designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Saturday, April 30, 2016

سيجارة في وجه دبابة


جلس معي، وطفق يحكي:
كان داخلا لمتجر ما، ومعه سيجارته المشعلة. واجهه رجل ملتح ذو ابتسامة عريضة، وقال له:
- من فضلك اطفئ السجارة يا أخي 
نظر الشاب حوله ثم قال:
- ولكنني لا أرى يافطة "ممنوع التدخين"
أجابه الشيخ بذات الابتسامة:
- لقد طلبت هذا من الزبائن حولك واستجابوا
نظر الشاب حوله، بالفعل لم يجد أحدًا يدخن السجائر. لم يجعله هذا يتراجع، سأل:
- ومن حضرتك؟
- أنا أخوك في الله
- أقصد هل حضرتك صاحب المتجر؟
- لا.. أنا في الحقيقة أدعو لما فيه خيز السبيل
وبالطبع ناله من تقريع الشاب ما ناله، والذي أكمل تدخين سيجارته بهدوء، وبعد دقائق قليلة، كان من أجبروا على إطفاء سجائرهم يدخنون مرة أخرى.
كان هذا الشاب هو أحمد ناجي، الروائي الذي حُكم بسنتين سجنًا، من أجل كتابة رواية، رواية مارس فيها ما مارسه في حكاية المتجر؛ تمرده. صحيح الأدب لا يهتم بالتمرد كمنزلة أولى،  ولكنه يهتم أكثر بالخيال، وهكذا مزج أحمد تمرده بخياله، في سبيكة تخللتها الموهبة.
ولكننا هنا أيضا نتكلم عن الواقع: ليست هذه حكاية في مناقب التدخين، ولا هي حكاية لجذبك إليه، بل حكاية عن سلوك فردي، حكاية خلاص فردي، كانت أملنا جميعًا حين نزلنا في ذلك اليوم البعيد القريب، مطالبين بأن نكون أحرارا، أن نكون سادة أنفسنا، ألا نخاف من بطش سلطة، سواء سياسية أو دينية. صحيح أن في الأمر قدر من التبسيط لو اعتبرنا ما حدث رمزًآ وعلمًا بعدما ودعنا الرموز والأمثال، وصحيح أن الأمر سيكون سخيفًا لو تحدثنا بطريقة "لو فعل كل منا هذا لكان…". هي حكاية. وأجمل منها أنها حكاية حياة، حياة ممكنة، وقريبة.
رجع أحمد إلى ما ظنه محاكمة، فوجدها كمينًا. رجع بعدما كان في وسعه أن يبقى حيث كان، في إيطاليا، التي كان فيها لزيارة قصيرة، ولكنه فضل الرجوع. كان أحمد، كما عهدته دومًا شديد الاستهانة بحكايات البطولة، ومثلي كان ينفر من الصراخ ونفر العروق، ولكنني كنت أشك، أيضا، أن تحت مثل هذا المظهر المستهين بكل شيء، تحت قصدية التهكم والسخرية، كانت تكمن روح لها سنتمنتاليتها الخاصة، التي تعمقت كلما كانت نبرة التهكم أعلى. أحيانا أظن ذلك، لِمَ رجع؟ قد يقول هو إنه لم يتوقع مثل هذا الحكم، قد يقول إن من حوله لم يتوقعوا ذلك، وهذا طبعًا صحيح، لكن الحقيقة تبقى: لقد رجع. كانت السلطة تتعقبه، وكان يمكنه الغياب فتقع عليه أقصى العقوبة—وللسخرية فقد نالها حضوريا—فتكون مبررا له للبقاء في أوروبا. 
ولكنه رجع
تحدثني نفسي أحيانًا، بلوم، أنني وراء ذلك: كنت أتكلم معه في يوم، عبر الفيسبوك، فأخبرني بإشاعة أمنية مغرضة، لم تنتشر، عن لجوئي لأوروبا، إيطاليا تحديدًا. قلت له يا بني لقد رأيتني على القهوة منذ أسبوعين، وهل تصدق أنني أفعل مثل هذا؟ قال لي إنه كان يتمنى هروبي من أرض اللعنات هنا. وعندما سمعت عن خبر تعقبه قضائيًا على روياته، عبثت معه على صفحات الفيسبوك، متمنيًا له أطيب التمنيات في لجوئه السياسي المرتقب. دخل وعلق بعصبية لم أعهدها منه طوال سنوات معرفتنا الإحدى عشر تقريبا.
لقد تخيلت أن ناجي سيدخل ليهزل معي، لنسخر معا، ولكنني فوجئت بعصبيته. هنا فقط أدركت مدى الضغط الذي كان فيه.
هل كان مثل هذا الموقف سببا في رجوعه؟! لا أعلم، ولن أرجح كوني سببا، هذا أريح للضمير من ناحية، ومن ناحية أخرى، فأنا لست سبب كل شيء.
الحقيقة هي أنه رجع. كان لديه كل سبب لعدم العودة، ولن يلومه أحد، وسيكون متسقًا مع ذاته، ولكنه رجع.
سيخرج ناجي، سيخرج، أعلم. وأعلم أنه، غالبا، سيتحسس أي ربط ما بين كتابته وسلوكه ويناير، ولكنني سأدعه يقرأ هذا مرة أخرى؛ فسواء وافق أو لا، قصد ذلك أم جاء عفوا، فسلوك هذا الشاب في المتجر، لا يشبه من قريب أو من بعيد من يحتمون بدبابة في وجه الناس. لا يشبه من قريب أو من بعيد من يبحثون عن ولي أمر حريتهم، لا يشبه بأي حال من الأحوال هؤلاء "المتعقلون" الذين يدعوننا للهدوء لأنه لا بديل لنا. لا يشبه من بعيد هؤلاء الذين يؤثرون السلامة.
ستخرج يا ناجي، ستخرج، وحتى تخرج، أتوقع أن تمنح سجانيك أوقاتا تعيسة، كلما قدرت.
.....................................................
نشر هذا المقال في اذاعة هولندا الدولية- هنا صوتك في ٢٩ ابريل ٢٠١٦. للمقال الاصلي يرجي الضغط هنا

Friday, April 22, 2016

خالد على رئيسًا لمصر


ما فعله خالد علي في جمعة الأرض يجعلني أفكر: إذن يمكن لهذا السياسي الشاب أن يكون رئيس جمهورية يوما ما.
أراد السياسي حقن الدماء، وأرادت السلطة فض المظاهرة. التقت الإرادتين، وتناغمتا وأثمرتا عن موقف وسطي: فض التظاهرة ولكن بعدما أثبتت وجودها، اعتقال خمسة وعشرين شابًا ولكن لم يمت أحد. كان خالد يعبر أمامي مغادرا الجمع، متحملا شتائم من كل حدب وصوب، يلتفت لأحدهم ويقول بعصبية  "لا تزايد علي"!
نعم، غادر السياسي أرض المعركة بعدما حسب أرباحه، ولم يقعد البطل في وسط رفقائه الثوار. خالد ليس بطلًا، صحيح أن وجوده كان يحول بين الأمن والمتظاهرين، إصابة أو مقتل أو اعتقال خالد كانت ستصنع المانشيتات في مصر، وبالتالي في الخارج، وليس في مصلحة السلطة هذا وفرانسوا أولاند على الأبواب، ولكن ليس كل شيء بهذا الحسم، ماذا لو تكاثرت الجموع وقررت الاقتحام والمسير لميدان التحرير، ماذا لو قررت الاعتصام في بقعة حيوية ستضايق حتمًا مرور المدينة في أيام عمل جادة. كان من الممكن بالفعل أن يعتقل، أو يصاب، أو يموت خالد وبعض ممن معه، أو بعض كثير ممن معه.
كتب الصحافي المصري خالد البلشي أن سبب تحبيذهما خيار الرحيل، هو وخالد، أنه إن مات أحدهم، فسوف يجبن الناس عن النزول ثانية. حسنًا، بعض البراجماتيين قد يختلفون تمامًا مع هذه الرؤية، ولكن رايات الأخلاق سترفع: السياسيون الذين يتاجرون بدماء الشهداء، أو من ينتظرون دماء الشهداء. حسنًا، خالد سياسي هو الآخر، ولكنه سياسي حذق.
برز كمحام حقوقي، المدخل المعتاد لنجوم اليسار المصري، زاد من نشاطه بعد الثورة لحد ترشيح نفسه رئيسًا للجمهورية، وكان كاتب هذه السطور من منتخبيه المئة ألف. شارك في معارضة السلطة حتى انخرط في 30 يونيو، ولكنه سرعان ما استعاد راديكاليتيه في وجه الدولاتيين القدامى، وصارت سياسته، أو هي دبلوماسيته، التي اعتمدت على أمثلة خطابية، مثل الصياح بسقوط حكم العسكر في الأوبرا حينما كانوا يكرمون الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم. تضايق منه بعض أصدقائنا المشتركين، ثم نعتوه بما نعت هو بعض الناس في يوم جمعة الأرض: هذه مزايدة.
ولكن، من أكثر من المزايدين، الراديكاليين، من يستطيعون تسويق التنازلات الصعبة؟ أثبت الرجل، في هذه الجمعة، أنه رجل دولة يعتمد عليه، رجل منضبط، له تأثيره سواء في إذكاء المظاهرة أو في فضها. رجل انتهج الهدوء في مقابل الغضب، وانتقل بكل خفة ورشاقة من صياح ثوري إلى بيان إصلاحي. لم يخبط خالد رأسه في الحائط، أو هو لم يخاطر بفعلها. 
ووجدتني أفكر في أمثلة مثل ليخ فاونسا. لولا ديسيلفا. نعم. لم أكن متفاجئًا حين روج أحمد شفيق نفسه باعتباره لولا دي سيلفا: يبدو لي أحيانا وكأن الصراع ما بين أجنحة الدولة المصرية يمكن تلخيصه، بشكل أو بآخر، ما بين مؤيدي تجربة البرازيل، تلك الليبرالية المتوحشة التي قادها- أو موه عليه- اليساريون، وبين محبذي ليبرالية الصين ذات النهج الآسيوي، مثلما يصفونها في الغرب. 
دعني أقول لك إنني أظن، منذ كتبت هذه السطور إبان طلب السيسي تفويضه، أنني أراه كبينوشيه، بينوشيه سوف يفقد آخر مبررات وجوده مع تمرير قانون الخدمة المدنية، الذي سيفتح الطريق متسعًا للتخلص من خمسة ملايين مواطن مصري، ووراءهم 20 مليونًا آخرين تقريبا، ربما يبقى ليواجه التبعات الصعبة لهكذا قرار، أو لا، هي قدرته على المناورة وحيدًا هنا. وبالمضي قدمًا في هكذا تغير، فسوف تتوافر مصر كسله لعبيد الإمبراطورية الرومانية الجديدة، ربما تصبح الخمسون دولارًا مرتبًا يتقاتل الناس عليه، بعدما ماتت، ودفنت سنوات الميري.
 وعندما يهدأ كل شيء، ونعرف من الفائز بالكعكة، الجيش أو الكارتيلات الدولية، وبصرف النظر عن ناتج هذه المعركة، دعونا نفتح صفحة جديدة، صفحة نستمتع بها بـ”المعجزة المصرية” (على نمط المعجزة الشيلية)، وأرقام النمو الكبير،  وبالنظر في ناتج هذه المعركة: قد يكون القادم عسكريا، وقد يكون مدنيًا. 
وإن كان مدنيًا، من أفضل من مناضل ما يزال شابًا، سيكون خالد في الرابعة والخمسين تقريبا بعد عشر سنوات، مناضل قديم وشاب، هتف دائمًا بسقوط العسكر، وهتف دائمًا بحياة الشعب، والأهم: يمكنه أن يكون رجل دولة. طبعة ذكورية من ديلما روسيف، أو طبعة شابة من لولا ديسيلفا.
وعندما قرأت اليوم خبر لقائه بأولوند، بناءً على طلب هذا الأخير، قلت لنفسي: لِمَ لم أتعجب؟!
قد يكون خالد علي أوباما المصري، في أرض أدمنت أن تعطي مُلكها لأبعد من يتوقع الناس. قد تتعدي وعوده الحقائق أو قد تتعدى الفارق ما بين الرجاء والكذب، ولكن، قل لي بربك: من سوف يرفض انتخاب أوباما. من سوف يرفض الابتهاج الهستيري بأوباما.
قل لي بربك، مَن مِن السياسيين سيرفض أن يكون أوباما؟!
................................................................................
نشر هذا المقال في موقع إذاعة هولندا الدولية- هنا صوتك، في ٢٢ ابريل ٢٠١٦. يمكنك رؤية المقال الاصلي هنا

Saturday, April 16, 2016

كليم الله فرعون


وأخذ الرئيس، يقولون إنه رئيس، عبد الفتاح السيسي رئيس مصر، يقولون إنها مصر، يتحدث لدقائق طويلة، وحدث أن حاول أحدهم الحديث، لينتفض الرئيس الهصور "أنا ما اذنتش لحد يتكلم".
قالوا إنها جلسة للحوار الوطني مع ممثلين لـ”الرموز”، وبصرف النظر، أو في الحقيقة هو رصف للنظر، عن اعتراضنا على ذهنية مصطلح الرموز، فقد كانت الأسماء المدعوة تنتقل بنا من الذهنية إلى الذهان، لنكاد أن نتحول لـ”سيساويين” صغار، محدثين أنفسنا أن مثل هذه الأسماء ينبغي إسكاتها طبعًا، أو، من باب أولى، يجب منعها من التكاثر.
يبدو علينا أن نراجع أنفسنا، قبل قول حماقة كهذه، لأن هناك منا من يقولون، في كل مكان ممكن، إن الرجل قاتل، ولكن. لكن هذه قد يتبعها بعض الأشياء مثل أن الجزيرتين التي تخلت عنهما مصر للسعودية هما سعوديتان من الأساس، أو أن عدد المعتقلين مبالغ فيه، أو أن كل هذا العسف الذي ينزل بنا هو نتيجة ارتجالات فردية أو يمكن عزوه لمؤسسة بعينها، أو أن الرجل لم يعرف بقرار حبس الروائي المصري الشاب أحمد ناجي (والذي ذهب للمحاكمة فإذ به يذهب لكمين)، بالطبع غير درة التاج: "هم لا يعلمون ما يفعلون"، وغير ذلك من الأقاويل التي تفكك كل ما يمكن انتقاد الرجل به، ثم يقولون إنه قاتل، وإن جئت للحق، كما يقول المصريون، فقد كان يقتل أعداء الوطن المهددين لهويته وأمانه، وهي السياسة كما تعلم.
من الوارد جدا طبعًا أن تكون الأشياء أو بعضها هي غير مما تظهر عليه، كما أن المبالغة في تصوير الدولة كإله محيط عارف بكل شيء هي فكرة سخيفة بلا شك، ولكن، أرجو منك التركيز قليلًا:
نعم، من بيننا من يدعون أنه قاتل، ولكنه حقانيّ.
إذن لماذا نزعل من هؤلاء "الرموز"؟ قد يبدو الأمر، من وجهة نظر لا تتسم باللباقة، أن من حضروا هذا اللقاء يعلمون دورهم جيدًا جدًا، هم على وعي بدورهم: ممثلون "كومبارس" يمنحون "الرئيس" فرصة التكلم للجماهير الغفيرة، من باب أن هناك "حوارًا" وطنيًا يتم، وهي الصيغة الأليق من توجيه خطاب مباشر للشعب يحمل شبهة الإملاء والانفراد بالرأي والسلطوية- وهي ذات التهم التي رمي بها السيسي بعد قراره الصاعق في مسألة الجزيرتين، وهي على كل شيء ليست صحيحة: لقد استشار الاسرائيليين. إذن يمكننا أن نتخيل، على حق أظن، أن هذا الوغد، من طلب الحديث بلا مبرر، هو من لم يفهم دوره في جمع كهذا، وهو السبب في قول "الرئيس" الجملة التي أفسدت كل هذا الإخراج الديموقراطي: هو لم يأذن لأحد بالحديث. ثم قطع التليفزيون إرساله- يبدو أن أحدهم في ماسبيرو ما يزال يتمتع بالحياء.
لم يأذن لأحد. العبارة ليست فقط عجيبة، بل تحيلك دونما قصد لفرعون موسى، الذي كانت مشكلته أن سحرته قد آمنوا قبل أن يأذن لهم، في بلد هي الأولى- على عكس كل سياقات الأنبياء في الكتب المقدسة- التي يأتيها رسول لا يتوجه بالدعوة لأهلها، بل ليدعو بعض أهلها للخروج منها مباشرة. قبل 3 آلاف عام، تقريبا، يقولون إن هذه الحكاية قد حدثت، وبعد كل هذه السنين، يبرز لنا فرعون يدعي أنه موسى بنفسه: كليمًا وذا عزم.
انتهى إذن واحد من أرسخ الأمثال الشعبية المصرية: من تظنه موسى، يكون فرعون. لا، لقد وحدنا المناهج.
"وماذا يفعل الفرعون؟ يتخلى عن جزر. وما يقوله موسى؟ “سأدخل السوشال ميديا بكتيبتين” و”ل يتكلم أحدكم في هذه المواضيع ثانية”، أو “هناك من يصعدون للباصات من اجل نشر الاشاعات”، ثم “لقد ربتني والدتي على احترام الحقوق….”، أو يحادثنا ،كأننا زوجته السيدة الفاضلة انتصار. بالطبع هذا انجاز اننا فهمنا أكثر من جملة واحدة من جمله التي تلغز عن الفهم، عادة.
.مصر؟ هي جوثام سيتي، التي يحاولون حمايتها من الأشرار.
...................................................................
نشر هذا المقال في موقع هنا صوتك بتاريخ ١٥ ابريل ٢٠١٦، للمقال الاصلي يرجى الضغط هنا