designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Wednesday, September 12, 2007

..وفاة رجل طيب


"كانت تنظرُ لي وعلى وجهِها ابتسامتها المعتادة، أحببتُ حماسي الأحمق في وصف الأماكن وذكرياتي بها في دقة مُرشد سياحي. كشك عم عباس الراقد على بعد قليل من ناصية أحببتها كما أحب نفسي. كنت ألتقي هنا بأصدقاء وصديقات العمر خارجين من مدرستهم ليجدونني واقفا أدخن السجائر"الفرط" متأملًا بنات الجامعة الأمريكية في وله لم يُغادرني حتى الآن. آلاف من النهود والمؤخرات والوجوه لم يتغير أبدًا إلى يومي هذا، وكأن المكان استحال معملًا كبيرًا للاستنساخ لم يفقد ذائقته لحظة واحدة. حييتُ الرجُل الطيب و اشتريت علبتين من السجائر المارلبورو، أعطيتها الخفيفة منها واحتفظت أنا بالثقيلة. أخبرتها أنني أقلعت عن تدخين المارلبورو الأحمر إلا في المصائب ولكنني أدخنها الآن بشكل مُنتظِم. دخانها الثقِيل يخرج معه أطنان من التوتر والرغبة المكبوتة في الخنق والتمزيق والتنكيل، ويجعلك كائن متضايق فحسب. الشارع يمتد إلى ميدان التحرير الذي شهد حجيج يومي إلى الأماكن نفسها. تعودْتُ أن أجلس أنا و محسن على مطلع المترو من ناحية شارع طلعت حرب مساءً وحتى الفجر أحيانًا. الأمر ازداد متعة الآن بافتتاح الفرع الجديد من كنتاكي منذ عام أو أكثر قليلًا فصار مزارًا مقدسا للأحباء والساقطات والشواذ."

عم عباس توفاه الله.

رأيت اليافطة الورقية الاعتيادية، بذات سطور الكراريس و الكتابة الأفقية، المعلقة علي الكشك المغلق.

كنت قبل ثانية مع صديقة نمشي في شارع محمد محمود، كنت أقول لها أنني كتبت عن العم عباس و كشكه في "اليوم الثاني و العشرون"، و اشرت عليها بأن تنظر إلى يسارها، عندما نصل للتقاطع الصغير، الذي يرقد الكشك الأليف في عمقه. كنت أجهز نفسي للسلام علي العم عباس الطيب، قبل أن أتسمر في مكاني ناظرًا إلى اليافطة.

سلمت عليه مذ يومين و أنا ابتاع منه علبة من المارلبورو الأخمر، ناداني بـ"أحمد" و سألني عن الأحوال. ابتسمت و صححت الاسم له، فاعتذر بأنه كان مريضًا، و الذاكرة لم تعد كما كانت قبلًا. قلت بذات الابتسامة لا يهم. ربنا يديك الصحة يا عم عباس. شكرني بابتسامته الصبوحة المعتادة، من تحت شاربه الكث و عينيه اللاتي تكونت فوقهما غلالة رمادية دائرية، كعادة المتقدمين في السن. الغلالة التي لم تنجح في تخفيف نظراته الحادة الذكية.

و قبل اسبوع أتي اسمه عرضًا، اكتشفت أن زميلة في المكتب كانت جارتي. عائلتها تمتلك العمارتين علي الناصية الأخرى لغم عباس. تبادلنا الذكريات كأبناء ملاك بيوت قديمة راقية في باب اللوق سرعان ما استقلوا؛ بدافع الزواج في حالتها و الاستقلال الذي لابد منه في حالتي. استرجعنا ايام قديمة، و ذكري شارع قضينا فيه اغلب العمر و لو كنا علي غير معرفة ايامها. الليسيه و الجامعة الامريكية و مدارس الحوياتي و الفلكي و القربية. المعاكسات و السجائر الفرط و ازدحام العربات. قالت لي فجأة:

"أتذكر عم عباس؟!".

"بالطبع".

"كان رجلا طيبا جدًا".

رحمك الله يا عم عباس.

....................................

المقتطف من: اليوم الثاني و العشرون. رواية.

1 comment:

مصطفى محمد said...

أكتر حاجة عجبتني في الرواية التفاصيل الصغيرة لفرعون و الست الكبيرة كده يعني .. المنمنمات الحميمة