم من أيام شتاء القاهرة اللين العريكة والمرحب أبدًا. هذه فكرة جيدة، قال لنفسه، ولكن شيء ما بدأ في الزحف بدأب سرب كامل من النمل بداخله، بعدما قرر النزول لمنطقة مثل الجزيرة، بشوارعها الداخلية الهادئة وقاطنيها الذين يتجنبون النظر في العيون، سيأخذ منه ذلك قرابة نصف الساعة من التمشية من حيث تكمن هذه الشقة. بدأ الزحف بخبث عندما عجز عن تحديد إن كان مشغولاً بشيء آخر، عمل أو موعد ما، عجز بالطبع عن تذكر ذلك، وعزا نسيانه لبقية من نعاس تعزى بميكانيكية حركاته، التي لم تعبر عن انتباه حقيقي. ولكن السرب قد بدأ زحفه، رويدًا رويدًا، فبدأ صاحبنا يسأل نفسه عن مهنته، ماذا يفعل أساسًا في هذه الحياة البائسة. كان من الممكن أن يقوده ذلك لمرثيات وجودية، تتخذ من ساعات الصباح الأولى المنعشة مرتعًا مثاليًا لمفارقة محزنة، فالصباح الذي يغوي بالحياة هو ذات الفترة من الزمن التي يمكن أن تنطلق فيها أكثر الأسئلة سوداوية، فيمكن للمرء أن ينظر للصباح وينعي موته القادم الذي سيحرم عينيه من تلك البهجة، أو يمكن أن ينزلق، كما في حالة صاحبنا، إلى مستنقع السؤال عن معنى وجوده ومعنى عمله ومعنى مواقيته ومواعيده.
نقول انه يمكن أن ينزلق، وهذه في الظروف الطبيعية فحسب، وبما أن ظرفنا هذه لا يمكن بالضبط تصنيفه تحت هذه الخانة، فلم تقوده تلك الأفكار إلى فضاءات يسبح فيها نيتشه ودريدا، من سطح مستقر نجادل بأنه خادع، بل إلى نوع مبتذل آخر من الأسئلة، صريحة ورخيصة ومتاحة، ولكنها تكتسب تلك القوة المدوية حين نقع في مأزق صاحبنا، حين نكتشف أن ذلك السؤال الذي تعديناه منذ إصرار والدينا على نهج ما، ومدرسة ما، وأصدقاء ما، يلخصه اسم يحمل هذه الأشياء كلها وإجابتنا نحن عليها، ما أرادونا أن نكونه وما نريد أن نكونه وما نحن عليه فعلاً. هذا السؤال الذي نبرز إجابته بزهو أحمق أمام عميل أو شرطي أو امرأة مشتهاة، هذا السؤال في الواقع لم نتعداه بعد. لم نجبه بعد. لا يوجد سطح خادع من الأساس. لا يوجد "ماذا لو"، لأنه لا يوجد ماذا، في حالة صاحبنا الحالية.
كان في ردهة منزله، أو ما اصطلحنا على تسميته كذلك، حين عجز فجأة عن تحديد اسمه. لحظات من الضياع، بالطبع، كما يحلو لنا أن نتخيل، قبل أن تقفز لدماغه الفكرة المعقولة في مثل هذه الأحوال. مد يده لسترة، سترته، السوداء الملقاة بإهمال حميمي فوق أريكة صغيرة. ابرز حافظة بنية جلدية كان يعرفها جيدًا. انتزع من داخلها بطاقة هويته. عليّ الدين نظمي. اسم لا يثير لديه أدنى قدر من الاهتمام، كما لو أُلقي على مسامعك اسم لشخص لا تعرفه، فقط استرعاه جرس الاسم، بالفعل هناك تجذر، فالكاتب، محمد علاء الدين، يظن اسمه موسيقيًا ولم يبخل بمنح صاحبنا ذلك الشرف الحافل بالتشكك والذي يحوم على أطراف السخرية: الاسم ذو الجرس الموسيقي، الفاقع والفارغ كاسم نجم سينمائي أو بطل رواية رخيصة. في الحقيقة كان الكاتب ساديًا؛ نزع من شخصيته بركة الاطمئنان ثم تركها وحيدة، مجرد فكرة وحيدة مكتئبة كُتب على ظهرها كلمة "تخييل" بحروف نيون وقحة اللمعان. لم يحاول الكاتب مساعدة شخصيته، وضع المساحيق المتقنة عليها، اسم برئ جدًا، شائع جدًا مثل محمد أحمد أو محمد عبد الله أو أحمد محمد أو عبد الله محمد أو عبد الله محمود حتى، أو، وبنبل حقيقي، يمكنه تركه مجهلاً. يقولون أن ترك الاسم مجهلاً يزيد الرابطة بين القارئ والشخصية، يقود لنوع من التماهي بينهما، وأنت أنا وأنا أنت. لكنه كان قاسيًا جدًا.
يهز علاء الدين رأسه ويجادل، لا.. لا.. لا. أيها الأحمق، هو اسم لا يعرف بالضبط هل يخصه أم لا، في واقع الحياة، في تلك الجهامة التي تتمتع بها، لا يمكنك فتح حافظتك لتجد اسم لا تعرفه يحتل بطاقة هويتك، فقط إن كنت نصابًا أو لصًا أو شاهدًا في برنامج حماية الشهود الذي دوشونا به في الأفلام الأمريكية. ولكن في الخيال، هذا الخيال اللطيف الجميل الذي نلعب فيه معًا، من الممكن أن يفتح بطلنا حافظته ويُصفع باسم وقح مثل هذا ولا يحس فعلاً انه اسمه. هذا ما يجعل من هذه الرواية رواية، يا أيها المُنظّر الأحمق. لقد منحته حيلة فنية مثل هذه، اسم ولا اسم في ذات الوقت، وبينما هو وانتم تراوحون المكان، في شك وعدم يقين، يستفيد هو من وجود اسم ما يشير لكينونته بديلا عن ضمير الهاء الموحي بالتهميش، دون أن يحمل وزر استقرار هذا الاسم.
وبدون الخوض في جدال عميق عقيم مع الكاتب، والذي تعرفون جيدًا انه لا يسمع غير نفسه وحسب، فلنقل أن عليّ قد وقف حائرًا والحافظة في يد وبطاقة الهوية في يد أخرى. المهنة حاصل على ليسانس الآداب، بما يعني أنه عاطل، أو يعمل عملاً حرًا لا يختلف كثيرًا عن البطالة، في هذه الدولة الزهراء التي نتشرف بالعيش فيها. العنوان هو ما يعرفه جيدًا: شارع شامبوليون الذي يرقد بالخارج، هو يعرف أنه إذا أطل من النافذة أمامه فسيجد مقهى بالأسفل وبجواره بعض من عاملي صيانة السيارات، الأوغاد اللطفاء الذين لم يبدءوا وصلة غنائيتهم الحديدية الصدئة بعد. عجيب هذا، قال عليّ لنفسه وهو ينظر لساعة يد من المفترض أن تكون له. الساعة الآن العاشرة صباحًا ولم يصدر صوت بعد. حدس أن اليوم هو الأحد وأكد له هاتف محمول، هاتفه المحمول، ذلك. يتصفح الأسماء التي تحتل الهاتف. أسماء لا يعرفها ولا تستحضر صورًا بعينها كما يحدث مع الأسماء التي تغزو حياتنا دومًا. الاسم الأول مثلا، إيه نقطة هيلمي، كما يمكن نطقها بالحروف اللاتينية، هو اسم مبهم لأنه لا يعرف ما هو اختصار حرف الايه- الألف: أحمد.. أمجد.. أشرف.. غير أن ذكر إيه نقطة هيلمي، أو ألف نقطة حلمي، لا يجعله يفكر بقامة قصيرة أو طويلة، أنف ضخم أو متوسط، حس للدعابة أم لا. لا شيء. قائمة طويلة بعد ايه نقطة هيلمي لا تثير لديه أدني درجة من التعاطف مثلما هو الحال مع عليّ الدين نظمي، هذا الاسم السخيف، هذه الدرجة من انعدام الضمير أن يُسمي جده أباه بـ"نظمي" وهذه الدرجة المقابلة من الاستهتار أن يُنجب هذا الـ"نظمي" ثم إلى درجة متقدمة من الشر حين يُسمي وليده بـ"عليّ الدين"، بذلك الشد المؤلم في النطق. عليّ الدين. عليّ الدين. لم يتبادر إلى ذهنه ذكرى منادة أب باسم مثل نظمي. من الطبيعي أن ينادي الابن أباه بكلمة أبي، لا باسمه المجرد. يكتشف عليّ، كما نكتشف نحن، والكاتب من قبلنا، أننا لا ننادي آبائنا بأسمائهم مجردة، وإلا صار فعلاً شديد الوقاحة. نحن ننادي آبائنا بدورهم الاجتماعي، بكلمة الأب التي تعني قدرًا عظيمًا من التوقير واللوم في آن.
وبالطبع استغل كاتبنا هذه الفرصة من السكون ليدخل حدثًا جديدًا يخرجنا من دوامة التنظير التي سادت وستسود العمل فيما بعد للأسف. حادث صغير يريح القارئ ويعطي له دلالات مأمولة، فابتكر الكاتب نموذجًا سيئًا فيما يلي:
دق جرس الباب فانتزع عليّ الدين من استغراقه العجيب في دوامة جديدة للغاية عليه. غزاه شعور ما بالتردد للحظة، شعور لم يعرف من أين أتاه في الوهلة الأولى، ولكنه تحرك وفتح الباب بهدوء أثار استغرابه. وراء الباب كان هناك مُحصل الكهرباء المتشاغل بما في يديه، الناظر له في اهتمام وهو يقلب أوراقه في سرعة، والذي يبادره بعملية: نور. يمد يده لعليّ بإيصال. ينظر عليّ في الاسم ليكتشف بمزيد من البهجة أنه اسم آخر. يقول المُحصل في اعتيادية خمسة عشر جنيهًا. ينظر له عليّ بلا تركيز فينظر له المُحصل هو الأخر. يضبط إطار منظاره الطبي الأسود الغليظ فوق وجهه الأسمر، يقول بغيظ مكتوم إن كان يحب أن يعود في وقت آخر؟ فكر عليّ انه لا يريد أي وقت آخر ليطل عليه فيه: يجب أن أخلو بنفسي، أن افهم ما يجري هنا. ولكن غيظ المُحصل نفث عن نفسه عندما أضاف أنه يعبر ببابه كثيرًًا ولا مُجيب، وانه حمدًا لله أنه وجده اليوم. لم تؤثر تلك الكلمات حقيقة في نفس عليّ كتأنيب للضمير كما يحب المُحصل أن يفهم، لقد عقد عزمه بالفعل: سأستأذنه من فوري وأعود لألتقط من الحافظة الجلدية وريقتين ماليتين وأعود له بهما ليشكرني ويمضي صاعدًا. لمح باب الشقة المجاورة ينغلق. يعلم أن ساكنها رجل أربعيني جهم يعيش وحيدًا ولا يحب أن يرد تحية من يقابله. قبل أن يخرج المُحصل من مدى رؤيته فكر في أن يسأله عن صاحب الاسم الثاني في الإيصال، ولكن أنى له أن يعرف؟ سؤال مقنع انتشله من التردد فأغلق الباب بهدوء.
كان هذا هو حادثنا الصغير الذي دسه الكاتب وهو يأمل أن نفهم، أو على الأقل أن نضع في الاعتبار، أن شخصيتنا هذه لا تستقر في بيتها كثيرًا، مما يرمي ضبابية محببة في سؤالنا المشترك، نحن والبطل، عن حقيقة هويته. ما هو النشاط الذي يستغرقه فلا يكون في بيته عادة؟ هذا هو سؤال الكاتب المأمول، ولكننا وبمنتهى قسوة القلب يمكننا أن نضع ساقًا فوق ساق وننفث دخان سيجارتنا العزيزة ونسأل مجددًا، إن كان عدم فتح الباب للمُحصل دليلاً على عدم التواجد من الأساس، ثم نستطيع أن نُقسم سبب عدم فتح الباب، فلو كان سلوك واع لدل ذلك على مزاج سيء، فلس مستقر، أو وقت دافئ مع أنثى ما، ولو كان سلوك غير واع فيمكننا تحديد بعض الأسباب المُقنعة مثل النوم العميق، تدخين الحشيش أو شرب الخمر، وبالتأكيد بعض هذه الحوادث كانت بسبب عدم تواجده في المنزل، بعضها وليس كلها.
يمكننا الاعتراف بأنه نصاب لا بأس به، رغم جهله العميم وتسرعه النزق. لقد ألقى بالموضوع فوق أفخاذنا المستعدة لحمل طفلنا المشترك، قصتنا، وتدليله بكل الطرق الممكنة، فهو إن ترك لنا تلك التفصيلة، دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في الاحتمالات المتعددة لذات الشيء، وهو يعلم أننا سنضع الموضوع بطريقتنا، وسنفهمه بطريقتنا، وسنقرؤه-بالطبع-بطريقتنا. حسنًا، يمكننا الآن الشعور بالذنب تجاه كاتبنا المحبوب، لأن بعض قراءنا هاهنا سيفهم النصب على انه هو ذاته المنتمي لقسم المواد الجنائية في كليات الحقوق أو في دهاليز المحاكم والأقسام. الموضوع ليس كذلك بالضبط، ويحضرني مثال كاتب فارع القامة عظيم الاستدارات شامخ الأنف مثل جويس، جويسنا العزيز-إذا ما جاز لنا التباسط- كتب في مرة انه قصد أن يضع لغزًا صغيرًا في كل جزء مما كتبه في روايته الفخيمة يوليسسيس؛ ألغاز لن يفهمها النقاد وسيقضون حياتهم في تفسيرها وتمحيصها والوقوف على ظروفها ونتائجها وما إلى ذلك، وتأكيدًا كانت هذه من أكبر عمليات النصب الأدبي في تاريخ البشرية المُعاصر، بلا شك.
أرجو منكم أيها الأعزاء ألا يفهم أحدكم أنني أقارن فسلاً ضئيلاً مثل كاتبنا هاهنا بكاتب مثل جيمس جويس، أو جيمز جويس، أو شيموس جويس، أبدًًا، وحاشا وكلا، فقط أردت تبيين أنه إن كان واعيًا بتلك الخدعة اللطيفة فلا مناص من اعتبار ذلك شرعيًا في دنيا الأدب وفي دنيا الحكايات، وأود تذكيركم، يا أيها الأعزاء، أن شهرزاد كشخصية مبدعة، كراوية، استعملت قص الحكايات خدعة مبررة لأكثر الغايات نبلاً: إنقاذ رقبتها.
على العموم دعنا من هذه الوصلات المليئة بالهراء للأسف، ولنعود لبطلنا، عليّ الدين نظمي، ذو الاسم المُضحك والمصير المحتوم، الذي يستنجد بنا للالتفات إليه قليلاً.
جرب عليّ أن ينظر في صندوق الوارد في هاتفه المحمول، لا شيء، لا رسالة واحدة توضح له أي شيء عن أي شيء. نظر إلى كومبيوتر منزلي متهالك يرقد بجوار الحائط، خطا إليه بخطوات سريعة ومد يده مشغلاً إياه. في خانة كلمة السر، التي تسمح لنظام التشغيل أن يواصل مهمته، وجد عليّ نفسه يكتب اسمه البغيض. لحظات وكان الكومبيوتر مفتوحًا أمامه، عاملاً بأقصى طاقته المتواضعة، وفي خلفية الشاشة، ورق الحائط كما يسمونها، صورة امرأة مغوية. لم يضع وقتًا في أن يسأل نفسه إن كان يعرفها أم لا، فمن الواضح إنها صورة مأخوذة من احد المواقع الإباحية، صحيح هي لم تكشف أي شيء غير فرق نهديها، ولكن ذلك التبرج الفاقع، والاهتمام الزائد بإبراز أنوثة متفجرة قد تكون بالطبع مزيفة، بينما هي ليست بممثلة مشهورة أو بمغنية معروفة أو بمذيعة ذات وجه مألوف، يعني أنها أنموذج لإهراق المني فوقه، ليس فوقه بالضبط طبعا كما تخدعنا اللغة الوصفية المملة. تجاوز عن ذلك، وفتح ملفات الكومبيوتر، لا شيء سوى بعض الألعاب، برامج الدردشة الاليكترونية، عنوان بريده الاليكتروني يثير بعض من الشفقة: كولد هانتر 2000. الصياد البارد 2000، أو، لمزيد من الفصاحة والدقة (التي تجعل كاتبنا راضيا عن نفسه): الصياد البارد لسنة 2000، أو للعام 2000، حين كانت السنة ألفين تعني الأفق ذاته. لم يدخل لبرامج دردشته، والتي استخدمها جميعها تحت ذات المسمى، لأن خدمة الانترنت لم تكن هنا. بحث قليلاً فوجد ملفًا إليكترونيًا متخمًا بالصور: صور له مع أشخاص غالبا هم في مثل عمره. لم يكن هناك مساحة لكثير من الجهد لتعرف بعض المناسبات، فيبدو من شكل المكان في الخلفية أن هذه الصورة تخص أصدقاء الجامعة، وهذه تخص مناسبة اجتماعية حضرها بعض الأصدقاء الذين لا يلزم كونهم أصدقاء جامعة، وهذه صورة رومانسية مع فتاة، فتاة تذكر اسمها الذي يرن في مسامعه حالاً: شيرين. شيرين فتحي. جسد ابيض مستدير، قد تكون استدارة ردفيها أعمق كثيرًا من تكوير نهديها، ولكنها ذات ابتسامة جميلة على كل حال، ومادامت قد قاومت بعض عوامل الطبيعة التي نعدها متبجحة بصبغة شقراء غير مبتذلة، فهي قد استعانت بمشد الصدر الرافع لتضع بعضا من العزاء حول تلك البقعة الغالية من جسد أنثى.
وجد لهما العديد من الصور، في مواقف رومانتيكية ساذجة، مسك لليدين ونيل متسامح وبعض العابرين واحدهم يلوي شفتيه متبرمًا لأن الشقراء المصطنعة وضعت ظهرها فوق صدر بطلنا وابتسمت في تغابي عن الأبعاد الخطيرة التي توحي بها هذه الحركة. كثير من الصور، تبدو فيها هادئة التبرج، بملابس تبدو براقة خادعة، لكنك إن أمعنت النظر، وبقليل من الحنكة وبعض من الحياة، يمكنك تمييز رائحة الطبقة المتوسطة المتوسلة بمركز اجتماعي أكثر تقدمًا وأكثر اجتذابا للحساد. هو أيضًا، كان يعرف مثل هذه السترات التي يتفنن البعض في شراءها من محلات رخيصة ولكنها مقنعة، لسببين أساسيين؛ السبب الأول هو تفصيلة الملابس التي حيكت بقدر لا بأس به من الأناقة (دون مناقشة موضوع الخامة ذاتها)، والسبب الثاني أن عليّ كان يملك هذه الهيئة المتعاونة، ملامح وجهه التي لا تصدم العابرين بضخامة فجة أو بنمنمة متحذلقة، ملامح وجه مستوية وعينين يبدو فيهما بعض الاندهاش الطفولي دومًا، وإذا أضفنا بعض المحسنات الاجتماعية التي تتصل بطبقة ما، فقط كان عليّ فاتح البشرة، لا نقول ابيض، بل فاتح البشرة، وذو شعر يقترب بخجل من النعومة، وصدر يعتبر عريضًا بالقياس لطوله المتوسط، هذا النوع الذي يحب الناس القول بأنه يستطيع ارتداء ما يريد وسيبدو لائقًا فيه، هكذا كانت الحرباء تقدم نفسها للأغراب بأسوأ تعبير ممكن عن النبل: أبن ناس. في بعض الصور أضيف منظار طبي أنيق، فزاد من شراسة الخدعة ومن حبكتها، هكذا بدا الزوج، هاربين من طبقة ما، وعلى قدر من الملاحة، وفوق وجهيهما دومًا هناك ابتسامة بلهاء، هي ابتسامة جميلة، لا شك في ذلك، ولكنها بلهاء بذلك الوعي اللعين الذي يلعب في عيوننا حين نراهما، ذلك الحكم القاسي على حياتهما القادمة: أنهما يبتسمان في بلاهة لأنهما يتخيلا أن ما هو قادم هو أفضل، هؤلاء التعساء.
بدا وكأن ظهور شيرين فتحي في حياته الجديدة هذه، حياته التي بدأت منذ ساعتين فحسب، قد أضفى بعض من اليقين المرغوب، كانت هناك شيرين وكانت هناك حياة، سأعود لها عبر تفريعة تمتد عبر نقطة وأخرى فوق طريقها. ما هي سوى وعكة، أنتم تعلمون، يمكن لبعض الناس أن يستيقظوا من النوم فيقتلوا زوجاتهم مثلاً، أو ليهربوا بحصة لا بأس بها من خزينة مؤتمنين عليها، أو لرمي أنفسهم في بحر يفصل بينهم وبين أحلام بعيدة في حياة أخرى. يحدث هذا يا رفاق، يحدث. يعلم أنها ليست بزوجته، لا حاجة له للنظر في أصبع يده اليسرى الشاغر لكي يدرك ذلك. كانا حبيبين، في أيام الجامعة، كانت تلفظ اسمه بعذوبة: عليّ، ويمكنها تدليله باسم مبتذل مثل لولو. حاول إقناع نفسه بذلك، بعدما ضربه شعور بعدم الاتساق، شعور بالغربة عما يجول برأسه من أفكار، مثلما تتأمل هندام امرأة وتدرك أن هناك شيء غير متسق فيها، قبل أن تكتشف كونها صورة لتيرينس ستامب في فيلم بريسيلا. جزء من عقله ما يزال يصر على أن هذا التاريخ هو مفترض، مجرد مفترض لا يملك بلاهة يقيننا واستقراره. تضئ في داخله فكرة فيضع سهم الفأرة فوق الصورة بعد إغلاقها، يخبره الكومبيوتر بأن التاريخ الأخير لخلق الصورة هو منذ سنين أربع. فتح الصورة بفعل عبثي، فقد كان رآها قبل ثوان قليلة؛ كانت صورتها معه في حفلة ما وحولهم بعض من الأصدقاء، أو الرفقاء. أربع من السنين، تاريخ ليس بالبعيد جدًا ولا بالقريب الذي يعول عليه. انتبه أن هناك قطع غير مريح في جانبها، كمن حاول نزع شيء من سياق التاريخ، كمن تحامل على تفصيلة ما مدت بوزها العفن في مواجهة عينيه. أحس أن من التقط الصورة لا يمكنه ضبط إطاره على هذا الحجم الصغير، هذه الصورة ما هي إلا جزء من صورة أوسع، هي بنفسها التفصيلة من الكل. فكر ربما هو فعل ذلك لتحديد المناطق، لرؤيته وحيدًا معها في فيزياء صورته بعدما خانته فيزياء الواقع. لا يوجد أي سبب للقطع بأنه يستبعد الباقي من أجل جناية في حقه، أو حقهما، أبعد من مجرد التواجد معهما في ذات الحيز المكاني. بالطبع لم يفلح في اقتطاع صورة صديق وصديقة تداخلا معهما لدرجة لم يكن اقتطاعهما من المشهد هو الحل الأمثل. الصديق له ابتسامة مصطنعة وخصلة تميل على الجبهة لا تقل اصطناعًا، بينما بدت الصديقة غير مرتاحة تماما مع قميصها المحبوك فوق جسدها وشعرها المكوي بحذق، يبدو أن هذه هي مرة تبرجها الأولى بعد فترة طويلة جدًا-ربما أكلت اغلب حياتها القصيرة- من ادعاء التحفظ. على العكس كانت شيرين، ابتسامة واسعة كضحكة، وميل بالوجه إلى يده التي استقرت فوق ذراعها البض، في يدها سيجارة وصدرها منبسط مكشوف أمام الرائي تحت قميصها القصير بلا محاولة لإخفائه بتقويس كتفين أو عقد ذراعين. ابتسم وعندما ابتسم داخله شعور قوي بأنه كان معها في هذا الفراش الذي هجره منذ قليل، حنين ما، لا يخضع للعقل ولا لخططه وتبريراته وتوسلاته، يخبره أنهما كانا زوج كامل ومطلق الصلاحيات.
مد يده إلى هاتفه المحمول، نقر حروف اسمها باللاتينية، ولكنه لم يجد شيئًا.
جرب البحث ثانية، من أول حرف الأس اللاتيني حتى، ثم السي، فالبحث بالعربية التي لم يجد أي بيان مكتوب بها. لا شيء. بدا له ذلك غريبًا، لماذا يمحو الإنسان رقم حبيبة؟ بالطبع كان سؤالاً ساذجًا، يكفي فقط إضافة صفة السابقة وسيفهم أي حمار لماذا، لقد مضت أربع سنوات بعد التقاط هذه الصورة، حتى مع المجادلة بأنها ليست الصورة الأخيرة لهما معا، فلابد من الاعتراف أن السبب المنطقي القريب أن وجود رقم شيرين معه في هاتفه سيثير شعوره بضعفه، أو غضبها، أو كلاهما. جاءت شيرين العزيزة واختفت في اقل من ساعة كان يتفحص فيها صورهما معا. تركته جالسًا فوق كرسيه، مواجهًا للكومبيوتر، كبقايا ديناصور كان يصول ويجول في الدنيا الواسعة. كم مهمل ذو اسم لا يحبه ولا يصدق حقيقة انه يخصه. تبدو مسألة بقايا الديناصور عجيبة قليلاً، ليس لأنه تشبيه به شبهة العرج والاستسهال، وهو كذلك بالمناسبة، ولكن لتلك الفكرة البديهية والمليئة بالتناقض؛ رثاء الماضي بينما نحن نعيش فيه. قد يكون الأمر هينًا حين نفكر في أن لاعب الكرة المشهور الذي ينزل للملعب فهو في الحقيقة لا يُنظر إليه باعتباره حاضرًا، بل بكل الألعاب الماضية التي "صال وجال" فيها من قبل، ولكن الموضوع ينقلب مادة للتساؤل عندما نتخيل الكاتب، في كتابته وفي نومه وفي قيامه، في تنفسه وفي حركاته وفي سكناته، وهو يفكر في كل الأساتذة السابقين. السابقين. في كل الروايات التي كُتبت "من قبل". ذلك الكاتب الهمام الذي يستشرف المستقبل بالنظر مليّا للماضي في مفارقة محزنة. في قلب كل رجل فينا، سواء كان كاتبًا أم لا، رغبة في أن يتذكره لاحقيه بعبارة مثل "كان رجلاً طيبًا". نتمنى أن نُذكر بالماضي ونتمنى أن يكون هذا هو مستقبلنا، أو مستقبل اسمنا. وبحياد شديد، عندما نفكر في عليّ الدين نظمي، ذلك الشاب الذي لا يملك الركون لأسمه ولا الركون لما يتخيله عنه من ماضي، فنستوعب أي ثقب أسود وضعه فيه الكاتب النذل المولع بالماضي مثلنا تمامًا حين ظهرت شيرين واختفت، حاملة معها كل مادة التاريخ وكل خيارات التأريخ التي نخاف منها أكثر من أي شيء آخر على وجه هذه البسيطة.
ولم يحمل الكاتب هذا في جعبته فحسب، فقد كان هناك أرنبًا صغيرًا ينتظر نصيبه من الجزر. حصل ذلك عندما قرر الكاتب أن جرس الهاتف المحمول لابد وأن يرن، رن رنينًا مزعجًا، كصوت الكورال في المأساة الإغريقية (هو تشبيه مبتذل لزج ولكن الكاتب لم يستطع مقاومة هذه الرومانسية المتحايلة المصرة كغريزة). أطل الأرنب برأسه عندما تسلل لأذنيّ عليّ الدين صوت بارد: "أحضر لي الآن، في المساء، في المكان المعتاد". في المكان المعتاد، هذه الإشارات التي تتوسل الغموض وتصطنع الإثارة، مثل هذه الجمل التي تشد عينيّ القراء إلى السحر الذي يمارسه الكاتب الأريب المريب. الكاتب ذو الجعبة.
ود أن يخبر المُتصل بأنه لا يعلم أي مكان يقصد بالضبط، ولكن الرجل-الواثق جدًا فيما يبدو من سلاسة التواصل- أغلق الخط دونه. ومع صوت التكة الصغيرة تصاعدت أشياء كالبخار في تلافيف مخ عليّ، الصوت، أنف حادة وطويلة، ذقن نابتة عادة، ابتسامة مصطنعة وخصلة تميل على الجبهة لا تقل اصطناعًا. نعم: كان هو الصديق الذي دس نفسه في صورته. المكان المعتاد؟ المكان المعتاد مرة أخرى، البخار يتصاعد بعفوية الاعتياد، رأي صورة مخاتلة لشارع، مغطاة بغشاوة شفافة، بالضبط كصورة منعكسة فوق مرآة تحتفي بالبخار. سرب النمل، ذات سرب النمل اللعين الدءوب.
فوق السرير، سريره، قرر إغماض عينيه وترك المجال لبعض من الاسترخاء ليشده في تلافيف القماش البارد تحته. بعد هذا الرقاد سأستعيد كل شيء، سأثق فعلاً في هذا الاسم التعس وفي هذه الحياة التي لا تبدو مبشرة. قرر أن ينعس، ومن داخل حنايا دماغه أتت تلك الخدعة الصغيرة اللطيفة التي تقول إننا إذا ما قررنا النوم فسننام، خدعة تكمن لطفتها في إنها ما تزال تتردد بين حين وآخر بينما البشر يقصفون أجسادهم بالمنومات بين حين وآخر. هي خدعة تتبع تلك الأحلام البعيدة التي تزعم لنا إننا إذا ما أردنا شيئًا بصدق فسنحصل عليه. الصدق، تلك الكلمة التي لا تقل بغضًا عن الكذب؛ لا تقل بغضًا لأنها تصير هنا تكأة ومبررًا لكل ما لا نستطيع استحواذه، فنلوم نفسنا لأننا لم نرد الشيء بصدق. ووراء الصدق نجري ونعدو. ويمكنك التبول فوق قبري- كما يقول أولاد البلد- في حالة إمساكك ببضعة ملايين من الجنيهات فقط بذلك الكم من الصدق الذي "يهز أعطافك" رغبة في المبلغ. فقط، فقط، نحن لم نرد هذه الملايين بصدق.