designed by: M. Aladdin & H. Fathy

Wednesday, October 31, 2012

مصر هبة الجيش....



يبدو أن المؤسسة العسكرية لم تستوعب حتى الآن ما جرى في 25 يناير.

لقد التقى الجنرالات برجال الإعلام قبل أيام قليلة، ثم فوجئنا بثلاثة مقالات لصحفيين مشهورين تنذر بما اسماه أحدها "غضب الجيش". قد يتبادر إلى الذهن أن عبارة كهذه تعني غضب الجيش من الإرهابيين في سيناء، أو من إسرائيل التي تسرق غازنا الطبيعي من البحر، ولكن الحقيقة هي أن المؤسسة العسكرية غاضبة من رئيسها الأعلى. ولِمَ الغضب؟ هل من قرارات تنظيمية لم يستشر فيها قادة الجيش؟ أم من أمر استراتيجي في إدارة معركة؟ أم ماذا؟ الحقيقة أيضا، كما أكدت المقالات، أن الجيش غاضب من احتمال التحقيق مع المشير طنطاوي (متقاعد) والفريق سامي عنان (متقاعد)، وبالطبع لن يسكت الجيش إن قررت السلطات القضائية في بلدنا العامر توجيه الاتهام لهما في حوادث كثيرة ومآسي عديدة منها ماسبيرو والعباسية- وللحق قرار الاتهام لا يجب أن يقتصر على طنطاوي وعنان.

وهنا يقع العجب، فمن الواضح أن الجنرالات-وجوقتهم الإعلامية حفظها الله-ما يزالوا يتخيلوا أن مصر هبة الجيش، أو انه جيش قد انبثقت عنه دولة، وتصوروا أن مجرد ارتدائهم لزى عسكري يشرفون بتاريخه المجيد في أكتوبر 73 يبرر لهم الانقضاض، وليس مجرد الاعتراض، على أعلى سلطة في هذه البلاد، واهم شرعية في هذه البلاد حتى تاريخ كتابة هذه السطور. هذه الشرعية التي لا يعنينا في هذه المسألة كونها من المعسكر الإسلامي أو العلماني، ولكنها شرعية الانتخاب الحر المباشر التي تجُب ما عداها. نعم، خلافاتنا مع الرئيس وجماعته قد تصل إلى حد الخصومة، ولكنها أبدًا لن تبرر تمردًا عسكريًا على رئيس منتخب.

نسى الجنرالات أنهم مواطنون مصريون، ولسنا نحن المواطنين العسكريين، والمواطن المصري يخضع لأحكام القانون المصري والقضاء المصري بدرجاته وأنواعه، وان قرار تحويل العسكريين-حتى من في الخدمة منهم- إلى المحاكمة هو قرار لا يخضع، ولا يجب أبدا أن يخضع، للمؤسسة العسكرية. وقبل كل شيء: لا يعنينا تهدئة الرئيس للجيش وتأكيده على احترامه لطنطاوي وعنان. هناك شهداء سالت دمائهم على الإسفلت، ونحن وأهاليهم نتوقع إن يحال مرتكبي هذا القتل إلى محاكمة عادلة. يجب أن نحاسب نحن هؤلاء الجنرالات وهؤلاء الضباط الذين وضعوا سمعة الجيش المصري-جيشنا وجيش دولتنا- في الطين، يجب أن نحاكم كل من أهان وابتذل وشوه شرف الزى العسكري بينما هو يأمر بسحل الفتيات وتعريتهن، وصعق الشبان وتعذيبهم، في سلوك ندر حتى بين صفوف جيش الدفاع الإسرائيلي ذاته، للأسف.

لقد قامت هذه الثورة من اجل بناء وطن جديد، ودولة جديدة، تتحدد فيها السلطات واختصاصاتها مثلما يحدث في الدول الديمقراطية الحديثة، لا ما أوردته إحدى المقالات سابقة الذكر عن أن الجيش لم يتحدى قرار رئيس الجمهورية بإحالة المشير طنطاوي للاستيداع لأن "طنطاوي لم يأمره بذلك". يجب على من سرب مثل هذا "الخبر"، ومن كتبه، أن يشعر بالخجل من نفسه: الجيش مثله مثل البوليس يخضع تماما للسلطة التنفيذية ورئيسها الذي هو رئيس الجيش الأعلى، وان هذه الحكاية وإن صحت فهي تعبر عن نفسية وسلوك القبائل وليس الجيوش.

ولكن يبدو أن مؤسستنا العسكرية مصرة على احتكار 40% من اقتصادنا طبقًا لبعض التقديرات، ومصرة على سرية ميزانيتها، ومصرة على أن ذاتها مصونة ولا تمس، ومصرة على أنها عصب الأمة ومركز السلطات، ومصرة على أن تعامل نفسها باعتبارها فوق الدولة وفوق القانون. حسناً، يجب على الجنرالات أن يتحسسوا رؤوسهم، وأنا واثق أنهم لن يجدوا ريشة هنا أو هناك.

والحقيقة أن مثل هذا السلوك الرافض تمامًًا لتقبل حقائق الواقع يوجب علينا أن نُعدل فورا بعض من أوضاع الجيش في الدستور: يجب علينا إلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة واعتبار رئيس أركانها قائدها الاسمي وليس مجرد الفعلي، بينما يتولى أمور المؤسسة العسكرية السياسية مدني تختاره السلطة التنفيذية ويصادق على هذا البرلمان. أن فصل السياسة عن الجيش والجيش عن السياسة كان مفتاح نصرنا الوحيد في القرن العشرين، وتفرغ الجيش لمهمته العسكرية المقدسة في حماية ارض الوطن ومواطنيه بدلا من إرهاب الدولة ومؤسساتها هو مفتاح عبورنا للقرن الواحد والعشرين.

نعم، غضب الجيش قد يكون قاسيا، ولكنه لا يقارن أبدًا بغضب الشعب.

Wednesday, October 17, 2012

Muhammad Aladdin in Russian!

My story, "The Voice", in the Egypt edition of Moskovskij Komsomolets, translated by Sarali Gintsburg

وطن لا تحكمه الجثث

 

 

في الخامس والعشرين من يناير حدث شيء لم يتوقعه أحد تقريباً.

حوالي 30 الفًا من العلمانيين إجمالاً اجتمعوا في ميدان التحرير، في البداية، عبر موقع مجموعة “كلنا خالد سعيد” على “الفيسبوك” وكان الهدف هو الاعتراض على سياسات الشرطة والاعتراض على التعذيب، ولكن في الميدان- وعلى عكس الكذبة الشائعة- كان السقف هو “الشعب يريد إسقاط النظام”. لا يمكنني أن أنسى تلك اللحظة التي اعتلى فيها شخص ما لا اعرفه عامود إضاءة بجوار صينية الميدان-الذي أطلق عليها البعض تندرا اسم “الكعكة الحجرية”- ليرفع يده بمايكروفون ليردد “إذاعة الثورة”. نظرت وقتها لزميّلي العزيزين، الروائي نائل الطوخي والناقد فادي عوض، وابتسمنا.

وحينما أتى ظهر الثامن والعشرين من يناير، كانت هناك الملايين في الشوارع، هذه اللحظة التي تنظر فيها إلى الوراء، في شارع التحرير الطويل، لتجد أن مدى نظرك لا يصل لنهاية الحشود التي تتدفق إلى الشارع. لقد انتهى مبارك. نقطة.
هذا ما يمكنك الإحساس به ساعتها، خاصة مع التنويه الغامض في المساء إن فتحي سرور سوف يلقي كلمة إلى الأمة، وهذا لكل من قرأ الدستور المصري يعني إن الرئيس قد استقال فعلا، ثم حدث شيء ما، ليطل الوجه العتيق ذا الشفتين المتدليتين ليعلن كلمات تعني أن الرجل قد قرر المراهنة على مصير مظاهرات 1977. على العموم جرى ما جرى، وها نحن ذا الآن في عهد الرئيس محمد مرسي، ولكن، هل أمل احد من الشباب الذين كنت منهم تلك النتيجة؟

أظن أنه لا، ولكن، ومن ناحية أخرى، هل كان هؤلاء الشباب يراهنون على سيادة اللواء عمر سليمان؟ هل كانوا يتدلهون حبًا في سيادة الفريق سامي عنان؟ هل كانوا يريدون ان ينحسر السباق الرئاسي ما بين نظام قديم يحاول اغواءنا على طريقة ذئب ذات الرداء الاحمر، وما بين الاخوان المسلمين؟

أظن، مرة أخرى، انه لا.

بدأت بعض المجادلات على استحياء في البداية-ثم اكتسبت مزيد من الجرأة فيما بعد- أن محاولات الجيل السابق وجهود حركة كفاية (التي شرفت بتوقيع بيانها التأسيسي في “أدباء وفنانين من اجل التغيير”، كانت سببا مباشرا في هذه الثورة الهادرة التي تجاوزت احتقار الشعب لذاته وانبطاحه أمام بلطجة الدولة.

بالطبع يبدو هذا صحيحا من باب المبدأ، بالضبط حين تنسب لثورة 1919-حقا وفعلا-نصيب في جلاء الانجليز في العام 1956. ولكن، وبنظرة سريعة لما كان يجري في الشهور الأخيرة فيما قبل يناير من العام الحادي عشر بعد الألفين سنتذكر الآتي: تم تفجير جريدة الدستور من الداخل عن طريق البيع، ونشرت الأهرام في صورة لن أنساها مؤتمر صحفي لحركة كفاية يتكلم فيها منسقها العام عبد الحليم قنديل لعشرات من الكراسي الخشبية الشاغرة، وخطب مبارك في مجلس شعبه مؤكدًا انه باق في السلطة “حتى آخر نفس يتردد”، وسرت شائعات عن آن مبارك قد ضمن سكوت الجيش عن طريق زيادة الامتيازات الاقتصادية للمؤسسة وللقادة بشكل خاص، ثم حدث تفجير كنيسة القديسين الذي قال لي صديق عزيز-وهو يستقبلني من سفر قصير- أن هناك من يقول أن المسيحيين أنفسهم هم من ارتكبوها.

بدت الصورة مشوهة، نظام مبارك ومعارضته قد اهتراءا معًا. الناس محبطون، المثقفون محبطون، ورئيسة القسم الذي تخرجت فيه ترجوني ألا اقرأ خطابا مليئًا بالإحباط في إطار تكريمي على هامش تخرج دفعة جديدة من كليتي. لقد ساد شعور بأن كل المعادلات القديمة إلى زوال، وان الموات ينتشر في كل شيء من حولنا.

وعندما انفجرت الثورة، ساد شعور عند جمع الناس، جموع الشباب بالأخص، أن موات هذه المعادلات القديمة يعني نشوء معادلات جديدة، علاقات جديدة واطر جديدة للتفكير. لم يتطرق لخيال هذه الجموع الثائرة ما داخل بعض من “الثوريين”، لا سيما بعض الأشخاص من “المعارضة القديمة”، أن مساندة “عنصر إصلاحي” من النظام- تحديدا اللواء عمر سليمان- هو الحل لتجاوز خازوق حكم الإخوان، من اجل الاستمتاع بخازوق المخابرات. (شادي الغزالي حرب كان هو المنسق العام لحملة عمر سليمان رئيسا، والتي صودر إعلانها الشهير في جريدة المصري اليوم في نوفمبر 2010.

الأقرب للحقيقة أن هؤلاء الشباب، هذا الشعب الثائر، هو من منح قبلة الحياة لمعارضة تآكلت وتهدمت، هو من أرجعها لمقاعدها بعدما كاد نظام مبارك القديم وتطويره الجديد بقيادة مبارك الابن-الرئيس الموازي كما تندروا-أن يدخلهم التاريخ كمتفرجين طيبين، قاموا بما قدروا عليه “ولكن أنت تعلم الظروف”، ويمكننا أن نذكرهم بالتقدير والاحترام كمناضلين سابقين.

ولكن، وبعيدا عن أوهام المعارضة القديمة، ما الذي كانت تريده الثورة فعلا؟؟

في نظري، وادعي أنه في نظر بعض ممن يقرأون هذه الكلمات، فأن هدف الثورة المبدئي الذي يمكن جمع مختلف الأطياف حوله هو إيقاف الفساد وإنهاء حكم مبارك، ثم يأتي الهدف الأكبر والأسمى وهو إطلاق الديمقراطية الحقيقية في المجتمع المصري، ولا اقصد هنا بصفة “الحقيقية” أي أوهام مثالية، اقصد هنا أن ينشئ نظام ديمقراطي يحمي التداول ويؤكد حق وحرية الاقتراع ويضمن حرية الإعلام، نظام فعلي نتحمل خيره وشره لأن التجربة-هل أقول تجارب؟- أثبتت إن شره لا يقارن بشر الديكتاتورية والاستعباد وحكم “المستنيرين”.

لا تنازعني أيه أوهام حول أن هذه الثورة قام بها شعب يحس بأن هناك من يسرقه ويأكل قوته، قام بها شباب أحس عن حق أن هناك من يقصقص أحلامه ويبعث له برسالة أن يرضى بمكان المتدرب الشاب آو الموظف الواعد الصغير إلى أن يبلغ الخمسين-مثل الجيل الذي سبقه والذي سبقه- وهو مازال “برعما” يحلق في الفضاء.

هؤلاء الناس راهنوا على كل شيء جديد، فاجئوا الدنيا وفاجئوا أنفسهم عندما قفزوا إلى الفراغ، والذي لم يكن فراغًا بالضبط: كنا نشهد في الشهور القليلة التي أعقبت الثورة مجموعات واسعة من الانشقاقات في كل جمعية سياسية نعرفها، حتى الإخوان المسلمين. بدا وكأن هناك شباب يسعون لتغيير كل الإشكال الجامدة والأفكار الجامدة. شباب حوّل جماعة مثل الإخوان بدأت شمولية ورافضة للأحزاب إلى جماعة لها حزب يرحب بالأحزاب الجديدة في إطار ديمقراطي، شباب اقتنعوا بتجربة إردوغان في تركيا حيث يمكن للحاكم أن يكون إسلاميا في بلد علماني، إلى شباب من تيار فاجئ الكثيرين بشعبيته واقصد التيار السلفي، صاروا لا يؤمنون بالكلاشنكوف ولا تفجير محلات الفيديو بل بعملية ديمقراطية لهم الحق في خوض غمارها،إلى شباب آخر آمن تماما بأن علمانيته لا تُعنى بهدم الخطاب الديني بقدر ما هي نقد للخطاب الديني، علمانية تعني أن يعيش الإنسان كما يحب أن يعيش دونما سلطان أو مراجعة من احد، وهذا يعني دولة لا تتورط في عداء فكرة بعينها، بل تكفل حرية المؤمن والملحد والغنوصي والصوفي على حد سواء.

بدا الأمر عظيما وموحيا قبل أن تطاردنا عفاريت الماضي- في غطاء جوي بديع من إشاعات وأعمال تخريب وتضارب في الإعلام وإحساس بعدم الأمان- من مجلس عسكري وبعض العلمانيين على الطريقة الفرنسية والتركية القديمة حين أثاروا زوبعة القرضاوي وخطبته للتحرير وكأنها تكرار للخميني وخطبته في إيران، طاردنا هيكل وكلامه في الأهرام عن انه “لا يجد غضاضة” في تولي المشير طنطاوي الحكم. طاردنا بعض الإسلاميين على الطريقة القطبية وكلام عجيب عن وجوب زواج الاخوانية التي هي صالحة عوضا عن الليبرالية التي “تصيع في الشوارع والمقاهي”.

لم يقتصر الأمر على جيل دون جيل، بل قرأت لكاتب شاب مشهور وثوري دفاعا حميمًا عن بقاء مباحث أمن الدولة بحجة التخوف من تحولها لعصابات منظمة، وهو موقف ضمه هو وخيرت الشاطر وحسن مالك، ثم قرأت مقالا لكاتب شاب مشهور آخر-كان يبدو مترددا في البداية ثم انحاز للثورة- ينادي فيها بعودة وزارة الإعلام (والتي ألغاها احمد شفيق في وزارته الثانية بعد الثورة) لأن لابد للثورة من “إعلام يحميها”.

كل هذه المطاردات تجري أمام شعب ما يزال خيال “الظاهر بيبرس” موجود في طرقات ما داخل عقله، وينتظر فقط مثل هذه العفاريت لينقض ثانية على كل شيء و “احنا ما بنجيش غير بالكرباج يا باشا”. لقد وصل الأمر بروائي شاب زميل ان يقطع لي أن الجيش “لن يقبل أبدًا” برئيس غير عسكري في غمرة الثورة، راهنته على العكس وآنا الآن راض بالنتيجة.

 ظنت هذه العفاريت، وتلامذتها من الأجيال الأحدث، إن هذه هي “ثورتها” وهي المدافعة عنها،بينما غاب عنها  أن تجربة عبد الناصر-إن تأملناها جيدًا- كانت التطبيق الحقيقي لايدولوجية الإخوان التاريخية العمدة في مجتمع يوحده تنظيم واحد ولكنه هذه المرة كان “الاتحاد القومي”-وهل كان هذا الاختيار الأولي للاسم اعتباطيا؟!- ثم “الاتحاد الاشتراكي”، أي أن الفروق في العمق الايدولوجي لكل منهما ليست بالكبيرة فعلا. لم تدرك هذه الأشباح العلمانية أو الدينية أن سقوط تجربة ناصر هو سقوط لطريقة تفكير كبرى في العقلية المصرية والعالمية تفترض التوحد القسري تحت “قيادة مستنيرة” من أجل “مجتمع أفضل” أو مثلا التوحد القسري تحت “إمامة مُلهمة” من أجل “دولة الخلافة”. هذا السقوط اعقبه انسلاخ وصل لذروته في يوم الحادي عشر من فبراير، لحظة سقوط الزعيم التي فشلت في منعها كلمات هزلية لعمر سليمان عن “اعراف واخلاق المواطن المصري”. لقد تطورت الجماعة الثورية الفاعلة في الشعب عن تصور قديم مهترئ ومتهافت، لقد ودعت -ولو إلى حين- فكرة الظاهر بيبرس والمهدي المنتظر.

وهكذا قادتنا هذه العفاريت لنتيجة مؤلمة كانت الاستقطاب الشديد: كل شاب تحدى قوانين جماعته المتقادمة احس بالخديعة، وبأنه “لن يرضى عنك اليهود والنصارى إلا إن اتبعت ملتهم”. عادوا وانتكسوا مثلما انتكسنا جميعا، من شعب احس في لحظة أنه قادر على كل شيء إلى شعب يخاف من “ديكتاتورية الاسلام السياسي”.

تحطمت في شهور قليلة ارهاصات اتفاق تجاوز الرومانسيات إلى إطار جديد لمجتمع جديد، مجتمع يعلم أن هناك طريق صعب قد لا يطيقه البعض ولكن هناك شاطئ سنصل إليه في نهاية طريق من الالام، غادرتنا لحظات 25 يناير الاستثنائية إلى حقيقة مجتمع مشتت ما تزال تتناهبه عداوات الموتى.

لا ضير من اختلافات حادة، بل لا ضير من حرب ضروس تكون في صلب آلام الرحلة الجديدة كنتيجة طبيعية لا يمكن تفاديها في مجتمع يسعى لبناء نفسه من جديد، ولكن لابد لها وأن تقوم على رؤى حقيقية، لا مجرد اوهام تحولها عقول ضامرة إلى حقيقة نتعذب بها كبطل اغريقي. لا يجوز ان نختلف لأن “كل الاسلاميين يؤيدون زواج ابنة الاربعة عشر عامًًا” ولأن “كل العلمانيين يريدون اقصاء الاخر وهدم معتقداتهم”. لا يجوز أن نشتري الخدعة التي تقول أن الاسلام هو اسلام الوهابيين ولا غيره كما لا يجوز أن نقول أن العلمانية هي علمانية الجنرالات الاتراك ولا غيرها. لا يجوز لنا ابدًا-واقصد المفكرين والمثقفين منا- أن نصدق أن أي فكرة هي ثابتة ثبوت فكرة الإله في هذه الحياة.

لا يجوز ان نترك “معلمي الماضي” يعظوننا، هؤلاء الذين اوصلونا إلى كل هذا الخراء، هؤلاء الذين لو كانت منابع حكمتهم وقدرتهم عظيمة إلى هذا الحد لكانوا قد نفعوا انفسهم. هؤلاء من ظلوا في مكانهم الدافئ الآمن ينادون بالديموقراطية ويتباكون على الحرية ويتحاججون بالقمع والاضطهاد، هؤلاء من شهدوا تصاعد التطرف الديني في كل عام جديد ليكتفوا بتقليب اليدين والتحسر على قلة الحيلة. هي لم تكن غلطة جيل دون جيل، فبداية التاريخ المنظور للتواطؤ في النخبة المصرية هي الصمت على محاكمة الشيخ علي عبد الرازق وطرده من وظيفته، ثم الصمت على نظام شمولي مثل عبد الناصر، بل ووصل الأمر بطه حسين انه من صك مصطلح “الثورة” على ما حدث في 52 (وفعلها بشكل يمكن تبريره طبعا)، ولو دخلنا لباب الشائعات والاقاويل فستجد حكاية عن عبد الرزاق السنهوري-الفقيه الدستوري الاعظم في التاريخ المصري والذي نتفاخر بكونه واضع العديد من الدساتير العربية وخلافه-وهي انه من نصح عبد الناصر بالتمسك بالسلطة: “حد يبقى معاه سلطة ويسيبها؟!”.

هم ذاتهم، سواء بشخوصهم أو بامتداد افكارهم، هم من قدمتهم الجرائد والمجلات فيما بعد الثورة على انهم “الحكمة اللازمة لتوجيه اندفاع الشباب”. وهؤلاء عينهم، سواء علمانيين أو اسلاميين، هم من يؤمنون بأن الشعوب هي مجرد كومبارس في بلاط الحاكم. هم من يؤكدون لنا اليوم نهاية التاريخ: لقد وصل الاخوان ويجب على كل فأر النفاذ بجلده.

خطورة هؤلاء انهم يعيدون انتاج القهر ويعيدون انتاج الماضي، وبعد سنين قليلة فسنجد انفسنا في مواجهة دولة الاخوان على طريقة البنا الفاشستية، ويجوز حتي دولة بن لادن وسيد قطب، مادام كبار معلمينا ومنظرينا قد سلموا الكروت مبكرا، فقط لأنهم وفي قرارة انفسهم يؤمنون بنظرية معلم الحارة وفتوة الحي مثلهم مثل غريمهم الايدولوجي والذي اسماه “المرشد”. يكفي فقط قراءة بعض المواقف عن تغيير المادة الثانية، لقد ادعى بعض كبار علمانيينا ومثقفينا أن هذه اشاعة وافتراء. “لم يطالب احد بتعديل هذه المادة” هكذا قالوا وقالوا حتى وصلنا لدرجة أن البعض سيسجد لله شكرا إن بقيت المادة كما هي بلا تعديل. لقد انبطحوا في لحظة مفصلية في عمر هذا المجتمع، لم يجادل احدهم بأن مصر، بلد الازهر وحاضنة مقابر الاولياء، لم تكن كافرة قبل تعديلات السادات في 1977 مثلا. لم يكلف احدهم خاطره، او دعنا نقول لم يكن بالشجاعة الكافية في تلك اللحظة الفريدة التي جسمتها وكثفتها الثورة،أن يسائل مجتمعه عن ماهية الشريعة وماهية الحياة. لقد وصل الأمر إلى ان تقف في ليلة من ليالي القاهرة لتقرأ الشعار الآتي: “مصر لا دينية ولا علمانية.. مصر دولة مدنية”، لتجد نفسك تضرب كفًا بكف.”مدنية يعني ايه يعني؟!”.

وبالضبط كما جبنوا حتى الآن عن مسائلة الفاظ مثل “الثوابت” و”الرموز” فقد تفرغوا لتلقين المجتمع علاقات قديمة لمؤامرات قديمة فقد تخصص الفرع العلماني في مقولات مثل “المجلس العسكري الذي يتآمر مع الاخوان والامريكان” – “مؤامرات” وليس “تفاهمات”- بدلا من التحالف والتنسيق في انتخابات مجلس الشعب والرئاسة أو حتى الاتفاق الصلب على فكرة مجلس رئاسي مدني يدير البلاد عوضا عن عصبة العسكر، بينما اختص الفرع الاسلامي بمقولات مثل “مؤامرة امريكا التي زورت اوراق جنسية الحاجة أم حازم”. هي المؤامرة في ارض المؤامرات. وهكذا فطبيعي جدا ان نجد عدد من يصدق هذا”المؤامرات” على اختلاف اشكالها يتسع يوما بعد يوم، بالضبط مثلما بدأ البعض القليل يصدق مافيا شفيق وعمر سليمان في تزويرها التاريخ عيانا بيانا إلى درجة الادعاء بأن الاخوان هم من هاجموا الاقسام وحتى انهم من دبروا موقعة الجمل.

المؤسف ان من احترفوا خطاب الضحية المبني على كل هذه الكراكيب الفكرية يعودون إلينا بأن امريكا هي من اختارت مرسي: بعد اقل من سنتين من اذعان الولايات المتحدة لملايين المصريين الذين خرجوا للشوارع رفضا لحليفها الميت اكلينيكيا نجد من يضع الورق كله في يدها، نجد من يشك في قرارة نفسه أن الثورة هي “مؤامرة امريكية”، وكأنه وبدون امريكان فأن الامور كانت عظيمة-واشك في القوى العقلية لمن يقول ذلك، أو أنه بدون امريكان فسيبقى هذا الشعب اسير الخراء للأبد-وهذا رأي اشك تماما أن يقصده اصحاب نظرية المؤامرة.

الاسوأ هو انني كنت اناقش زميل كاتب، وهو شاب للأسف، ووجدته يسألني بجدية عن موقفي من الدستور القادم، ثم سألني بنبرة محقق محترف “ما شعورك حين تجد أن السلفيين سيقولون لا في الاستفتاء؟ اترضى أن تشاطرهم ذات الموقف؟”. قد يقصد هنا أن “لا” ستصب في مصلحة دستور أكثر دينية، ولكنني وجدت نفسي مندهشا: لقد كان ذات الشخص يطالب بمحاكمة العلمانيين ممن انحازوا للديموقراطية لأن الاخوان هم من سيستفيدون منها، والآن هو يلمح لـ”نعم” من اجل تجنب الاسوأ؟ راحت افكاري إلى “أنا أو الفوضى”، وانا اعرف جيدا انني قد اخترت المخاطرة، وسأختارها ثانية. فات على زميلي العزيز الذي انتقد عن حق ان ينصب اناس مثل جابر عصفور ومكرم محمد أحمد انفسهم كقادة للحرية والديموقراطية والعلمانية أن موقفه هذا لا يفرق عن سالفي الذكر شيئًا.

أما المفزع فهو انني عندما رأيت كليب على الفيس بوك تحت عنوان “حقيقة ما يجري”- او ما شابه- كان عبارة عن مونولوج للشاب الثوري رشدي اباظة من فيلم ما، معلقًا على حريق القاهرة في 1951-أي ما يزيد عن نصف قرن-بنفس العبارات والافكار التي يطرحها الاعلام والنخبة ثم ليتلقفها شخص-قد يكون شابا- ليضعها على اليوتيوب، ليتشاركها شباب اخر على الفيس بوك الآن. هذا هو التجمد، والتجمد يعني التخلف، للأسف.

اعلم يقينا أن الثورة لم تقم من اجل هؤلاء، ولم تكن من اجل هؤلاء.

 

 

 

من أجل هذا اظن ان الديموقراطية هي الحل، هي الوسيلة التي تجعل الناس يشعرون بأنهم من يختارون مصيرهم،هم ليسوا نسخ مصغرة من الله حيث يمكنهم تحديد كل خطوة في الطريق، ولكنهم من يختارون هذا الطريق، وعلى امتداد الامتار والكيلوميترات توجد محطات يمكنهم فيها التقييم والتعديل وحتى تغيير المسار. الديموقراطية هي من تجعل الاخوان والسلفيين والعلمانيين على اختلاف الوانهم يطورون تنظيماتهم وادائهم بل وافكارهم. لقد قامت الثورة من اجل مواطن يحيا حياة كريمة حرة ليختار ما يشاء: فليجعلها طالبان إن قدر، ولكن عليه أن يتحمل الجزاء، لا أن يتطوع احدهم ويقول له “لا لا! هي غلطة امريكا وليست غلطتك!”.

مرة أخرى الطريق لدولة ديموقراطية علمانية حديثة طويل وملئ بالآلام، ما تزال هناك اجهزة امنية لم يطلها تطهير، ما تزال هناك رتب عسكرية في كل مكان من اماكن الادارات المحلية المدنية تقريبا، ما تزال المؤسسة العسكرية مسيطرة على قسم لا يستهان به من الاقتصاد القومي، ولكن اوروبا دفعت نحو 50 مليونًا من البشر حتى تكون اوروبا التي نعرفها اليوم. حتى اوروبا، والانسان عامة، ما تزال في مشكلة ازلية: ما هو الصحيح من الخاطئ في حرية التعبير (إن جاز اساسا أن نقول صحيح وخاطئ وهذا مشكلة أخرى)؟ هل فرنسا على حق حين تعاقب من ينقد الهولوكوست بحكم القانون؟ أم  امريكا على حق حين تطلب من جوجل رفع فيلم اساء لمشاعر المسلمين؟ ما هي الحدود ما بين الأمن القومي والحريات؟ ماهي الهوية بالضبط وما مدى منطقيتها في حد ذاتها؟

هناك ثمن لابد وأن ندفعه في طريق يعد بالافضل إن امتلكنا الشجاعة لارتياده، ولكننا نعرف ان رفاق لنا في كل العالم ارتادوه، رفاق لنا في نفس الوطن ارتادوه، كسبوا معارك وخسروا اخرى. نعم ربما نعرف محاكم التفتيش وربما فقد المخلصين منا رؤوسهم في الطريق، ولكن كلما كنا اكثر شجاعة واكثر تنظيما كلما قللنا الضحايا والخسائر قدر ما استطعنا.

ربما أنا مأزوم بالأمل، ولكن صديقي الروائي المقيم في ألمانيا حامد عبد الصمد حكى لي حكاية سمعها وهو في القاهرة يحاول فهم ما حدث: شابان تربيا معا، اصدقاء منذ طفولتهما، احدهما من الاخوان والاخر من اليسار، وفي اثناء مشاحنات التحرير واشتباكاتها كان كل منهم يتصل بالاخر ويسأل سؤال واحد: أأنت عند المكان الفلاني؟ وعندما يجيب الصديق بلا، لا يجد السائل غضاضة في أن يلقي بالحجارة والزجاجات إلى المكان الذي لا يقف فيه صديقه. لا اقصد أن نلقي على بعضنا البعض الزجاجات والحجارة، اقصد انه رغم الحرب، ورغم الكراهية التي يبثها الشيوخ والجنرالات والدكاترة الافاضل، توجد صداقة وتوجد حياة.

لا يسعنا ان نختبئ وراء افكار قديمة واشباح قديمة: لدينا فرصة حقيقية أن يصير لنا وطن لا تحكمه الجثث.